فلسفة السؤال
(١) الفلسفة وحياتنا المعاصرة
هناك بعض التعبيرات السلبية في لغتنا اليومية خاصة بالفلسفة مثل «بلاش فلسفة»، «إنت بتتفلسف علينا»، وتعني الكلام الزائد غير المفهوم وغير المفيد، اللغو الذي لا يحل ولا يربط، في حين أن الفلسفة ليست كذلك. الفلسفة إعمال العقل والنظر الحر دون أحكام مسبقة دينية أو سياسية أو اجتماعية في واقع سياسي واجتماعي وثقافي معين لشعب ما، في مرحلة تاريخية محددة، عن طريق العقل النقدي من أجل التغير الاجتماعي، وليس عن طريق العقل التبريري للإبقاء على الوضع القائم. فهي ضرورية من أجل البحث عن اليقين النظري أو العملي.
ليست الفلسفة المنقول عن القدماء نظرًا لتغير المرحلة التاريخية كلها من الانتصار إلى الانكسار، وتغير الظروف الحضارية من اليونان القديم إلى الغرب الحديث. كما أن الفلسفة القديمة استقرت على جانب واحد، الأشعرية في الكلام، والإشراقية في الفلسفة، والطرقية في التصوف، والمذاهب الأربعة في الفقه، واتحدت مع السلطتين الدينية والسياسية. وتحولت إلى ثقافة شعبية في الأمثال العامية. الفلسفة هي الإبداع وتجاوز المنقول من القدماء إلى المحدثين إلى المبدع الجديد. فالعالم ليس هو «الحافظ» بل «المبدع»، ليس العالم بالرواية بل بالدراية. فالعلم ليس المعلومات بل قراءة ما بين السطور، استنباط المعلوم من المجهول.
وليست الفلسفة هي تلك الوافدة من الغرب والتي تبنتها النخبة ترجمة وعرضًا. فقد نبتت في بيئة مخالفة، ويعاد زرعها في بيئة مخالفة أخرى. إشكالاتها أحيانًا مزيفة، وحلولها أحادية أو عدمية. تعبر عن العصور الحديثة الأوروبية في حين أننا في نهاية عصرنا الوسيط. والفلسفة المعاصرة الغربية تعبر عن نهاية العصور الحديثة في الغرب ونحن في بداية عصورنا الحديثة منذ الإصلاح الديني وفجر النهضة العربية. كل فلسفة تعبر عن اللحظة التاريخية التي تمر بها حضارتها. ولا تنقل من حضارة إلى أخرى وإلا خرجت الحضارة عن مسارها التاريخي. وتحولت المسارات كلها إلى مسار واحد كما هو الحال في تحول حضارات العالم كله في الشرق إلى مسار الحضارة الغربية، وقسمته إلى قديم ووسيط وحديث، مع أن الحضارة الإسلامية ليست في الوسيط بل لها تحقيبها الخاص. ما يسمى بالوسيط الأوروبي هو عصر الازدهار الإسلامي، وما يسمى بالحديث الأوروبي هو عصر الأفول الإسلامي، عصر الشروح والملخصات.
