مأساة عند المدافن
كان لا بد من إرجاء مغامرات توم القرصان في أعالي البحار لبعض الوقت؛ إذ كان مضطرًا إلى أن يلتقي هاك فين في هذه الليلة. وبعد حلول الظلام، بذل توم قصارى جهده كي يظل متيقظًا في فراشه حتى لا يوقظ أخاه سيد ويثير شكوكه. لذا ظل مفتحًا عينيه يحدق في النافذة المظلمة. كانت الليلة هادئة، إلا ما تنامى إلى سمعه من صرير الألواح الخشبية في السقف المائل إلى صرير صراصير الليل بالخارج. وفجأة سمع صوت نباح كلب على مسافة بعيدة، أعقبه صوت ارتطام عالٍ لانكسار زجاج في مخزن حطب العمة بولي، وعندئذ سمع صوتًا عاليًا يصرخ: «ابتعد أيها الوغد!»
بعد دقيقة كان توم قد ارتدى ملابسه واتجه نحو النافذة التي نزل منها إلى الحديقة حيث كان هاك فين بانتظاره. وبعد مرور نصف ساعة، كان الصبيَّان يشقان طريقهما عبر الأعشاب الطويلة الموجودة عند المدافن.
كانت المدافن تقع على تل ومحاطة بسور قديم متهدم يتجه في أجزاء منه نحو الداخل وفي أجزاء أخرى إلى الخارج، وفي كل الاتجاهات ما عدا الاتجاه المستقيم. وكانت الأعشاب الضارية والميتة تكسو جميع القبور. حفَّت ريح خافتة وسط أغصان الأشجار؛ وكان توم على يقين من أن هذا إنما هو صوت الأموات المتبرمين بإزعاجهم. خطا الصبيَّان بحذر نحو كومة الحجارة الجديدة التي تميز قبر هوس ويليامز، وكانت هناك ثلاث أشجار دردار ضخمة متشابكة بالقرب من القبر، فوقف الصبيَّان وراءها.
لم يحدث شيء لوقت طويل، ولمّا طال الصمت، أخذ الخوف يتملك من توم أكثر فأكثر.
قال هاك فين: «إن هذا الهدوء لمريع يا توم!»
– «بل إنه مريع جدًّا!»
ساد الصمت الطويل، وأخيرًا همس توم مرة أخرى: «هل تظن أن هوس ويليامز يستطيع أن يسمعنا ونحن نتحدث؟»
أجاب هاك: «بالطبع يستطيع، أو على الأقل روحه تستطيع.»
انزوى الحوار مرة أخرى؛ إذ لم يجرؤ توم على التكلم؛ فقد كان يتساءل: «هل يستطيع شبح هوس ويليامز أن يسمعهما؟ وهل يمكن أن يسيء الظن بهما؟» وفجأة وثب توم مذعورًا ممسكًا بذراع هاك، وقال: «أنصت!»
– «ما الأمر يا توم؟»
تشبث الصبيَّان أحدهما بالآخر، وقلباهما يخفقان على نحو عنيف.
– «أنصت! ها هو الصوت يعود مجددًا!»
– «إنهم قادمون يا توم، بالتأكيد الأرواح قادمة. ماذا نفعل؟»
– «لا أعرف، هل سيروننا؟»
– «بالطبع يا توم، إن بمقدورهم أن يروا في الظلام، تمامًا مثل القطط. ليتنا ما جئنا إلى هنا!»
– «لا تخف يا هاك؛ فإننا إذا تمكنَّا من أن نظل في مكاننا بلا حراك تمامًا، فربما لا يلاحظوننا على الإطلاق.»
جلس الصبيَّان في صمت، وقلما تجرآ على أن يتنفسا. وصل ثلاثة أشخاص غريبو المظهر، أحدهم يتدلى من يده قنديل معدني عتيق الطراز وكانت تنعكس منه البقع الضوئية على الأرض.
همس هاك: «لا بد من أن هذه هي الأرواح الشريرة. لقد هلكنا لا محالة!»
