كيف يُفسَّر القرآن؟
(١) كيف يُفسَّر القرآن؟
ليس اليسار الإسلامي فقط اتجاهًا فكريًّا إسلاميًّا اجتماعيًّا سياسيًّا تقدميًّا يجمع بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد مثل كل الحركات الإصلاحية. بل هو أيضًا نظرية أو منهج في التفسير يجمع بين النص والمصلحة، بين مقاصد الشريعة المستقرأة من الأصول وتفعيلها في الواقع المعاش في الزمان والمكان. وقد كان تقدم العلم باستمرار باكتشاف المناهج أكثر من معرفة الموضوعات. الموضوع نفسه منهج، وليس فقط بنية. والحياة نفسها منهج وليست فقط تجربة معاشة. والعالم كله منهج وليس فقط نسقًا أو نظرية.
وهو ليس منهجًا جديدًا بل يضم معظم مناهج التفسير السابقة ويعيد استخدامها كأجزاء من منهج كلي أشمل. فهو يضم المنهج التاريخي الذي يعتبر النص مصدرًا للمعلومات التاريخية يستقيها من خارجه، ومعظمها من الإسرائيليات وتاريخ الأديان السابقة في شبه الجزيرة العربية؛ لذلك ارتبط بعلم التاريخ، وكان المفسرون الأوائل مؤرخين مثل الطبري وابن كثير. لا يُستعمَل التاريخ إلا بقدر معرفة أسباب النزول وسياق الآيات، والناسخ والمنسوخ وتطور الأحكام الشرعية في الزمان وطبقًا لتغير الظروف والأحوال لِقَد النص على الواقع، والحكم الشرعي على الطاقة.
ويضم المنهج اللغوي ليس من حيث الإعراب كالزَّجَّاج. فليست اللغة غاية في ذاتها. وليس القرآن كتابًا للإعراب لاختبار قواعد النحو ورصد الاستثناءات بل تستعمل اللغة من خلال تحليل المضمون لمعرفة دلالتها على المعاني وكما هو الحال في فلسفة اللغة، دلالة الأسماء والأفعال والحروف والضمائر والإضافة، والفاعل والمفعول بأنواعه المختلفة، والمعرفة والنكرة، والشرط والمشروط، وأقسام الكلام، الخبر والإنشاء والمنادى والاستفهام.
ويحتوي على المنهج الفقهي ليس لتجميع الأحكام الشرعية كما هو الحال في علم الفقه حول محاور رئيسية، العبادات والمعاملات، بل لمعرفة مقاصد الأحكام وغاياتها، والحكمة منها والباعث عليها باعتبارها معايير للسلوك بعيدًا عن الطابع التشريعي الصوري للفقه، الأوامر والنواهي، وكأن الإنسان مجرد آلة للتنفيذ بصرف النظر عن مشاعره ورغباته وميوله وبواعثه وحريته في الاختيار.
ويتضمن أيضًا التفسير الكلامي العقائدي الذي يعرض لأصول العقيدة أو قواعد العقائد، وجود الله وخلق العالم وخلود النفس، كما تفعل التفسيرات الكلامية مثل الزمخشري والدخول في عقائد الفِرق، دفاعًا عن فرقة أو نقدًا لفرقة أخرى، معتزلة أو أشعرية، سُنيَّة أو شيعية أو خارجية. فالعقائد ليست أشياء بل هي بواعث على السلوك. وليست موضوعًا للجدل العقلي حول تصورات تقوم على التنزيه أو التشبيه وأحيانًا التجسيم بل هي تحليل لأعماق النفس البشرية لمعرفة بواعث السلوك. فالعقائد تمثل تصورات عامة للحياة، للإنسان والمجتمع، للفرد والجماعة كما تفعل الأيديولوجيات الحديثة. تُستنبط منها نظم سياسية واجتماعية واقتصادية. وهي معنى العبارة الشهيرة «الإسلام عقيدة وشريعة».
كما يحتوي على التفسيرات الفلسفية مثل الرازي دون الإيغال فيها حتى لا يبعد النظر عن العمل. وقد تغيرت الفلسفة من الفلسفة اليونانية القديمة التي تمت فيها التفسيرات الفلسفية الأولى إلى الفلسفة الحديثة التي ما زالت خارج التفسير باستثناء بعض النظرات هنا أو هناك في بعض التفسيرات الحديثة كمعلومات أو اكتشافات جديدة خاصة في العلوم الطبيعية. ومن هنا خرجت معظم التفسيرات العلمية للقرآن. يكفي أن يكون الإنسان في المجتمع وفي العالم وفي التاريخ.
كما يتضمن التفسيرات الصوفية التي تقوم على التمييز بين الظاهر والبواطن، بين الشريعة والحقيقة والطريقة، بين علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين، بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب دون إيغال في الباطنية بل بالعودة إلى العالم من جديد. فقد كان التصوف حركة مقاومة سلبية ضد مظاهر البذخ والترف والتكالب على الدنيا والصراع حول السلطة السياسية واستشهاد أئمة آل البيت ضد الأموية للعودة إلى الشرعية وأصول البيعة القائمة على العقد والشورى والاختيار.