حياتنا المعاصرة هو موضوع الفلسفة، والتأمل النظري هو واقعنا المعاصر الذي يفرض موضوعاته، ويتطلب تنظيرًا لها من أجل ممارستها الفعلية. أولها فلسفات التحرير لاستكمال حركات التحرر الوطني بعد أن عاد الغزو الاستعماري العسكري المباشر مثل فلسفة المقاومة عند فشته، وفقه الأرض المغصوبة في الفقه القديم. وثانيها فلسفات الحرية تدعيمًا لحرية الإنسان ضد كل مظاهر القهر الديني والسياسي والاجتماعي والتاريخي. ويتم ذلك عن الحوار مع فلسفات الحرية العقلية عند ديكارت وكانط، والنفسية عند برجسون، والشخصانية عند مونييه، والوجودية عند سارتر. وثالثها فلسفات العدالة الاجتماعية لحل قضية الفقر والغنى وسوء توزيع الدخل القومي والتعامل مع فلسفات العدل الاجتماعي بكل أنواعه من اشتراكية طوباوية وخيالية ودينية ومثالية وعلمية، وما يقابلها في الموروث القديم من نظريات الاستخلاف والإقطاع والمشاع والمساواة. ورابعها فلسفات الوحدة القادرة على حماية الأمة من كافة أشكال التجزئة الطائفية والعرقية مثل فلسفات الوحدة في الغرب عند هيجل والرومانسية الألمانية ونظريات وحدة الشهود عند ابن الفارض، ووحدة الوجود عند ابن عربي، والوحدة المطلقة عند ابن سبعين في التصوف الإسلامي. وخامسها التنمية الشاملة من أجل الاعتماد على الذات وتأصيلًا لها في الموروث القديم في نظريات التسخير وإعمار الأرض واستثمار الثروات الطبيعية والحيوانية، وفي نظريات التنمية المستدامة والمستقلة في أمريكا اللاتينية وآسيا. وسادسها فلسفات الهوية التي تحمى الأمة واستمرارها في التاريخ بدلًا من الاستقطاب الحالي بين السلفية والعلمانية واعتمادًا على فلسفات الأنا والذاتية في الغرب أو لدنيا خاصة عند محمد إقبال. وسابعها وآخرها فلسفات تجنيد الجماهير وحشد الناس من أجل تحويلهم من كم إلى كيف اعتمادًا على ثورة الجماهير عند أورتيجا أو تربية المضطهدين عند فريري أو مفاهيم العامة والخاصة والجمهور في الموروث القديم وما استحدث من فعاليات اجتماعية جديدة مثل العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين الوطنيين.
الفلسفة إذن ضرورية في حياتنا المعاصرة لمزيد من الوعي بالواقع وبالموقف الحضاري، علاقتنا بالموروث القديم الذي ما زال حيًّا في الشعور الجماهيري دون القطيعة معه، وعلاقتنا بالوافد الحديث الذي أصبح في عقل النخبة، زرعًا في غير أرضه، ولم ترتبط الجماهير به، وعلاقتنا بالواقع المعاش الذي يحتاج إلى تأمل وتدبر وإدراك وتعامل مباشر مع الواقع بالمخزون النفسي القديم أو بما ورد من ثقافة حديثة من خلال الإعلام أو بالبداهة والفطرة والحكمة الشعبية.
الفلسفة إذن ليست الكلام المعقد غير المفهوم بل هي القدرة على الدخول في أعماق الواقع لفهمه وتغييره. حينئذٍ تصبح الفلسفة جزءًا من حياة الناس ومطلبًا لهم.
(٢) فلسفة السؤال
السؤال والجواب منهج في الفكر الغربي المعاصر سماه ياسبرز فلسفة السؤال. فلا فلسفة بلا سؤال. وأحيانًا يكون السؤال بلا جواب، وهو إما التساؤل الذي يعبر عن الدهشة أو الذي لا إجابة نظرية عليه.
ويعني السؤال أولوية الواقع على الفكر. الواقع يسأل والفكر يجيب تجنبًا للأسئلة النظرية التي لا تنتج عنها آثار عملية مفيدة للناس في حياتهم ومماتهم.
والصيغة الشائعة في القرآن الكريم لذلك من بين عديد من الصيغ هي «يسألونك». وقد وردت خمس عشرة مرة. وهي أسئلة عن مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حول ما يعرض للناس من قضايا وآراء، وما يواجهونه من مشاكل وأزمات.
وهناك سبعة أسئلة يسألها الإنسان في حياته الخاصة والعامة.