أخذ توم يصلي متضرعًا إلى ربه: «اللهم احفظ روحي …»
– «أنصت!»
– «ما الأمر يا هاك؟»
– «هذا صوت ماف بوتر؛ إنهم بشر!»
– «غير معقول!»
– «لكن هذه هي الحقيقة. ابق مكانك، إنه منهمك للغاية؛ فلن يلاحظنا.»
– «هاك، إن هناك صوتًا آخر من هذه الأصوات مألوف لدي، إنه صوت إنجون جو!»
التزم الصبيَّان الصمت مرة أخرى عندما بلغ الزائرون الغامضون القبر ووقفوا على بُعد أقدام معدودة من الأشجار التي يختبئ توم وهاك وراءها.
قال صاحب الصوت الثالث الذي كان ممسكًا بقنديله: «ها هي المقبرة.»، وتبين أنه الطبيب الشاب روبينسون.
وكان ماف بوتر وإنجون جو يجران عربة يد بها جاروفان وحبل. وبعد أن أنزلا حمولتهما، بدآ في فتح قبر هوس ويليامز ووضع الطبيب القنديل عند رأس القبر ثم اتكأ على إحدى أشجار الدردار قريبًا جدًّا من الصبيَّين، حتى إنهما كانا يستطيعان أن يلمساه.
قال الطبيب بصوت منخفض: «أسرِعا، فقد أوشك القمر على الظهور.»
تأفف الرجلان الآخران وواصلا الحفر واستمع توم وهاك إلى الصوت المزعج الصادر عن ارتطام الجاروفين بالتربة والحصى.
سأل توم هاك بصوت خافت جدًّا: «ماذا يفعلون؟»
رد هاك بصوت واهن مرتجف: «ينـ … ينبشون القبر. يستخدم الأطباء أحيانًا الجثث لإجراء التجارب عليها وأشياء من هذا القبيل، لكن لا يليق بهم أن يفعلوا هذا.»
أخيرًا سمع الصبيَّان صوتًا مختلفًا عندما ارتطم الجاروفان بالنعش الخشبي. وعندئذ استخدم ماف بوتر وإنجون جو الحبل لسحب النعش إلى أعلى، بينما كان الطبيب روبينسون جالسًا يراقب ما يحدث. رفع الرجلان الغطاء، وبكل وقاحة أمالا النعش وقلبا الجثة على الأرض. وفي تلك الأثناء كان القمر قد بدا في كبد السماء ظاهرًا بين السحاب، فألقى بضوئه على وجه هوس ويليامز الشاحب الذي فقد الحياة. وعندئذ رفعا ويليامز إلى عربة اليد وغطاه إنجون جو بلحاف، في حين ربط ماف بوتر الجثة بالحبل بإحكام ثم قطع الجزء الزائد من الحبل بسكِّينه.
قال إنجون جو: «انتهينا من الجزء الملعون من المهمة، والآن إذا أردت أن تنقل الجثة إلى أي مكان، فسوف يكلفك هذا خمسة دولارات أخرى.»
وثب الطبيب روبينسون على قدميه، وقال: «ما معنى هذا؟ لقد اتفقنا على أجر محدد وقد حصلتَ عليه مقدمًا!»
ردّ إنجون جو في تأفف، وهو يقترب من الطبيب: «ليس بيني وبينك أي اتفاق، فلطالما كرهتك؛ فمنذ خمس سنوات عرَّجتُ على مطبخ والدك أسأله شيئًا لآكله، فزج بي في السجن بتهمة التسول. أنسيتَ؟ أم خيل إليك أنني نسيتُ؟»
دنا إنجون أكثر فأكثر رافعًا قبضة يده في غضب في وجه روبينسون، إلا أن روبينسون لكمه على حين غرة بقوة طارحًا إياه أرضًا على ظهره.
صاح ماف بوتر غاضبًا بعد أن رمى بسكينه على الأرض: «إياك أن تضرب شريكي!»