تفسير اليسار الإسلامي هو استئناف للتفسيرات المعاصرة السياسية مثل «ترجمان القرآن» للمودودي، والاجتماعية مثل «تفسير المنار» للإمامين محمد عبده ورشيد رضا، والأدبية مثل «في ظلال القرآن» للشهيد سيد قطب، وهو ليس تفسيرًا طائفيًّا لنصرة فرقة على فرقة في العقيدة أو في السياسة بل هو تفسير يجمع شتات الأمة دفاعًا عن وحدة عقيدتها واطراد مصالحها العامة.
ويقوم منهج التفسير الجديد على أربع قواعد أسوة بقواعد المنهج عند ديكارت أو بيكون:
-
(١)
البداية بالشعور أو بالوجدان أو اللحظة أو الوقت بتعبير الصوفية أو العصر بتعبير الإصلاحيين. وهي لحظة الانفعال الحالية، ما يشعر به الناس سواء على مستوى الشعور أو اللاشعور. والشعور أخص من الإنسان. هي إحساسات الإنسان ومشاعره التي يصورها الأديب ويعبر عنها المفكر والفنان. «استفتِ قلبك وإن أفتوك».
-
(٢)
رصد حاجات الناس ومصالح الأمة كواقع إحصائي. مَن يملك ماذا؟ ومَن يستهلك ماذا؟ ومَن يسيطر على ماذا؟ ومَن يقهر مَن؟ فلماذا يبعد الدين عن الحياة ولا يلبي القرآن المطالب الرئيسية للعصر؟ إن الحرمان الذي يعيشه الناس من عدم إشباع الحاجات الأساسية، الخبز الصحي، والماء النقي، والإسكان الكريم، واللباس العفيف، والصرف الصحي، والعلاج المجاني، والتعليم القويم؛ هو مادة التفسير الأولى. فالواقع قلب النص وبؤرته الأولى. الواقع مادة والنص صورة. مهمة المفسر وضع المادة في الصورة لتشكيلها وتحقيقها.
-
(٣)
إذا كان الشعور، القاعدة الأولى، والواقع الإحصائي الذي يكشف عن حاجات الناس هو الموضوع، القاعدة الثانية فإن علاقة الذات بالموضوع والتفاعل بين الشعور والواقع هي القاعدة الثالثة. ويعني ذلك تحويل هذا التفاعل إلى مشروع أو رؤية أو برنامج عمل. وتتكون عناصر هذا البرنامج طبقًا لما سُمي فقه الأولويات: الأرض نظرًا للاحتلال، احتلال الأرض، والتنمية، الصحراء القاحلة، والأمة دفاعًا عن وحدتها ضد التجزئة والطائفية والعرقية والقبلية والعشائرية، والفقر ضد التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وضرورة إعادة توزيع الدخل، ووضع سياسة جديدة للأجور طبقًا لقيمة العمل وحده، والقهر وثقافة السلطان والفراعنة الجدد دفاعًا عن قول الحق في مواجهة السلطان الجائر، والشورى والديمقراطية ضد نظم الحكم التسلطية، والتقدم ضد التخلف، والإصلاح ضد الإفساد، والمبادرة الحرة والخيال السياسي ضد السكون والعجز والتبعية والملل السياسي.
-
(٤)
التجربة المشتركة مع القارئ وإشراكه في التفسير إلى أي حد يعبر عن حاجاته ويلبي مطالبه، ويحقق أمنياته، ويقضي على حرمانه، وينهي سلبيته، ويشركه في إعادة بناء ثقافته الوطنية، وإعادة تفسير كتابه. إلى أي حد يعبر التفسير الجديد عما يجيش في صدره، وما يخاف من الكشف عنه للقضاء على ازدواجية الخطاب والشخصية والفصام بين القول والعمل دفاعًا عن الصدق في القول والإخلاص في العمل؟ فإذا وعى القراء فإنهم يتحولون إلى وعي جمعي وكتلة تاريخية تساهم في عملية التغير الاجتماعي، وتشارك في صنع التقدم التاريخي. وبالتالي تتحرك الأمة، وتعود إلى مسارها في التاريخ لتنهض في دورة حضارية ثانية، تنهي بها عصرها الوسيط، وتبدأ بها عصورها الحديثة.
(٢) النص والواقع
اليسار الإسلامي رؤية منهجية للفكر الديني وعلاقته بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للعصر. فهو تحقيق منهجي ومنطق فكري لدعوات الإصلاح السابقة ورفع شعار الجمع بين التراث والتجديد، القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، الماضي والحاضر.
وقد تعوَّد الناس على خطابين. الأول خطاب ديني يعتمد على النصوص وتفسيرها خارج الزمان والمكان، خاصة ولو كانت نصوصًا عقائدية شعائرية خالصة أو نصوصًا تتعلق بأمور الآخرة. وظيفته الترويح عن النفس، وتبخير الأزمات، والتعويض الروحي، والانتقال من هذا العالم البائس الشقي إلى عالم آخر، عالم السعادة والنعيم، وهو الخطاب السائد في معظم خطب الجمعة والبرامج الدينية في قنوات الفضاء. والثاني خطاب اجتماعي علمي. يحلل الواقع الاجتماعي الإحصائي بدعوى الالتزام بالموضوعية وإعطاء الحقائق على الأرض كما هي دون تأويل ذاتي أو توجيه أيديولوجي، وهو ما يستحيل أيضًا في العلوم الاجتماعية. فكل تحليل كمي له قراءة كيفية. وكل واقع له رؤية. فالواقع متغير ومتحرك ومتطور. ينتقل من مرحلة إلى مرحلة. فالعلم الاجتماعي يرصد مسار التغير الاجتماعي إلى الوراء لا إلى الأمام، وهو ما يسمى بمعارك التخلف والتقدم. الخطاب الأول نص دون واقع. والخطاب الثاني واقع دون نص.