- السؤال الأول: ما يتعلق بأسلوب حياته، ما يجوز له وما لا يجوز، وهو سؤال عن الحلال، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ. فالإنسان ليس موجودًا طبيعيًّا فقط بل هو أيضًا موجود أخلاقي. بينه وبين الطبيعة ضرورة وشرع، حاجة وأخلاق، إشباع وامتناع. صحيح أن الطبيعة خيِّرة، وأن الإنسان يولد على الفطرة، وأن الإسلام دين الفطرة، وأن الإنسان لو سلك طبعيًّا أي بفطرته لكان خيرًا. إلا أن الاحتراز واجب، والحذر مطلوب، فالطبيعة بلا حدود. ومن هنا جاءت الشريعة لتنظيم العلاقة بين الإنسان والطبيعة على افتراض أنها خير. لذلك كان السؤال عن الحلال وليس عن الحرام، وكان الجواب من الطيبات وليس من الخبائث. وليس كدعاة هذه الأيام الذين يكون الحرام في أفواههم قبل الحلال، والخبائث قبل الطيبات حتى جعلوا الدين قهرًا ومنعًا إضافة إلى القهر والمنع في الحياة الاجتماعية والسياسية.
- والسؤال الثاني: عن الطعام والشراب والكسب الحلال، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا. فالخمر كما هو معلوم حُرِّمت على مراحل. الأولى الإثم فيها أكبر من النفع مما دفع النخبة للامتناع عنها. إثم ذهاب العقل والصحة والمال وفقدان السيطرة على الانفعالات والأفعال هو السبب المباشر في اجتنابها كحكم أخير، بعد الامتناع عنها حين الصلاة فقط حتى يكون الإنسان على وعي بما يقول. ويتدبر ويفكِّر ويتذكَّر نعم الله عليه. والمنافع بعض الملذات والمكاسب والأرزاق، والتجارة والزراعة والصناعة أربح وأنفع. اشتغل بها اليهود والنصارى. وكانت مصدرًا لرزقهم مثل لحم الخنزير. والميسر كسب بلا جهد ولا عناء، وإنتاج وخدمات. فالمال لا يولد المال إلا بالجهد والعرق. لذلك حُرم الربا. ومن يخسر في الميسر يخسر بغير وجه حق. ويضيع ماله دون استثمار. كما أن الميسر يوقع في الشحناء والبغض. فقد أخذ من لا يستحق ممن يستحق. يحركه الطمع والربح السريع.
- والثالث: سؤال عن محيض النساء، فلا حرج في الدين. وليس في الإسلام حرج. يسأل الرجال، وتسأل النساء. المحيض أذًى تعتزل النساء فيه، وهو رأي الفطرة والطبيعة والعادة والصحة والطب والذوق السليم. لذلك تجب الطهارة بعده، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ.
- والرابع: عن اليتامى وهو التوجه الاجتماعي للسؤال، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ. فاليتيم من لا عائل له. وكان الرسول يتيم الأب والأم. ومن هنا وجبت حسن معاملة اليتيم، كفله وتعليمه وتثقيفه وتربيته وتزويجه وتأهيله للحياة العامة. ولا ضير من الزواج منهم، ليس طمعًا في أموالهم بل حماية لهم، وهو أحد أسباب تعدد الزوجات بدلًا من استغلالها من الكفيل، لنفسها ولأموالها.
- والخامس: عن الإنفاق. فالإنسان جُبل على الشح والإمساك، وطُبع على التقتير والبخل. هنا تأتي الشريعة لتهذيب الفطرة وإبراز طبع الكرم والعطاء والبذل والسخاء، وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. والعفو هو ما زاد عن الحاجة، وما أتى تفضلًا وكرمًا، ثم يأتي التخصيص بعد التعميم. الإنفاق خير بداية بالوالدين والأقربين والمساكين وابن السبيل، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ. فبعد الوالدين يأتي الأقرباء تدرجًا، ثم العود إلى اليتامى، من لا عائل لهم، ثم المساكين والفقراء، ثم العابر والمسافر والمار.