عندئذ بدأ بوتر يتعارك مع الطبيب وفي خضم العراك نهض إنجون جو على قدميه والتقط سكين بوتر وزحف بحذر خلف الطبيب. وفجأة دفع الطبيب بوتر بعيدًا وانتزع لوحًا خشبيًّا ثقيلًا من قبر هوس ويليامز وسدد لبوتر ضربة قوية أردتْه أرضًا فاقدًا الوعي، وفي تلك اللحظة اغتنم إنجون جو الفرصة وطعن الطبيب في صدره بالسكين، وهو يقول: «إنجون جو يثأر لنفسه دائمًا!»
وعندئذ أخذ يفتش جثة الطبيب وسرق ما معه من محفظة وساعة يد ثم أخذ السكين الملطخة بالدماء ووضعها في يد ماف بوتر، وعندئذ جلس على النعش الفارغ وانتظر.
بعد وقت يسير تأوَّه ماف بوتر محكمًا قبضته على السكين واقشعرَّ بدن بوتر عندما وقعت عيناه على منظر نصل السكين في يده.
جلس بوتر ناظرًا إلى شريكه في ارتباك وحيرة، وقال: «ماذا حدث؟!»
أجاب إنجون جو: «يا لقذارة هذا الصنيع! لماذا فعلت هذا؟!»
– «أ … أ … أنا لم أفعل هذا يا جو.»
– «كفاك الآن، لن يمحو هذا الكلام ما اقترفتَه.»
ارتجف بوتر وازداد وجهه شحوبًا.
– «لا … لا يمكنني أن أتذكر أي شيء على الإطلاق فأنا أشعر بالدوخة. يا له من أمر مريع يا جو، مريع للغاية؛ لقد كان شابًّا يافعًا!»
قال إنجون جو في هدوء: «كنتما تتعاركان وضربك بهذا اللوح الخشبي؛ فأفقدك الوعي، وأنت باغتَّه وانتزعتَ هذه السكين وطعنتَه بها في الوقت الذي ضربك فيه هو أيضًا ثانية.»
قال ماف متأوِّهًا: «تلك الدوخة هي السبب، فأنا لم استخدم السلاح في حياتي قط!» وسقط ماف المسكين على ركبتيه، مشبكًا يديه متوسلًا إلى جو، وقال: «عدني بأنك لن تخبر أحدًا يا جو، أرجوك، أتوسل إليك!»
ردّ جو: «لقد كنت مخلصًا لي دائمًا، ولهذا فاطمئن، لن أخبر أحدًا.»
قال ماف بوتر: «سأظل مدينًا لك من أجل هذا الصنيع ما حييتُ.» ثم أجهش بالبكاء.
قال إنجون جو وهو يهز شريكه من كتفيه: «لا يوجد وقت لتهدره في البكاء، لا بد أن تتحرك الآن، لا بد أن تهرب بعيدًا ولا تترك أيَّ أثر يدل عليك.»
نهض ماف بتؤدة على قدميه، وقال: «أشكرك شكرًا جزيلًا يا جو، أشكرك.»
ابتسم إنجون جو ابتسامة خبيثة وهو يشاهد ماف بوتر يوليه ظهره.
في تلك الأثناء كان القمر قد توارى وراء السحب، وعندما ظهر مرة أخرى، ألقى بضوئه على جثة الطبيب المقتول وجثة هوس ويليامز المغطاة باللحاف والنعش الذي كان بلا غطاء والقبر المفتوح. وخيم الصمت مرة أخرى.
أبكمَ الرعب توم وهاك اللذين فرا من مسرح الأحداث وكانا يخشيان أن يكون جو في أعقابهما، ولكنهما لم يتجرآ على النظر إلى الوراء واندفعا عبر الأشجار واجتازا الأكواخ التي تقع على طرف القرية حتى لاحت في الآفاق أمامهما المدبغة القديمة، فثبَّتا نظريهما عليها.
همس توم بصوت أجش: «لا أستطيع أن أصمد أكثر من ذلك!»