وإذا كان رجل الدين مستنيرًا فإنه ينتقل من النص إلى الواقع. ومن كلام الله إلى أوضاع البشر حتى يكون خطابه أكثر دلالة وأوقع عند الناس. يجدون للنص صدًى في حياتهم اليومية. وقد يغالي البعض في ذلك فيتحول الخطاب الديني إلى نقد اجتماعي خالص للسلطة والعادات الاجتماعية خاصة الجنسية منها في علاقة الرجل بالمرأة، والذكر بالأنثى، والشاب بالشابة، والفتى بالفتاة. فما زالت هناك دوائر ثلاث في الثقافة الموروثة يحظر الاقتراب منها: الدين، والسياسة، والجنس. ولو كان علم الاجتماع مستنيرًا، ويعلم أن الظاهرة الاجتماعية في صحيحها تراكم ثقافي، ومتصل تاريخي فإنه يحيل إلى الثقافة الشعبية ويكتشف أن مكونها الرئيسي النص الديني والمثل الشعبي فيحيل إليه من باب تعليل الظواهر الاجتماعية والكشف عن مكوناتها ووضع أساليب تغييرها.
وهناك منهج ثالث يلتقي فيه الخطابان الديني والاجتماعي، وهو منهج تحليل الخبرات اليومية ومعاناة الناس حتى ينزل الخطاب الديني على واقع حي، ويأخذ الخطاب الاجتماعي الإحصائي دلالات حية من تجارب الناس. فالأرقام صياغات كمية لحالات نفسية. والواقع الإحصائي لا يتكلم بنفسه، وهو مجرد ترجمة لمعاناة الناس. فالبشر هم الأساس. هم حلقة الوصل بين الدين والمجتمع، بين النص والواقع، بين الخطاب الديني والخطاب الاجتماعي.
يستعمل اليسار الإسلامي هذه المناهج الثلاثة في آنٍ واحدٍ لتوحيد الخطاب الثقافي ولتجاوز الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين، وهو أساسًا استقطاب في الخطاب وفي مناهج التفكير. فهو يبدأ من النص مثل رجل الدين. ويختار الموضوعات الأكثر إلحاحًا طبقًا لفقه الأولويات ولعموم البلوى. ولا يبدأ بموضوعات كسبت من قبل مثل العقائد والشعائر أو بموضوعات تخرج عن شهادة الحس والعقل والوجدان ويصعب الوصول فيها إلى يقين. صنَّفها القدماء على أنها من السمعيات التي لا تعتمد إلا على الرواية مثل أمور الآخرة. ويبدأ بتحليل ألفاظ الأرض والعدل والظلم والصلاح والفساد، والتقدم والتأخر، والإعمار والاستقلال، وهو ما تحتاجه الأمة اليوم، عربية أو إسلامية. ويبدأ أيضًا من الواقع مثل عالم الاجتماع. فالفقه أساسًا هو فقه النوازل بلغة المغاربة أي فقه الواقع بلغة العصر. وما لم ينزل النص على نازلة يظل دائرًا في الهواء حائرًا، لا زمان له ولا مكان. وعلى هذا النحو يصدق النص في الواقع، والواقع يجد تأويلًا له وقراءة في النص. لذلك تلزمه الإحصائيات الدقيقة، مَن يملك ماذا؟ ومَن يسيطر على مَن؟ ومَن يحتكر ماذا؟ ومَن يستغل مَن؟ ومَن يسرق ثروة مَن؟ والإحصاء لغة العصر. والرقم هو النص الجديد. ويبدأ ثالثًا بتحليل الخبرات الحية عند الناس. فاللغة المباشرة أشد تأثيرًا في الناس وأبلغ من تأويلات النصوص وإحصائيات الواقع. وقد برع بعض المشايخ والخطباء في ذلك تملقًا لأذواق الجماهير، ودغدغة لعواطفهم، وإثارة لأشجانهم وأحزانهم لدى مشايخ الفضاء بدعوى صنع الحياة، وعدم الحزن، ومشاكل الشباب والمجتمع. وتحول بعضهم، رجالًا ونساءً، إلى خبراء في التحليل النفسي لمعالجة مشاكل الشباب وفي مقدمتها الزواج. وهي مادة الشعراء والأدباء والفنانين والسينمائيين التي لا يختلف عليها أحد، سلفيًّا كان أم علمانيًّا. ففي التجربة الحية يتوحَّد النص والواقع.
وعليها يتفق رجال الدين وعالم الاجتماع. وهي التجربة التي يلجأ إليها أيضًا الخطاب السياسي لتبخيرها وتخديرها والإيماء بالحل القريب لها، والدعوة إلى الصبر حتى يتم عبور عنق الزجاجة أو لأن التكاثر السكاني يلتهم كل معدلات التنمية «تناسلوا، تكاثروا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة»، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار العالمية. لذلك اشتهرت وذاعت التمثيليات التليفزيونية التي تعالج القضايا الاجتماعية مثل ذيوع مباريات كرة القدم.
