السعي وراء الكنز المدفون
صار توم بطلًا، مثار حسد الصغار والكبار على السواء، حتى إن اسمه ظهر في صحيفة مدينة بيترسبرج. ولكن بقدر ما أصبحت أيامه سعيدة الآن، امتلأت أحلامه بالمخاوف؛ إذ كان إنجون جو يكمن له في كل أحلامه ونية الانتقام في عينيه دائمًا.
وكان هاك المسكين يشعر بالخوف تمامًا كما يشعر به توم، وقد سيطرت عليه المخاوف بشدة من أن يكتشف إنجون جو دوره ويطارده هو أيضًا. وكان إيمان توم بالصواب والخطأ هو الذي دفعه إلى أن يزور خفية محامي ماف بوتر ويخبره بما جرى في الحقيقة. ولكنه كان يُعتبر بهذا الصنيع أيضًا قد حنث بقسَم موقع عليه بالدم؛ القسَم الأكثر سرية وسط كل الأقسام. ومنذ ذلك الحين تعسر على هاك أن يضع ثقته في أي شيء.
وبعد النهاية المثيرة التي انتهت بها محاكمة ماف بوتر، أُعلن عن مكافأة لمن يلقي القبض على إنجون جو وجرى تفتيش شتى البقاع، ولكنه لم يُضبط في أي مكان. وبينما توالت الأيام دون أن تظهر في الآفاق أي أمارات تشير إلى مكان إنجون جو، أخذت مخاوف توم تنزوي تدريجيًّا.
وبعد انقضاء زمن يسير، راودت توم فكرة التنقيب عن كنز مدفون، فجدّ توم في طلب هاك؛ إذ كان يعرف أن هاك على أهبة الاستعداد دائمًا لأن يشارك في أي مغامرة تبدو شائقة ومثيرة. ووافق هاك بحماس على عرض توم، ولكنه بعد أن فكر للحظة سأله: «وأين سنحفر يا توم؟»
رد توم: «في أي مكان.»
– «لماذا، هل الكنز مخفى في كل الأرجاء؟»
– «لا، في الحقيقة لا. إنه مخفى في أماكن بعينها يا هاك: أحيانا في جزر، وأحيانا في صناديق بالية تحت غصن شجرة عتيقة ميتة، بالضبط في المكان الذي يقع فيه الظل عند منتصف الليل؛ وفي الأغلب الأعم يكون مخفيًا تحت أرضيات المنازل المسكونة بعفاريت الجن.»
– «ومن الذي يخبئه؟»
– «اللصوص بالفعل، ومن غيرهم في رأيك يفعل ذلك؟ هل معلمو مدارس الأحد؟!»
– «لو كنتُ لصًّا، ما كنتُ لأخبئها، بل كنتُ سأنفقها وأستمتع بها في حياتي.»
– «وأنا أيضًا، لكن هذه ليست عادة اللصوص، فهم دائمًا ما يخبئونها ويتركونها هناك.»
– «أولا يأتون مرة أخرى سعيًا وراءها؟»
– «إنهم يظنون ذلك، ولكنهم عادة ما ينسون المكان الذي وضعوا فيه خريطة الكنز التي يوجد عليها العلامات التي توضح المكان الذي يجب أن يحفروا فيه. أو لعلهم يموتون في أحيان أخرى، لذا يظل الكنز في مكانه لزمن سحيق ويصدأ إلى أن يعثر أحد على خريطة صفراء عتيقة توضح كيفية العثور على العلامات.»
– «وهل حصلتَ على واحدة من هذه الخرائط يا توم؟»
– «لا.»
– «حسنًا، فكيف إذن ستعثر على العلامات؟»
– «انسَ أمر العلامات؛ فهم عادة ما يدفنون الكنز تحت أحد المنازل المسكونة أو في جزيرة أو تحت شجرة ميتة، أحد أفرعها ناتئ. وهناك منزل مسكون قديم يقع عند تل كارديف، وهناك أيضًا تكثر الأشجار ميتة الأفرع.»
– «هناك قطعة أرض مريعة مليئة بالأشجار الميتة بالقرب من هذه البقاع يا توم؛ فمن أين لك أن تعرف الشجرة المنشودة كي تحفر عندها؟»
– «سأقصد جميع الأشجار!»
– «كيف هذا يا توم، إن ذلك سيستغرق الصيف كله!»