كان هاك يلهث بشدة أيضًا حتى إنه لم يستطع الردّ على توم. ودنا الصبيَّان أكثر فأكثر من المدبغة إلى أن اندفعا أخيرًا عبر بابها المفتوح وأوصداه خلفهما وسقط كلاهما على الأرض. وعلى مدار وقت طويل لم يكن هناك صوت في المكان سوى صوت أنفاسهما الثقيلة.
– «ما عقاب هذه الجريمة يا هاكلبيري؟»
– «الشنق. إذا مات الطبيب روبينسون بالفعل، فالعقاب هو الشنق.»
أخذ توم يفكر قليلًا.
– «ولكن من الذي سيشهد بما حدث؟» ثم أخذ يفكر مرة أخرى، ثم استرسل قائلًا: «هل سنشهد نحن يا هاك؟»
– «ما هذا الذي تقوله؟ افترض أنه وقع شيء ما وتمكن إنجون من الهرب من حبل المشنقة، بالتأكيد سيطاردنا نحن، دع أمر الشهادة هذا لماف بوتر.»
– «إن ماف بوتر لا يستطيع أن يشهد بشيء لأنه لا يعرف ما حدث، لقد كان فاقدًا الوعي طوال الوقت!»
– «يا إلهي، هذا صحيح!»
وساد صمت طويل مرة أخرى.
– «هل تظن أنه بمقدورك أن تلتزم الصمت يا هاك؟»
– «نحن مضطران إلى أن نلتزم الصمت. إن إنجون جو لن يتورع عن قتلنا. ولذلك فلا بد لنا من أن نقسم على أننا سنلتزم الصمت، أقسم لي يا توم على هذا!»
– «هذا أفضل شيء، سنتصافح ونقسم أننا سوف …»
– «لا يا توم، هذا لا يكفي على الإطلاق؛ فالمصافحة تفي بالغرض في الأمور التافهة، وبين الصبايا وما إلى ذلك. لكن هذا الأمر خطير، فلا بد أن نقسم عليه كتابةً ونختم عليه بدمائنا.»
«أُقسم أنا هاك فين وتوم سوير على أننا سوف نلتزم الصمت بشأن هذا الأمر ومن يفش السر منا فليمت».
وعندئذ أخرج توم إبرة من جيبه ووخز كل واحد منهما إبهامه بها وضغط عليه ليخرج قطرة دم ووقع توم بالأحرف الأولى من اسمه باستخدام قطرات الدم الخارجة من إصبعه ثم علّم هاك، الذي لم يتعلم الكتابة في حياته قط، كيف يكتب الحرفين الأولين من اسمه «هـ» و«ف».
– «هل سيمنعنا هذا من إفشاء هذا السر إلى الأبد يا توم؟»
– «أعتقد ذلك.»
أخيرًا زحف توم عائدًا عبر نافذة حجرة نومه، وكان الليل قد أوشك على الانقضاء، فخلع ملابسه بهدوء واستلقى في فراشه برفق لكيلا يوقظ أخاه. ولم يعلم توم أن سيد نفسه هو الذي كان يتظاهر بالنوم الآن. وعندما استيقظ توم كان سيد قد ارتدى ملابسه ورحل. فتساءل توم تُرى لماذا لم تأت العمة بولي لتوقظه؟ نزل توم إلى الطابق السفلي، فوجد العائلة انتهت من تناول الفطور وكان يشعر بالألم والنعاس الشديد وقد أثار الصمت الذي كان يسود مائدة الإفطار دهشته، فلم تلتقِ عيناه بعيني أحد.
وأخيرًا فتحت العمة بولي فاها وأخذت تبكي وتسأله كيف يطيب له أن يظل طوال الوقت يحزنها هكذا؟ فلما سمع توم بكاءها، توجَّع قلبه تمامًا مثل جسده، فبكى وتوسل إليها أن تسامحه وقطع لها وعدًا بأن يكون مهذبًا تمامًا. وشعر توم بالأسى الشديد حتى إنه نسى الشعور بالاستياء تجاه سيد لكونه وشى به. بيد أن العمة بولي لم تقل شيئًا وساد الإحباط، ثم انطلق هو إلى مدرسته.