اليسار الإسلامي وتعدد مناهجه هو الذي يوحد بين الخطابات المتصارعة ويقارب بينها. فالخطاب الديني النصي لرجل الدين يكتمل في الخطاب الاجتماعي الإحصائي لعالم الاجتماع. وكلاهما يجد مصداقيته في تحليلات الأدباء والفنانين والفلاسفة الذين يصورون الواقع من خلال معاناة الناس. وبالتالي تقل حدة الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين بتوجيه كل من الفريقين حول مصالح الناس ومعاناتهم اليومية. فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. وكما يتقدم الأدب والفن كذلك يتقدم الفكر والعلم بدلًا من اغترابهما خارج الزمان والمكان.
وهذا ما فعله لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وما زال الوطن العربي والعالم الإسلامي فيه متأخرًا. واليسار الإسلامي إحدى صياغاته العملية دون الدخول مؤقتًا في المسائل العقائدية التي ما زالت عندنا من المقدسات التي لا يمكن إعادة تأويلها، وهو نوع من دراسات الثقافة الوطنية وعلاقتها بالتغير الاجتماعي، وهو ما يمكن أن يلتقي عليه خصماء الوطن والإخوة الأعداء، وهو أيضًا صياغة منطق الإصلاح صياغة جديدة حتى يتحول من الإنشائيات والخطابات الفضفاضة إلى خطاب دقيق، يجمع بين تحليل الخطاب الديني، وتحليل الواقع الاجتماعي، ووصف الخبرات الحية. فالإصلاح بعد كبوته الأولى في حاجة إلى إصلاح ثانٍ ينهض من جديد. يتعلم من تجربته الأولى ويضع أسسًا منهجية لتجربته الثانية.
(٣) الوحي والواقع
ليس الوحي مجرد كلام أو خطاب أو رسالة أو تبليغ بل هو تنزيل أي اتصال بين السماء والأرض، بين الله والعالم. الواقع هو مكان نزول الوحي كما هو معروف في «أسباب النزول». وتُعاد صياغة الأحكام الشرعية طبقًا لقدرات الواقع وعدم جواز تكليف ما لا يطاق كما هو الحال في «الناسخ والمنسوخ». وقد كتب بعض الإصلاحيين من قبل عن «فقه الواقع».
ولفظ «الواقع» لفظ قرآني. ذُكر ومشتقاته أربعًا وعشرين مرة بوضوح وقوة. منها إحدى عشرة مرة اسمًا، ولفظ «واقع» ست مرات. وواقعة مرتان. وذكرت مشتقاته وقعة، مواقع. وقد يكون الواقع شيئًا حسيًّا مثل الجبل أو النار أو شيئًا بين الحسي والمعنوي مثل السماء أو يوم القيامة في المستقبل. والغالب هو الواقع المعنوي سلبًا مثل العذاب والرجس والرجز والإثم أو إيجابًا مثل الأجر والحق والقول والوعد والدين والكسب. والأكثر استعمالًا هو وقوع الشيء من تلقاء نفسه مثل الحق والقول. فالحق فكر وواقع، نظر وعمل. الحق قول، والقول حق. والوحي حق نظرًا، وواقع عملًا. الحق واقع، والواقع حق وهي الواقعة أي يوم القيامة، واقعة لا تكذب. الواقع صدق، وهو محك التصديق. ليس الصدق تطابق النتائج مع المقدمات كما هو الحال في المنطق الصوري بل هو وقوع الحق، مطابقة الفكر للواقع كما هو الحال في المنطق التجريبي. لذلك ارتبط الواقع بالصدق، وعدم الوقوع بالكذب. كما أن جزاء العمل إيجابًا أم سلبًا واقع نظرًا لارتباط نتيجة الفعل بالفعل ارتباطًا سببيًّا. إذا وقع الفعل وقعت النتيجة.
لفظ «الواقع» من أكثر الألفاظ قربًا إلى الروح العربي الآن. تردد في الفكر العربي المعاصر، وأصبح شرطًا لتقدمه في الفن والفكر والسياسة. وأصبح اللاواقعي نقدًا. بل أصبح غياب الواقع في حياتنا الثقافية أحد الأسباب الرئيسية للتخلف. لا يعني الواقع ما هو شائع من ضرورة قبول الأمر الواقع بمعنى التسليم بكل ما يجري من هزيمة وفقر وقهر. فهذا إنكار للمقاومة. فالمقاومة والرفض والاعتراض أيضًا واقع. المثال واقع أكثر من الواقع. وكما قال فشته، الفيلسوف الألماني، من قبل: «لو آمنت بمثل أعلى أنه موجود. ثم اتضح لي فيما بعد أنه غير موجود. فليس خطئي أنني آمنت به. بل خطؤه هو أنه غير موجود».