– «وما المشكلة في هذا؟ افترض أنك عثرت على إناء نحاسي فيه مائة دولار، جميعها صدئة ورمادية، أو على صندوق بالٍ مليء بالألماس. ما قيمة كد الصيف إلى جانب هذا؟»
التمعت عينا هاك؛ إذ كان هذا هو كل ما يحتاجه كي يقتنع.
فهز هاك كتفيه وقال: «ماذا عن تلك الشجرة العتيقة ميتة الأفرع الموجودة بأعلى عند تل كارديف على الجانب الآخر من جدول النهر؟»
– «اتفقنا.»
وعليه جلب الصبيَّان معولًا وجاروفًا وشرعا في رحلتهما. وأخيرًا وصلا إلى الشجرة العتيقة الميتة وهما منقطعا الأنفاس وشاعران بالحر الشديد؛ فجلسا ليستظلا بفرع شجرة مجاورة لينالا قسطًا من الراحة ويمضغا العلك.
قال توم: «أحبُّ هذا.»
صدَّق هاك على كلامه قائلًا: «وأنا أيضًا.»
– «أخبرني يا هاك، لو عثرنا على كنز هنا، فماذا تنوي أن تفعل بنصيبك منه؟»
– «حسنًا، سوف أجلب لنفسي كل يوم فطيرًا ومشروبًا غازيًّا. ولسوف أحضر كل سيرك يُقام.»
– «ألا تنوي أن تدخر جزءًا منه؟»
– «أدخر. من أجل ماذا؟»
– «حسنًا، ماذا لو أردتَ أن تتزوج؟»
– «أتزوج!»
– «أجل.»
– «أنت … أنت فقدت صوابك يا توم!»
– «انتظر، ولسوف ترى!»
– «يا توم، إن هذا لهو أكثر ما يمكنك فعله حماقةً. انظر إلى أبي وأمي؛ لقد كانا يتشاجران طوال الوقت، أنا أذكر هذا جيدًا.»
– «الفتاة التي أنوي الزواج بها لن تتشاجر.»
– «يجدر بك يا توم أن تفكر مليًّا في الأمر؛ فإنهن جميعًا يتشاجرن. ما اسم هذه الفتاة؟»
– «سأخبرك فيما بعد.»
– «حسنًا، يكفي هذا. لكن إن تزوجتَ أنت، فسوف أشعر أنا بالوحدة والوحشة أكثر من أي وقت مضى.»
– «لا، لن تشعر بالوحدة لأنك ستأتي وتعيش معي. والآن دعنا نبدأ في الحفر.»
عمل الصبيَّان على مدار نصف الساعة وأخذ العرق يتصبب منهما دون جدوى، فكدحا على مدار نصف ساعة أخرى دون الوصول إلى شيء أيضًا.
سأل هاك: «هل يدفنون الكنوز عادة على هذا العمق؟»
– «ليس دائمًا. أظن أننا لم نحفر في المكان الصحيح.»
اختار الصبيَّان بقعة جديدة وبدآ الحفر من جديد. وأخيرًا، مال هاك على جاروفه ومسح بكمه قطرات العرق المتصببة من جبينه، وقال: «يا توم، لا بد أننا نحفر في المكان الخاطئ أيضًا. ما رأيك؟»
– «يا له من أمر غريب للغاية. أظن أنه ربما تكون هناك ساحرة تحاول أن تزعجنا؛ فالساحرات يُحببن أن يحتفظن بالذهب ويخبئنه لأنفسهن.»
– «ما هذا الذي تقوله! إن الساحرات لا يمتلكن أي قوة بالنهار.»
أقر توم قائلًا: «حسنًا، أنت محق. لم أفكر في هذا. أعرف ما الخطب! يا لحماقتنا! لا بد أن نكتشف أين يسقط بالضبط ظل الشجرة ذات الفرع الميت الذي يعكسه القمر عند منتصف الليل بالتمام، وعندئذ فقط يجب أن نبدأ الحفر!»
– «سُحقًا! لقد قمنا بكل هذا العمل دون طائل!»
أجاب توم: «لا بد أن نقوم بهذا الليلة. انتهى الأمر.»
سأله هاك: «وهل سيمكنك الخروج من منزلك؟»
– «أؤكد لك أنني سأفعل.»
– «حسنًا، سآتي بالقرب من المنزل وأموء كالقطة الليلة.»
قال توم: «حسنًا. دعنا نخبئ المعدات بين الأشجار الملتفة.»