- والسادس: عن القتال، وقته وما ينتج عنه من مغانم حين النصر، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. فالدفاع عن النفس لا وقت محدود له بل في كل الأوقات حتى ولو كانت الأشهر الحرم أو أوقات المعاهدات والتهدئات. فالإخراج من الديار، وهدم المنازل، وتجريف الأراضي، وقتل النساء والأطفال والشيوخ، واغتيال المقاومة توجب القتال. فإذا ما غنم المسلمون من الأعداء بعد النصر فإن السؤال يكون عن الأنفال، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ. فلا غنم شخصيًّا. الغنيمة لبيت المال. فالجهاد فريضة وليس حرفة.
- والسابع: عن مظاهر الطبيعة مثل الأهلة. والجواب أنها يُعرف بها الحساب ومواقيت الشعائر مثل الصلاة والصيام والحج، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. فرابطة الإنسان بالطبيعة هو الزمن والإيقاع ودوران الأرض حول نفسها مرة كل يوم ومنها ينشأ الليل والنهار، وحول الشمس مرة كل عام ومنها تنشأ الفصول. ومنها نشأ علم الحساب والفلك.
هذه هي فلسفة السؤال والجواب في القرآن الكريم. السؤال الواقعي والجواب النافع.
(٣) السؤال النافع
ويتضمن القرآن في فلسفته للسؤال الإجابة عن السؤال النافع وترك السؤال الذي لا نفع فيه، السؤال النظري الخالص الذي لا يحتاج إلى إجابة نظرية بل إلى استعداد عملي، وهو في سبعة موضوعات:
-
(١)
كثرة السؤال والإلحاح. فكل سؤال له إجابة. وكل إجابة تتضمن تشريعًا. وكل تشريع قيد. والإنسان يكره القيود بطبعه. فيلفظ الشريعة، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ. والسبب كثرة السؤال. فقد سأل موسى كثيرًا رفيقه الخضر حتى شعر أنه أكثر السؤال، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي. وهذه هي تجربة اليهود، كثرة السؤال ادعاءً للإيمان والطاعة ثم رفض الإجابة امتناعًا وعصيانًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا.
-
(٢)
والسؤال لا يكون من الصديق إلى الصديق، ومن الحميم إلى الحميم، وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. فبين الأصدقاء هناك لغة الصفاء والاتحاد والتفاهم المشترك دونما حاجة إلى سؤال. السؤال يقتضي التمايز بين طرفين، والغربة بين شخصين. السؤال يكون من الغريب إلى الغريب.
-
(٣)
والسؤال لمزيد من العلم وليس لمجرد حب الاستطلاع. السؤال عما يمكن معرفته وليس عما يستحيل معرفته مثل السؤال عن المجهول المطلق مثل الغيب الذي لا وسيلة للإنسان إلى معرفته، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وهو ما قرره كانط من قبل عن حدود المعرفة الإنسانية وإمكانياتها. فالإنسان لا يعرف إلا الظاهر، ما يبدو له، وليس الباطن ما يخفى عليه. العلم علم بالظواهر وليس بالبواطن على الرغم من ادعاء الصوفية وأهل الباطن والباطنية بوجه عام.
-
(٤)
والمحتاج لا يسأل بل تُعرَف في وجهه الحاجة ويتعرف الناس عليه، تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا. مع أن السائل في حاجة، وهو سؤال عملي، ولكن الكرم لا يُطلب، والعون لا يُسأل احترامًا لكرامة الإنسان وإلا تحول الفقراء إلى سائلين وسوالين. وقد نقد محمد إقبال «فلسفة السؤال» أي الشحاذة، من يسير طيلة النهار مادًّا كفيه إما طلبًا للإحسان من الناس أو طلبًا للعون من الله. فالمؤمن ليس شحاذًا. والشحاذ ليس مؤمنًا. والمؤمن من يعمل بقبضة يديه في الأرض ولا يرفعها إلى السماء.