الدين واقع بنص القرآن، وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ. فالدين ليس مجرد مواجيد للنفس ولا أحوال لها كما هو الحال في علم النفس الديني، مجرد تعبير عن رغبات وأمنيات وتمنيات لعالم أفضل، ظاهرة ذاتية خالصة. تتبخر بتغير أحوال النفس. الدين حلم لم يتحقق، وأمل صعب المنال. وقد يغالي البعض ويجعله من اختراع النفس وتجسيدًا للوهم، أسطورة من صنع البشر. الدين واقع، له وجود فعلي في حياة الأفراد والمجتمعات، وليس وهمًا أو أسطورة. يقوم على المسئولية الفردية وقانون الاستحقاق الذي سماه القدماء «الكسب» أي ما يحصل عليه الإنسان بنفسه، مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ. فالإنسان لا يستطيع أن يتخلى عن نتائج أفعاله، وهو واقع تحت المسئولية القانونية. الإنسان حر عاقل مسئول، في الدنيا والآخرة.
ولا شيء يستعصي على الوقوع حتى الجبال، وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ. فالوقوع أشبه بقانون الجاذبية. كل شيء يتجه نحو الأرض، الماء والطير والريح والحرارة والبرودة. إذن الخطاب الديني الذي يقوم على الوعظ والإرشاد معتمدًا على الانفعالات الإنسانية، والإحساس بالذنب وضرورة التوبة وطلب المغفرة مع البكاء والنحيب كما يفعل الدعاة الجدد خطاب لا واقع له. الواقع هو حياة الناس وما يدور فيها من فقر وجوع وعطش وعوز. لذلك كثيرًا ما يتحدث القرآن عن الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والأسرى وهم بتعبير المعاصرين «المعذبون في الأرض».
الواقع أيضًا هو التوقع لنتائج الأعمال الإيجابية أو السلبية، الثواب والعقاب، الوعد أو الوعيد، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ. والأهم هو توقع العذاب يوم القيامة نتيجة لسوء الأعمال، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ، وليس مجرد تخويفٍ أو ردعٍ الغاية منه تربية النفس وإصلاحها، وهو ما يسأل عنه أصحاب السيئات، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ. قد يتنازل الإنسان عن الثواب، ولكنه لا يستطيع أن يتفادى العقاب.
إذن تصور الدين واقعًا ليس كفرًا وإلحادًا وإنكارًا للوحي، ولا مادية، ولا ماركسية، ولا وضعية، ولا برجماتية ولا نفعية، بل هو صُلب الدين. الدين بلا واقع سماء بلا أرض، ماء معلق في الهواء، لا يروي ولا يُنبت.
(٤) التنزيل
مما يؤكد صلة الوحي بالواقع مفهوم «التنزيل»، وهو أيضًا لفظ قرآني ورد أكثر من لفظ «الواقع» حوالي ثلاثمائة مرة. أكثرها اسم صلة «ما نزل» (سبعًا وسبعين مرة) للدلالة على الشيء العام حسيًّا أو معنويًّا. بعد ذلك يأتي الكتاب (أربعًا وأربعين مرة) أي الوحي ثم الماء (اثنتين وثلاثين مرة) مما يدل على أن النزول من السماء من أعلى إلى أدنى إما فكرًا وهو الوحي أو ماءً لنبات الأرض. وكلاهما نبت. الأول في الشعور، والثاني في الأرض. كلاهما تخصيب ونماء. الأول في الوعي، والثاني في الطين. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً (العنكبوت: ٦٣)، وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ (الزخرف: ١١) حتى تنبت الأرض دون فيضان أو جفاف، وهو ماء مبارك، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا. ومع الكتاب يُذكر الحق، والفرقان، والحديث، والذكر، والقرآن، والحكم، والآية، والسورة، والفضل، والأمر، والنور، والسكينة، والتنزيل. وكلها تدل على النزول المعنوي. ويدخل في ذلك التوراة والإنجيل. ومع الماء يذكر الغيث، والملائكة، والشياطين، والمائدة، والرزق، والمن، والسلوى، والجبال، والبرد، والجنود، والأنعام، والحديد، والرجس، والسلطان. والنزول يكون بالحق ومرتبط به (ثلاث مرات). وبالتالي ارتبطت الألفاظ الثلاثة: الوحي، والواقع، والنزول. وما ينزل له سلطان، أي له قوة التحقق والوقوع. وكل ما ينزل دون حق لا يكون له سلطان. لذلك ارتبط النزول بالسلطان (ثماني مرات). ونزول الحق للذكر والحفظ والبقاء. ويكون الحفظ والبقاء نصًّا مدونًا بلا تحريف، وفكرًا صائبًا بلا تشبيه، وسلوكًا خالصًا بلا مواربة. ويحدث ذلك كله في الشعور وفي الذهن وفي الفكر والسلوك، في الفرد والجماعة، في الحاضر وفي التاريخ والماضي والمستقبل. يحدث للتصديق والبيان والهدى والرحمة والشفاء والحكم حين الاختلاف والأمر والسكينة والفرح … إلخ، تنزيل في عالم الحياة.
ويتطلب التنزيل أربعة أشياء: مصدر التنزيل، كيفية التنزيل، موضوع التنزيل، مكان التنزيل. ﻓ «مصدر التنزيل» هو رب العالمين، وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الشعراء: ١٩٢)، وهو تنزيل ممن خلق السموات والأرض، تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ (طه: ٤). أي إنه تصرف في ملكه وتنظيم له، وهو الله العزيز الحكيم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (الزمر: ١)، وهو الرحمن الرحيم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (فصلت: ٢)، وهو الحكيم الحميد، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت: ٤٢)، وهو العزيز الرحيم، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيم (يس: ٥). فالتنزيل تعبير عن الصفات الإلهية، الربوبية والعزة، والرحمة والحكمة. التنزيل من طبيعة الكرم الإلهي، وهو في نفس الوقت لصالح الإنسان. فهو نزول بالحق ومن الحق، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (الإسراء: ١٠٥). والحق قوة وسلطان، مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ (النجم: ٢٣).
