محاكمة ماف بوتر
أصبحت العطلة الصيفية على الأعتاب، وفجأة وجد توم أن الأيام الدراسية قد ولت وحلَّت أيام الحرية مجددًا. ومرّ اليوم الرابع من يوليو/تموز، يوم عيد الاستقلال، مرور الكرام. وبدأ وقت العطلة الثمينة يمر على توم ببطء وملل شديدين؛ فقد كان أول الأمر أن غادرت بيكي ثاتشر المدينة مع والديها لقضاء العطلة الصيفية، علاوة على أن توم أُصيب بالحصبة.
وعلى مدار أسبوعين طويلين، ظل توم حبيس الفراش، مقطوعًا تمامًا عن العالم الخارجي وما يجري فيه. وعندما بدأ يستعيد صحته أخيرًا، بدأت الحياة تدب في قرية سانت بيترسبرج من جديد؛ إذ أوشكت أن تنعقد محاكمة ماف بوتر على جريمة القتل التي اقترفها، وسرعان ما صارت حديث المدينة.
كان ذكْر موت الطبيب روبينسون يبث الرعدة في نفس توم، ولم يدرك لأي مدى يمكن أن يُشتبه في كونه يعرف شيئًا عن الجريمة، ولكنه كان لا يزال منزعجًا وسط كل هذا القيل والقال. فكلما تناهى إلى مسامعه اسم ماف بوتر، اقشعر بدنه. وتاق إلى أن يتخلص من هذا السر المريع وأن يجاهر بالحقيقة. وفي يوم من الأيام اختلى بهاك للتحدث معه حديثًا خاصًّا.
أخذ توم يتحدث بجدية: «هل أخبرتَ أحدًا قط بهذا الأمر يا هاك؟»
– «أي أمر؟»
– «أنت تعرف أي أمر.»
– «آه، بالطبع لم أخبر به أحدًا البتة.»
– «ألم تقل ولا كلمة واحدة؟»
– «أقسم لك أنني لم أتفوه ولو بكلمة واحدة. ما الذي حدا بك إلى أن تسأل؟»
– «حسنًا. كنتُ خائفًا فحسب.»
– «اعلم يا توم أنه إن اكتُشف الأمر، فلن يمر علينا يومان ونحن على قيد الحياة، أنت تعرف هذا.»
صمت توم للحظة، ثم قال: «أظن أن ماف بوتر سيهلك، ألا تشعر بالأسف من أجله أحيانًا؟!»
أجاب هاك: «أكاد أشعر بهذا طوال الوقت؛ فماف بوتر لم يؤذ أحدًا في حياته قط؛ ربما كان يحتال قليلًا للحصول على رزقه وقوته، ولكننا جميعًا نفعل هذا. وهو رجل صالح، وذات مرة أعطاني نصف سمكة، مع أن ما كان ما بحوزته من طعام لم يكن يكفي كليْنا، ولطالما كان يساعدني كلما ساءت أحوالي.»
أضاف توم إلى كلامه: «لقد كان يساعدني في إصلاح طائراتي الورقية عندما تتمزق، وكان يربط لي خيط السنارة كلما فشلت في ذلك. ليتنا نستطيع أن نهربه من السجن.»
– «يا إلهي! لا نستطيع أن نهربه يا توم، علاوة على أن هذا لن يجدي نفعًا، إذ سيلقون القبض عليه من جديد.»
صدَّق توم على كلامه قائلًا: «في الغالب سيلقون القبض عليه، كل ما هنالك هو أنني أنزعج عندما أسمعهم يطعنون فيه، خاصة لأنه لم يقترف أي جرم.»
– «أنا أيضًا أنزعج يا توم إذ أسمعهم يقولون: إن ماف هو أكثر وغد متعطش للدماء في هذا البلد، ويتساءلون: لماذا لم يُشنق من قبل؟!»
استمر الصبيَّان يتحدثان، لكن ذلك لم يرحهما إلا أقل من القليل ثم مضى توم إلى منزله حزينًا هذه الليلة وكانت أحلامه تزخر بالمشاهد المرعبة. وعلى مدار اليومين التاليين، كان توم يتسكع حول قاعة المحكمة، مدفوعًا بقوة قاهرة للدخول إليها. وكذلك أيضًا شعر هاك، لكن الصبيين كانا خائفين للغاية لدرجة أن كلًّا منهما كان يتحاشى أن ينظر نحو الآخر.
وخارج مبنى المحكمة الضخم، كان كل ما يسمعه توم يشير إلى أن الأدلة جميعها تتضافر ضد ماف. وفي نهاية اليوم الثاني للمحاكمة، كانت شهادة إنجون جو حاسمة، فكان معروفًا بالطبع أي حكم سيصدر على ماف.
تأخر توم في الرجوع إلى المنزل هذه الليلة؛ لذا أوى إلى فراشه عبر النافذة، وكان في حال شديدة من الحماس حتى إنه لم يستطع أن يخلد إلى النوم على مدار ساعات.
وفي صبيحة اليوم التالي، تدفقت الجموع الغفيرة من سكان القرية كلها إلى مبنى المحكمة الضخم، إذ كان من المفترض أن يكون هذا اليوم يومًا مشهودًا. وبعد طول انتظار، دخل أعضاء هيئة المحلفين قاعة المحكمة وجلسوا في أماكنهم. وبعدها بفترة وجيزة، أُحضر ماف بوتر، الذي بدا شاحبًا ومؤرقًا، مصفدًا بالأغلال وأُجلس في مكان يسمح للجميع بالحملقة فيه. وجلس إنجون جو في مكان لا يقل عنه وضوحًا، رابط الجأش كعادته. وما أن وصل القاضي حتى انتشر الهمس المعتاد بين المحامين وتبع ذلك استكمال بعض الأعمال الورقية الروتينية. وقد عظَّمت كل هذه التفاصيل والتواني في بدء المحاكمة الشعور بالإثارة لدى جميع مَن بقاعة المحكمة.