-
(٥)
والسؤال عن الكتاب أصله ومصدره ومرسله ورسوله لا فائدة منه. السؤال عن الرسالة وفحواها ومتطلباتها وغايتها والهدف منها ومنفعتها هو الأهم. ليس السؤال هو نزول كتاب من السماء. فالكتاب ليس شيئًا يرى بل كلامًا يُقرأ وفعلًا يتحقق، يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ. كلام الله يُرسل إلى ذهن النبي إلى عقول الصحابة شفاهًا حتى يؤثر فيهم بالصوت قبل التدوين. والقراءة أقرب إلى القلب من الكتابة؛ لذلك آثر الصوفية الطريق الشفاهي للتعليم وليس الطريق الكتابي.
-
(٦)
والسؤال عن الساعة سؤال يقضي على الوجود الزماني، وأن الجهل بساعة الموت بعد العلم بساعة الميلاد هو شرط الإبداع الذاتي قبل وفاة الأنا؛ لذلك قال الفلاسفة إن الوجود زماني، وإن الزمان وجودي. ومن لا يموت لا يكون إنسانًا. لا يحب ولا يخاطر ولا يسرع ولا يفعل شيئًا في اللحظة لأن عمره محدود في الزمان كله كما صورت سيمون دي بوفوار في مسرحيتها «كل البشر فانون»، يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ، وهو معنى سؤال أحدهم للرسول «متى الساعة؟» قال: «فاستعد لها». ليس الزمان هو الحدث الخارجي، الواقعة، بل هو شعور داخلي يدفع إلى الحركة والسبق. زمان الحدث هو الزمان الكمي المكاني، زمان القطارات والعربات والبواخر والمواصلات، وهو ما عبر عنه برجسون بوضوح في التمييز بين الزمان المكاني، زمان الساعة، الامتداد، والزمان الشعوري، الزمان النفسي، التوتر.
-
(٧)
والسؤال المتناقض هو رؤية الله، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً. فالله لا يُرى بالعين لأنه ليس شيئًا، وليس موضوعًا مقابلًا للبصر. الله مثل أعلى يشعر به الإنسان لتحقيقه. أقرب إلى الروح والمعنى أو الهدف والغاية. لذلك كان الاتجاه إلى أعلى، ورفع الأيدي إلى السماء أو إلى الأمام واستبصار المستقبل كما هو الحال في المعنى الاشتقاقي في اللفظ «بنى» ارتفع أو «رنا».
وهنا يظهر التوجه القرآني على أنه دافع نحو الفعل والعمل بأقل قدر ممكن من النظر على عكس ما هو حادث الآن، أكبر قدر ممكن من النظر وأقل قدر ممكن من العمل. وكلما عجز العمل تفوق النظر، تعويضًا غير قصدي أو نفاقًا قصديًّا. لذلك كتب محمد عبده «ما أكثر القول وأقل العمل». وفي القرآن: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ. وفي الأحاديث «خيركم للناس أنفعكم للناس».
(٤) السؤال وإعادة توزيع الدخل
ويعني السؤال أيضًا إعادة توزيع الدخل بسؤال الفقير حقه في أموال الغني، فالمال مال الله. والإنسان مستخلف فيه. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار. وليس له حق الاستغلال والاكتناز والاحتكار. وبالرغم من أن العمل وحده مصدر القيمة لذلك حُرِّم الربا. واستنكف الأنبياء من الإرث والميراث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ولا نورَّث»، إلا أنه يحدث أحيانًا تفاوت طبقي في المجتمع. وينقسم المجتمع بين أغنياء وفقراء. وتنقسم أساليب الحياة إلى نوعين: حياة بذخ وإسراف وترف للأغنياء، وحياة فقر وجوع وعوز للفقراء.