أما «كيفية التنزيل» فإنه تنزيل متدرج متتالي على التوالي، عدة مرات، وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا طبقًا للحاجة والمواقف التي تستدعي طلبًا، والمشاكل التي تتطلب حلًّا، وهو ما سماه علماء القرآن «أسباب النزول». لم يتم التنزيل دفعة واحدة كما حدث في الكتب المقدسة السابقة بل على مدى ثلاثة وعشرين عامًا في مكة لتأسيس العقائد، وفي المدينة لوضع التشريعات. وقد نزلت التوراة من قبل، مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ (آل عمران: ٩٣). نزل القرآن على مهل، خطوة خطوة حتى يتغير الواقع، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (الإسراء: ١٠٦). وقد حملته الملائكة، وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا (الفرقان: ٢٥). ونزل الروح وهو جبريل، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ (القدر: ٤)، وهو الروح الأمين، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (الشعراء: ١٩٣).
أما «موضوع التنزيل» فهو الكتاب الذي لا ريب فيه، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ، وهو الوحي والرسالة والأمانة والحق والفرقان والقرآن. والكتاب هو الأعم، أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا. وقد طلب أهل الكتاب كدليل على صدق الرسول أن ينزل عليه الكتاب، يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا (النساء: ١٥٣)، يقرءونه كما نزلت عليهم الكتب السابقة، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ (الإسراء: ٩٣). وقد تنزل سورة وهي جزء من الكتاب لبيان أن الوحي نزل مفرقًا، يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ (التوبة: ٦٤) لتفضح موقف المنافقين. أو آية، أصغر من السورة، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ (الأنعام: ٣٧). ويسوءُهم أن ينزل بساحتهم في الصباح، فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (الصافات: ١٧٧). ويتمنون ألا ينزل شيء، قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ (محمد: ٢٦).
وهو الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل، تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ، وهو أحسن الحديث كتابًا، وهو الذكر الذي يدخل في القلب فيذكره، يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، وهو القرآن، لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ. وفي التنزيل تبيان كل شيء، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ. ليس التنزيل إذن مجرد شيء نزل من السماء بل هو معرفة وحكمة وحق وهدًى وتغيير في المجتمع، وحركة في العالم.
أما «مكان التنزيل» فهو الرسول، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا. فالرسول واسطة للتبليغ بين الحق والناس، وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ، وهو محمد الرسول، وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، وهو عبد الله، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا. ولا ينزل إلا على قلب عربي لأنه بلسان عربي مبين، وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ. وقد نزل على قلب الرسول مباشرة في وعيه وضميره، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ، حتى ينبت ويستثمر ويخرج للناس في الحديث هدًى وتفصيلًا. وكما تنزل الملائكة والروح على الرسول تنزل الشياطين على كل أفاك أثيم. فالسؤال، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، والإجابة تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. فالشياطين تنزل بالغواية، وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ. وقد كان الصحابة عند سماع القرآن يشعرون كأنه نزل عليهم مباشرة وهو ما قاله الصوفية أيضًا. وربما هو ما يشعر به كل مؤمن.
(٥) القرآن
في هذا الشهر الكريم، شهر رمضان نزل القرآن. وبه ليلة القدر في العشر الأواخر منه، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. فهو الشهر المبارك. ويُقرأ في الفجر وحين السحر، في ساعات الليل الأخيرة أو ساعات النهار الأولى، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا. دون الإطالة أو الشقاء أو إجهاد النفس، طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى.
وقد ورد لفظ «القرآن» حوالي سبعين مرة في سبعة معانٍ متمايزة:
-
(١)
القرآن تنزيل من عند الله؛ نزل مفرَّقًا، أجوبة على أسئلة، وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ. وكان الكفار يتمنون أن ينزل القرآن جملة واحدة حتى لا يؤثر في الواقع، ولا يغير حياة الناس، ويظل كلامًا يُسمع ويُنسى ولا يُعمل به، لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً. نزل مفرقًا حتى يثبت في القلوب تدريجيًّا، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ. ولا داعي للعجلة، وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، أن يتحقق في حياة الناس. وهذا هو معنى التنزيل، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، وهو أيضًا معنى الترتيل، وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. أي الشعور بالمعاني والحقائق وقياس مدى المسافة بينها وبين الواقع.
-
(٢)
وهو حق: نزل من الحق وبالحق من أجل الحق. ليس افتراء، وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى. بل هو وحي من عند الله، بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ، وهو من لدن حكيم، وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، وهو كتاب مبين، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. لا يؤمن به الكفار، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ، ولا يستمعون إليه، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ، وهو محفوظ من الضياع والتحريف، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، وهو قرآن مجيد، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، وهو قرآن كريم، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، وهو قرآن عظيم، وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وهو قرآن حكيم، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ.
