توم الشجاع
لم يكن توم يكترث في وقت الراحة بشيء سوى الذهاب إلى المنزل للحصول على وجبة الغداء الشهية التي كانت تعدها العمة بولي. لكنه كاد لا يلمس الطعام في هذا اليوم، وأخيرًا قرر أن يصلح ما قد انكسر على نحو حاسم مع بيكي، فارتفعت معنوياته. وبعد مرور نصف ساعة، اتجه توم عائدًا إلى مدرسته، فالتقى بيكي مصادفة، وبدون تردد ركض إليها.
– «لقد تصرفتُ بطريقة وضيعة اليوم يا بيكي وأنا في أشد الأسف وأؤكد لكِ أنني أبدًا لن أتصرف هكذا ما حييت. أرجوكِ صالحيني، هل ستصالحينني؟»
وقفت الصبيَّة ونظرت إليه وعيناها ممتلئتان ازدراء.
– «سأكون ممتنة لك لو تركتني وشأني يا سيد توماس سوير لأنني لن أتحدث إليك مرة ثانية أبدًا.» ثم استدارت في غضب ومضت في طريقها.
صُعق توم حتى إنه شُل عن التفكير، فلم يفكر في أن يقول لها: «لا يهمني أيتها الجميلة!» إلا بعد أن غادرت بالفعل بوقت طويل. ثم اندفع نحو فناء المدرسة مستشيطًا غضبًا أكثر من ذي قبل، وتمنى لو أنها كانت ولدًا؛ إذًا لأوسعها ضربًا.
لكن سرعان ما وجدت بيكي نفسها في مشكلة. كان معلمهم الأستاذ دوبينز قد دأب كل يوم على أن يخرج كتابًا غامضًا من مكتبه، وكان هذا الكتاب هو أثمن ما لديه، فكان يضعه في درج المكتب، ويغلقه بالقفل والمفتاح ويخرج الكتاب ليقرأه في الوقت الذي يكون فيه التلاميذ منهمكين في الأنشطة الأخرى. وكان لكل طفل في الفصل وجهة نظر مختلفة حول الكتاب، وكان كل منهم يتحرّق شوقًا لأن ينظر إلى ما فيه، ولو نظرة خاطفة.
مرت بيكي بمكتب السيد دوبينز ولاحظت أن المفتاح موضوع في القفل! في اللحظة التالية كان الكتاب بين يديها. لم تهتم بيكي كثيرًا بالصفحة الأولى التي كانت تحمل اسم الكتاب: (تاريخ إنجلترا القديمة، لبروفيسور فلان الفلاني)؛ لذا أخذت تتصفح الكتاب. وكان أول شيء وقعت عيناها عليه هو صورة ملونة مطبوعة بنقش بارز لفارس مدرع وهو يمتطي جواده. وعندئذ وقع ظل شخص على الصفحة، لقد كان توم سوير خلفها. ومن فورها أحكمت بيكي قبضتها بسرعة على الكتاب لكي تغلقه، وبفعلتها هذه مزقت الصفحة حتى منتصفها، وعلى الفور أعادت بيكي الكتاب مرة أخرى إلى مكتب دوبينز، ثم أدارت المفتاح، وانفجرت تبكي وهي مستشيطة غضبًا.
– «يا لك من إنسان وضيع يا توم سوير؛ لأنك تسللت وراء شخص وباغتَّه ونظرت إلى ما ينظر إليه.»
– «ومن أين لي أن أعرف أنك كنت تنظرين إلى أي شيء؟»
– «لا بد لك من أن تخجل من نفسك يا توم سوير؛ لأنك ستشي بي الآن. يا إلهي، ماذا أفعل؟ ماذا أفعل! لعمري إنني ما عُوقبت في المدرسة أبدًا.»
وعندئذ ركضت إلى خارج الفصل الدراسي.