هنا يكون السؤال عن حق الفقراء في أموال الأغنياء سؤالًا مشروعًا بل وواجبًا. هو سؤال حق وليس سؤال صدقة، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وتتكرر الآية مرة أخرى للتأكيد، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وقد أكد الرسول هذا المعنى عندما سُئل عن معنى الآية هل المقصود بها الزكاة فأجاب: «في المال حق غير الزكاة». وإذا كان المجتمع كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعت له باقي الأعضاء بالسهر والحمى، فمن الطبيعي أن يطالب من لا مال له بحقه في من له مال. ليس السؤال هنا شحاذة على الطريق كما هو الحال في الشوارع وعلى ناصية الطرقات من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى والعجزة والمجذومين المجرورين بالعربات أو المحمولين على الأكتاف يسألون الناس مباشرة أو على نحو غير مباشر ببيع مناديل ورق صغيرة أم كبيرة. فهؤلاء نهرهم الرسول وقال فيهم: «لئن يأكل أحدكم من عمل يده خير من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه». وليس عطاء الأغنياء لهم بمد أيديهم من العربات الفارهة المكيفة مصادفة في إشارات المرور الحمراء أو من التوقف للزحام صدقة وكرمًا ليخزي العين، ويمنع الحسد، ويشرِّع لكسبه اللامشروع كما يحدث في موائد الرحمن، وهو ما نقده أيضًا محمد إقبال وسماه «فلسفة السؤال» عند من يمد يده باسطًا إياها إلى السماء كي يسقط فيها الرزق من الله عن طريق الدعاء أو من الناس عن طريق السؤال. فكلاهما شحاذة. وهذا السائل صاحب الحق لا يجوز نهره لأنه يطالب بحقه في المال العام وثروات الأمة، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. والعطاء من الغني شكر على النعمة واعتراف بها، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ. لذلك لا يجوز للفقير السكوت عن المطالبة بحقه في أموال الغني. لذلك قال أبو ذر وأعاده الأفغاني «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه».
السؤال إذن بهذا المعنى، سؤال الفقراء حقهم في أموال الأغنياء، تذكير بأوجه الإنفاق العام للمال الزائد عن الحاجة، المأكل والملبس والمشرب والمسكن والتعليم والعلاج، وهي الحاجات الأساسية للناس. بعد ذلك يبدأ الإنفاق العام على ذوي القربى وهم الأقرباء الذي يعرفهم الأغنياء. والأقربون أولى بالشفعة في الإنفاق والصدقة والبيع والشراء والتزاور والتعاطف والتراحم. وهؤلاء لا يسألون لأنهم معروفون من الأقارب ويتعففون. ثم اليتامى الذين لا عائل لهم. والأمة عائل من لا عائل له. ومِن ثَمَّ لا يشعر اليتيم بأنه بلا أهل لأن المجتمع أهله. ثم المسكين، أي الفقراء إلى حد الكفاف وتحت خط الفقر، احترامًا لآدميته. ومن مقاصد الشريعة الحفاظ على حقوق الآدمي. ثم ابن السبيل وهو المسافر الغريب عندما يحل في بلد. وهم الغرباء المهاجرون المشردون المطرودون، من في حاجة إلى إيواء، سكن وعمل واستقرار. ثم يأتي السائلون في النهاية الذين يطلبون بأنفسهم ولا يُعرَفون بسيماهم، وهو ما حددته الآية الكريمة، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ. وفي الأرض كفاية للجميع. فقد خُلقت الأرض للمعيشة والاستقرار والرزق منها. ليست شحيحة بل الإنسان هو الشحيح. يوجد فيها الخير. إن كانت خضراء فللطعام. وإن كانت صحراء فالخير تحتها في المعادن والنفط لتنمية الأرض واستثمار الثروة، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ.