-
(٣)
ولا يستطيع أحد أن يقلده أو أن يأتي بمثله، وهو من دلائل الإعجاز. ويتحدى القرآن البشر أن يأتوا بمثله، ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ. وقد جمع فحوى. فيه منافع الناس ومصالح البشر، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ. وخرجت فيه كل الأمثلة، وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ. فالإعجاز هنا ليس بلاغيًّا فقط بل هو تحدٍّ فني وتشريعي وعلمي.
-
(٤)
وهو مصدق لما نزل سابقًا، ومتمم للتوراة والإنجيل. فهو وحي واحد نزل على فترات طبقًا لدرجة تطور الوعي الإنساني، حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ. فالأديان واحدة ومتنوعة. ويقص على بني إسرائيل والنصارى تاريخ تعاملهم مع أنبيائهم تكذيبًا وهو الأغلب أو تصديقًا وهو الأقل، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
-
(٥)
وهو قرآن عربي بلسان عربي مبين، وليس أعجميًّا. نزل بلغة العرب من أجل فهمه بلغته الأصلية، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وهو بلسان قويم دون عوج، قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فصلت آياته واستنبطت منه الأحكام طبقًا لقواعد اللغة العربية، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. القرآن المترجم للدراسة وليس للعبادة. ويستحيل ترجمة كل شيء. إذ يفقد القرآن المترجم البلاغة العربية وأساليبها.
-
(٦)
والقرآن للطاعة والامتثال بل وللسجود، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ. هو قرآن للتدبر والفهم، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. لا يُهجر ولا يُنسى، إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا. هو قرآن للذكر والتلاوة، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وهو تذكير بيوم الميعاد، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ. يستمع إليه الجن فيؤمن، اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. هو قرآن للاتباع بعد الاستماع، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
-
(٧)
والقرآن يهدي الناس إلى الصراط المستقيم، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ. يبدأ بالإنذار، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ. ومن يهتدي فإنما يهتدي لنفسه، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ. ولو نزل هذا القرآن على جبل لتصدع من خشية الله، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ. فيه شفاء ورحمة للناس، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وتُسيَّر به الجبال، وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ.
وهو مشتق من أول لفظ نزل «اقرأ». الله معلمه، عَلَّمَ الْقُرْآنَ. تلك هي المعاني للقرآن في هذا الشهر الكريم الذي نزل فيه. لا يتحول إلى وثن ورقي بالقطيفة والذهب يُعلق في الأعناق أو يوضع داخل المركبات أو يتهادى بين الرؤساء، ويقبل ويحنط كالمومياء.
(٦) الواقع
انقسم الفلاسفة إلى تيارين كبيرين: الواقعيون والمثاليون كما انقسمت الفلسفة إلى مذهبين كبيرين: الواقعية والمثالية. الأول يثبت وجود العالم بصرف النظر عن وجود الذات العارفة وإدراكها له. والثاني يثبت وجود الذات المدركة للعالم، وينكر وجود العالم خارج رؤية الذات له. وارتبطت المثالية بالدين لأن الله وخلق العالم وخلود النفس، وهي العقائد الثلاث الكبرى في كل دين، موجودة سواء آمن بها الإنسان أم لا. كما ارتبطت الواقعية بالعالم وبالحياة الدنيا ضد التصورات والأفكار المسبقة التي قد تصل إلى حد الأوهام والخيالات والتعويضات النفسية. وقامت محاولات للتوسط بين المذهبين في المثالية الجديدة أو الواقعية الجديدة ولكنها ظلت أقرب إلى المذهبين الرئيسين المتقابلين.
- الأول: وقوع الحدث، وهو في الغالب في الصيغة الفعلية. فالحق يقع على الباطل ويدمغه فإذا هو زاهق، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ومن يهاجر ويستشهد فإن أجره يقع على الله طبقًا لقانون الاستحقاق، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ. والأكثر استعمالًا هو وقوع ما لا يتوقعه الإنسان نتيجة لأعماله السيئة مثل الرجس والغضب وما يقع من الله على الإنسان، قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ. وقد وقع الرجز على من لا يؤمن بوقوعه، وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ. ويقع الإثم على من يستحقه وقد كان يستعجله لأنه كان لا يؤمن به، أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ. ويقع القول ويتحقق في الواقع. فالقول هو المثال الذي يتحقق في الواقع كما يقول الفلاسفة، وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ. ويقع القول ويتحقق الناس بما كانوا ينكرون، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ. ويريد الشيطان أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس ولكن ما يريده لا يتحقق بوعي الناس بالحق، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ. فالشر واقع أيضًا مثل الخير. والأمر مرهون بإرادة الإنسان.
- والمعنى الثاني: أن الواقع في الدنيا واقع أيضًا في الآخرة. فالآخرة واقعة لا يمكن إنكارها حتى ولو كانت متوقعة. فالواقع ليس فقط هو الذي وقع في الماضي أو الحاضر، وهو أمر طبيعي بل ما قد يقع أيضًا في المستقبل بناء على امتداد الواقع عبر الزمان، إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. فالواقع يحدث في الزمان الممتد من الماضي إلى المستقبل، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ.
- والمعنى الثالث: وقوع الوعد، ثوابًا أو عقابًا. وفي هذه الحالة تكون الواقعة خافضة رافعة، خافضة للأشرار ورافعة للأخيار، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ. والأخيار مطمئنون للوقوع في المستقبل لأنهم ينالون الجزاء. والأشرار يفاجئون بوقوعه في المستقبل ونيلهم العقاب. ويشفق الظالمون بما كسبوا وهو واقع بهم، تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ. والوعي صادق. والصدق يعني الوقوع، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ.