وأخيرًا استدعى الشاهد الذي شهد بأنه رأى ماف بوتر يغتسل عند جدول النهر في ساعة مبكرة من صباح اكتشاف الجريمة، وأنه تسلل على الفور. وبعد أن انتهى جانب الادعاء من طرح أسئلته، حان دور محامي ماف بوتر ليستجوب الشاهد.
قال المحامي في هدوء: «ليست لدي أسئلة.»
شهد الشاهد التالي بأنه رأى سكين ماف بوتر بالقرب من الجثة.
لكن مرة أخرى لم يسأل محامي بوتر الشاهد سؤالًا واحدًا.
مضى شاهد ثالث ورابع في شهادتهما أيضًا دون أن يفعل محامي بوتر أي شيء، فحمي غضب الحاضرين وبدأ كثيرون يتعجبون: ما الذي يجري بالفعل؟ هل تعمد محامي ماف بوتر أن يهدر حياة موكله دون أي مجهود يذكر؟!
استُدعي شاهد أخير، فشهد بسلوك بوتر الإجرامي في مسرح الجريمة، ومرة أخرى لم تكن هناك أي أسئلة من جانب محامي بوتر.
وهنا سرى اضطراب عظيم بين الجمع، فاضطر القاضي إلى أن يأمر الجميع بالتزام الهدوء.
وأخيرًا أنهى المدعي دعوته ضد ماف بوتر قائلًا: «بناء على قسم المواطنين الذين لا يمكن أن يرقى الشك إلى قسمهم، قررنا أن مقترف هذه الجريمة الشنيعة هو السجين البائس الماثل أمامكم.»
أفلتت التأوهات من بوتر المسكين ووضع وجهه في يديه وأخذ يهز جسده هزًّا خفيفًا للخلف وللأمام، في حين خيم صمت أليم على أنحاء قاعة المحكمة.
عندئذ نهض محامي ماف بوتر من مقعده وقال: «سيادة القاضي، في بداية هذه المحاكمة أتيتُ وفي نيتي إثبات أن موكلي إنما اقترف هذه الجريمة الشنعاء تحت تأثير ارتباك متهور غير مسئول نتيجة لإصابته بنوبات الدوار. ولكنني الآن عدلت عن رأيي، ولسوف أقدم دليلًا يثبت براءة موكلي. إنني أطلب استدعاء توماس سوير إلى منصة الشهادة!»
بهت جميع من في قاعة المحكمة بمن فيهم ماف بوتر عندما نهض توم واتخذ مقعده في منصة الشاهد. وبعد أن رفع الفتى الذي تظهر عليه سيماء الارتعاد يده اليمنى وأقسم على أن يقول الحقيقة، نظر محامي بوتر في عينيه مباشرة.
– «توماس سوير، أين كنت في اليوم السابع عشر من يونيو/حزيران نحو منتصف الليل؟»
حدق توم في وجه إنجون القاسي الملامح، فخانه صوته. وأنصت الجمع منقطعي الأنفاس إلى توم، ولكن الكلمات رفضت أن تخرج من فمه. وأخيرًا بعد بضع لحظات نطق توم بصوت واهن: «في المقابر.»
اعتلت وجه إنجون جو نظرة ساخرة شريرة.
– «هل كنت في مكان قريب من قبر هوس ويليامز؟»
– «أجل يا سيدي.»
– «ارفع صوتك أعلى قليلًا فحسب. كم كنت قريبًا من القبر؟»
– «كنت قريبًا منه كقربي منك الآن.»
– «هل كنت مختبئًا أم لا؟»
– «كنت مختبئًا.»
– «أين؟»
– «وراء شجر الدردار الموجود عند طرف القبر.»
في تلك اللحظة بدا أن جسد إنجون جو قد تجمد بأكمله، وتلاشت الابتسامة الساخرة من وجهه.
– «هل كان معك أحد؟»
– «أجل يا سيدي، لقد ذهبت إلى هناك بصحبة …»
– «انتظر لحظة! دعك من ذكر اسم صاحبك، فسوف نقدمه في الوقت المناسب. هل كنت تحمل معك من شيء؟»
تردد توم وبدا مرتبكًا.
– «تكلم يا ولدي. إن الحقيقة جديرة بالاحترام دائمًا. ماذا أخذت معك إلى هناك؟»
– «لم يكن معي سوى جـ … جرعة دواء لعلاج الثآليل.»
فسَرت موجة من الضحك وسط الجمع.
– «والآن يا ولدي، أخبرنا بكل شيء وقع، أخبرنا بطريقتك الخاصة، لا تتحاشَ ذكر أي شيء ولا تخَف البتة.»
بدأ توم بتؤدة في بادئ الأمر، ولكن عندما تحمس لقصته، أخذت الكلمات تتدفق من فمه بسهولة ويسر أكثر فأكثر، وبعد فترة وجيزة لم يكن يُسمع صوت في قاعة المحكمة سوى صوت توم وكانت جميع الأنظار مثبتة عليه وبلغ التوتر أوجه عندما قال الصبي: «وبعدما التقط الطبيب اللوح مباشرة وضرب به ماف بوتر وسقط ماف بوتر، انقض عليه إنجون جو بالسكين و…»
وفجأة، وبسرعة البرق شق إنجون جو طريقه وسط الجمع واندفع نحو النافذة واختفى في لمح البصر!