في وقت متأخر من هذه الليلة، تسلل الصبيَّان عائدين إلى الشجرة العتيقة الميتة وجلسا في الظلام بانتظار حلول منتصف الليل بالتمام. وكان المكان مهجورًا والأرواح تهمس في حفيف أوراق الشجر والأشباح تكمن في الأركان المظلمة. وكان عواء أحد كلاب الصيد المقبض للصدور يسْبح عبر الفضاء الفسيح آتيًا من بعيد، فتجاوبه بومة بنعيقها الخفيض. وفي آخر الأمر قرر توم وهاك أن الساعة الثانية عشرة حانت أخيرًا، وعليه علَّما البقعة التي وقع عندها الظل وبدآ الحفر. وازداد عمق الحفر شيئًا فشيئًا. ولكنهما كانا كلما انتبها لصوت اصطدام المعاول بشيء ما، اتضح بعدها أنها إنما تصطدم بحجارة.
قال توم: «لا فائدة يا هاك. لقد أخطأنا مرة أخرى.»
– «لكن لا يمكن أن نكون قد أخطأنا، لقد علمنا مكان الظل بالضبط.»
قال توم في هدوء: «حسنًا، ثمة شيء آخر.»
– «وما هو؟»
– «لقد خمنَّا ما هو الوقت لأننا لا نملك ساعة. لا بد من أن الوقت قد تأخر للغاية أو تقدم.»
أسقط هاك جاروفه.
– «لقد انتهى الأمر، لا بد من أن نستسلم هذه المرة؛ إذ إننا لن نستطيع أبدًا أن نعرف الوقت المضبوط. علاوة على أن وقت الليل يكون مريعًا للغاية؛ فهو مليء بالساحرات والأشباح التي ترفرف حولنا. فأنا أشعر بوجود شيء وراءنا طوال الوقت.»
اعترف توم: «وأنا أشعر بالشيء نفسه تمامًا.»
– «هيا يا توم، لنترك هذا المكان ونحاول في بقعة أخرى.»
– «أظن أن هذا سيكون أفضل.»
– «وأين سنبحث هذه المرة؟»
فكر توم لحظة، ثم قال: «المنزل المسكون.»
– «سحقًا يا توم! لا أحب المنزل المسكون؛ فهناك تتضاعف احتمالات وجود الأشباح.»
– «أجل يا هاك، ولكن الأشباح لا تخرج إلا في الليل فحسب. ولن يمنعونا من الحفر هناك أثناء النهار.»
اضطر هاك أن يوافقه الرأي، فقال: «حسنًا، أنت محق بشأن هذا، ولكنك تعرف حق المعرفة أن الناس لا تقترب من هذا المنزل ليلًا أو نهارًا.»
– «هذا يرجع في المقام الأول إلى أن الناس لا تحب الذهاب إلى مكان وقعت فيه جريمة قتل. وعلى كل حال، لم يُر أي شيء حول هذا المنزل سوى في الليل؛ إذ تظهر بعض الأضواء الزرقاء من النوافذ ولا تأتي الأشباح بصفة منتظمة.»
– «حسنًا يا توم، أينما رأيت الأضواء الزرقاء تومض، يمكنك أن تتأكد من وجود شبح قريبًا جدًّا. إن هذا لأمر منطقي للغاية.»
أكد توم اتفاقه معه قائلًا: «هذا صحيح. ولكن الأشباح لا تظهر أثناء النهار، وإذن فما الداعي لكل هذا الرعب الشديد؟»
– «حسنًا، سوف نتجه إلى المنزل المسكون كما تقول، مع أن في ذلك مجازفة كبيرة.»
انحدر الصبيَّان عبر التل، وهناك في منتصف الوادي الذي كان يضيئه نور القمر، كان المنزل المسكون قائمًا بأسواره العتيقة، والأعشاب الضارية تغطي بكثافة عتبة الباب. وكانت المدخنة منهارة وأُطر زجاج النوافذ مكسَّرة إلى أجزاء، بل وكان أحد أركان السقف منهارًا أيضًا. حملق الصبيَّان في المنزل لبعض الوقت في انتظار أن يظهر ضوء أزرق وراء النوافذ في أي لحظة. وعندئذ تهامسا فيما بينهما، ثم استدارا سريعًا في حركة مفاجئة كي يبتعدا قدر استطاعتهما عن هذا المنزل، وبعدها شقا طريقهما نحو منزليهما عبر الغابات التي كانت تغطي المنحدر الخلفي من تل كارديف.