- والمعنى الرابع: الوعد واقع، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ. والعذاب واقع، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. ومهما سأل السائل عن وقوعه فإنه واقع خارج السؤال والجواب أي موضوعي خارج الذات، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ. والكذب ضد الصدق. ولما كان الصدق هو الوقوع فالكذب ضد الوقوع، إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ. والواقع مرئي، ولكنها رؤية صادقة، وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا.
- والمعنى الخامس: الواقع أيضًا هو الطبيعة والكون والعالم، فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. والجبل واقع لا يمكن إنكاره، وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِم. والسماء مرفوعة والأرض منخفضة. فلا السماء تقع على الأرض، ولا الأرض ترتفع إلى السماء، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ.
والفعل «وقع» مُشابه صوتيًّا للفعل «فقع» أي وقوع الفعل مباشرة دون تأخير. فالملائكة تفقع ساجدين لآدم بعد نفخ الروح فيه، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. وقد ذكرت الآية مرتين. فالوقوع ليس فقط للحدث بل أيضًا للفعل الضروري. فالعجب إذن أن يكون الفكر الإسلامي خياليًّا أسطوريًّا ميتافيزيقيًّا يدور حول ما لا واقع له ولا نفع فيه.
(٧) التمني
وفي مقابل الواقع، التمني. الواقع دث والتمني هوى. الواقع صدق والتمني كذب. الواقع حقيقة والتمني بطلان. وقد عُرفت الشخصية العربية بأنها تتمنى أكثر مما تحقق، وأنها تتحدث عما ينبغي أن يكون أكثر مما تحقق ما هو كائن. أمنياتها دليل على عجزها وضعفها وتحقيق ما تريد عن طريق الرغبات وليس الأفعال.
- الأول: وهو الأكثر استعمالًا أن التمني من فعل الشيطان وإلقائه وأنه يمني الإنسان بما لا يقع ولا يحدث بالهمس في أذنه من أجل إضلاله وضلاله، وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ. والأماني وعود مغرورة، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا. ولا يفرق الشيطان بين النبي وغير النبي. إذ يلقي في روع كليهما الأماني والغرور، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ. فالشيطان رمز الأماني الواهية والرغبات والأهواء التي لا تقع، والأوهام والأساطير التي لا أساس لها.
- والمعنى الثاني: أن التمني نفسه غير الواقع، وأنه جانب ذاتي في الإنسان يعبر عن رغبة مستحيلة التحقيق في مقابل الواقع الحاضر أو المستقبل، أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فللهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى. يتمنى الإنسان أن يكون له الأولى والآخرة حتى يفعل ما يشاء ويكون صاحب الأمر في كل شيء في الحياة وبعد الممات.
- والمعنى الثالث: أن الإنسان لا يتمنى الموت لأنه يريد أن يعيش أبد الدهر، ولا يريد حسابًا أو عقابًا بعد الممات، وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وأحيانًا يتمنى الموت إن كان على يقين بأن الدار الآخرة له وأن مصيره الجنة ثوابًا له على أعماله أو لأنه من أحباء الله وأصفيائه، قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وإن زعم أنه من أولياء الله فعليه أن يتمنى الموت، إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ للهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ. ولما عرفوا أنهم ليسوا كذلك خافوا من لقاء الموت والحساب والعقاب بعده، وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْه.
- والمعنى الرابع: تمني ما في أيدي الناس، وما فضل الله بعضهم على بعض في الرزق، وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ. فمال قارون لم يستمر. وثروته لم تدم. ويضرب به المثل الشعبي على هلاك الغنى والجد والاجتهاد الذاتي وليس بحسد ما في أيدى الآخرين. هذا التمني فتنة للنفس وغرورها، وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ.
- والمعنى الخامس: تمني أهل الكتاب وحسدهم وتمنيهم أن تستمر النبوة فيهم، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ. وقد تمنى أهل الكتاب ألا يدخل الجنة إلا اليهود والنصارى مع أن الجنة مفتوحة لكل صاحب عمل خير بصرف النظر عن دينه، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ.
الحياة إذن ليست بالتمني بل بالجهد والعمل والكسب والاجتهاد والاعتماد على القدرة الذاتية. التمني ذاتية بلا موضوعية، أهواء ورغبات مستحيلة التحقيق. والإسلام دين واقعي، وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ. التمني فضاء فسيح للتفريج عن النفس والتعبير عن الأحلام والتعويض عن الرغبات المكبوتة. ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى.
التمني هو أمل زائف لا يفيد العاجز والمحبط والضعيف والكسول. فمجموع الخطأين لا يكوِّن صوابًا: التمني والعجز. وقد خرجت كثير من الأمثال العامية في هذا المعنى كبائعة اللبن التي بعد بيعها وشرائها بثمنه ثروة حيوانية تغنيها، وبها تشتري الأرض، وتبني المنزل لتقطن فيه، ثم فجأة تتعثر ويقع اللبن على الأرض وتتحطم الأماني والأحلام. ومثل المثل الشعبي «فلسنجي بنى له بيت، طمعنجي سكن له فيه».