بيد أن توم ظل واقفًا في مكانه، شاعرًا بالمزيد من الحيرة وأخذ يتمتم في نفسه: «يا لها من فتاة فضولية حمقاء! بالطبع إنني لا أنوي أن أشي بهذه الحمقاء الصغيرة إلى العجوز دوبينز، لكن وماذا في هذا؟ فهو سيسأل من الذي مزق الكتاب. ولن يجيبه أحد. إذن سيفعل كما يفعل دائمًا؛ سيسأل كل تلميذ على حدَة، وعندما يصل إلى الفتاة المنشودة سيعرفها حتى قبل أن يسألها؛ فالفتيات دائمًا تفضحهن وجوههن، فهن يفتقرن إلى رباطة الجأش؛ لذا دعها تنتظر على أحر من الجمر!»
وهنا انضم توم إلى حشد من رفقاء الصف الذين كانوا يثرثرون ويلهون. وبعد لحظات معدودة، وصل المعلم السيد دوبينز، فهدأ كل تلاميذه وتبعوه إلى داخل الفصل. وبدأت الحصة بالفعل، لكن توم كان منهمكًا في آخر شجار له؛ فلم ينتبه. ثم ثبت توم نظره على المكان الذي تجلس فيه الفتيات في الفصل، فأزعجه وجه بيكي المضطرب. لم يرد أن يشعر بالأسف من أجلها، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من ذلك.
ومرت ساعة كاملة ببطء شديد. وأخيرًا تثاءب السيد دوبينز وفتح مكتبه وأمسك بكتابه، وعندما أخرجه من المكتب رمق توم بيكي بنظره؛ فذكَّره وجهها بمنظر الأرنب عندما يطارده كلب من كلاب الصيد. وعلى الفور نسي توم ما بينهما من شجار، فلا بد من فعل شيء ما، وبسرعة! لكن ما الذي يمكن فعله؟ قدح توم زناد فكره دون أن يصل إلى شيء. وخيم الصمت فترة يسيرة للغاية قبل أن يصرخ المعلم: «من الذي مزق هذا الكتاب؟»
لم ينبس أحد ببنت شفة، في حين كان دوبينز يتنقل بنظراته من وجه لآخر، بحثًا عن أمارات الشعور بالذنب والارتباك.
– «بينجامين روجرز … هل مزقت هذا الكتاب؟»
– «لا يا سيدي.»
– «أهو أنت يا جوزيف هاربر؟»
جاءته إجابة أخرى بالنفي.
انتهى المعلم من سؤال الصبيان، وفكر لحظة ثم انتقل إلى الفتيات.
– «أفأنتِ يا إيمي لورانس؟»
هزت إيمي رأسها، ثم قالت: «لا.»
– «أفأنت يا جريسي ميلر؟»
فجاءه نفس الرد.
– «سوزان هاربر، هل أنتِ من فعل هذا؟»
– «لا.»
حان الدور التالي، فارتجف توم من رأسه إلى أخمص قدميه.
– «هل هو أنتِ يا ريبكا (بيكي) ثاتشر؟»
شحب وجه بيكي من شدة الرعب. وحاولت الفتاة المسكينة أن تدير وجهها بعيدًا عن حملقة دوبينز، ولكنه قال: «يا آنسة ثاتشر، انظري إلي وجهي وأجيبيني، هل أنت من مزقت هذا الكتاب؟»
أومضت فكرة في ذهن توم كالبرق، فوثب على قدميه، وقال: «أنا من فعلها.»
لا يمكن أن يصدِّق أحد في المدرسة هذا الصنيع الأحمق العجيب. ولكنَّ نظرة العرفان بالجميل والحب، التي كانت تشع في هذه اللحظة من عيني بيكي، كانت تعويضًا كافيًا عن مائة ضربة. شدت هذه النظرة من أزر توم، وجعلته يتحمل عقابه، بالإضافة إلى العقاب العنيف الآخر بالحبس بعد المدرسة لمدة ساعتين، دون أن يبدي أي اعتراض البتة. فعل توم هذا وهو يعرف من سيكون بانتظاره بالخارج حالما ينتهي الحبس.
في تلك الليلة خلد توم إلى النوم وكلمات بيكي تملأ أذنيه أحلامًا: «ما أنبلك يا توم!»