لذلك يظلم الغني الفقير إذا سأله جزءًا من ثروته. فإذا كان للغني تسعة وتسعون نعجة وللفقير نعجة واحدة فكيف يسأله أن يضم نعجته إلى نعاجه كي يصبح للغني مائة نعجة ويكون الفقير معدمًا، وينقسم المجتمع إلى من يملكون ومن لا يملكون؟ وهي صورة بليغة منكرة، تنفر منها النفوس. وهي واقعة فعلية. فقد اختصم الأخان الغني الجشع والفقير المهيض الجناح الذي لا نصير له، ضربًا بأواصر القربى بالحائط لدى داود، خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ. واستنفد الغني كل حججه لأخذ نعجة الفقير: ضرورة تراكم الثروة للاستثمار، الشركة الكبيرة خير من الصغيرة، لا مكان في عصر التكتلات الاقتصادية الكبرى للوحدات الإنتاجية الصغرى، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. ولا تغني السفسطة عن البداهة، ولا خبرة الغني بالسوق عن واقع الظلم، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وفي الأمة اليوم أغنى أغنياء العالم وأفقر فقراء العالم. وهي أمة واحدة تعكس صورة الإله الواحد الذي تؤمن به. قلة مبذرة مترفة، وأغلبية تحت خط الفقر. نخبة أموالها وثرواتها في البنوك الأجنبية. وملايين تموت جوعًا وقحطًا في مالي والسودان وتشاد والصومال. تركنا السائل على نواصي الطرقات وعلى الأرصفة يشحذ صدقة وهو لا يعرف أنه صاحب حق. وتركنا الغني يتصدق عليه كرمًا ولطفًا، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وهو لا يعلم أن عليه واجبًا، وأن للفقراء حقًّا في أموال الأغنياء.
(٥) السؤال والمسئولية
لا يعني السؤال في القرآن الكريم فقط الاستفهام عن شيء وطلب المعرفة، ولا يعني أيضًا فقط طلب حق الفقراء في أموال الأغنياء، بل يعني أيضًا التذكير بالمسئولية. فالسؤال يتضمن طرفين: السائل والمسئول والعلاقة بينهما وهي المسئولية. السؤال لتذكير السائل تحمل المسئولية.
والمسئولية شاملة، مسئولية الحواس الخارجية مثل السمع والبصر، والداخلية مثل القلب والفؤاد واللب والعقل، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا. ويشهد الشاهد بصدق إذا كان جادًّا أو لاعبًا، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. والرسل شهود على البشر بأنهم قد بلغوا الأمانة فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. ويشهد الخلق كله على المسئولية، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ. فالسؤال للتذكير، والتذكير للسؤال، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ، وهو سؤال وتذكير بلا أجر، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ. وتتكرر الآية إحدى عشرة مرة. والسؤال لأهل الاختصاص، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. فالإنسان يسأل من يعلم حتى يتحول جهله إلى علم. ولا يسأل من لا يعلم حتى لا يتحول جهله إلى جهل مضاعف. فالقرآن أعطى المبادئ العامة مثل الشورى، والاشتراك في الأموال. وأهل الاختصاص في السياسة والاقتصاد هم الذين يفصِّلون هذين المبدأين طبقًا لظروف كل مجتمع.
والمسئولية إنسانية محضة. ولا يجوز الاعتذار بالقدَر للتخلي عن المسئولية، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وتتكرر الآية مرتين. ولا تعارض بين المسئولية عن نظام العالم والمسئولية عن النظام الاجتماعي. الأولى مسئولية الله عن الكون بفعل الخلق. والثانية مسئولية الإنسان بفعل التكليف.
والمسئولية هي أداء الواجب، والقيام بالتبعات، والتعهد بالالتزام وتحقيق الأمانة. وقد قبل الإنسان هذا التعهد بفعل الخلق وقبول الأمانة التي عُرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. فالالتزام بالعهد جزء من تحمل المسئولية، وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا، وهو عهد بين الإنسان مثل العقود، وعهد بين الإنسان والله، عهد الطاعة والالتزام والجهاد، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولًا. وفي مقابل ذلك يلتزم الله بشروط العهد من قبله وهو العهد، كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا. والمسئولية تخيف لأنها تتضمن الجهد والتعب، إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ. المسئولية تجاه الله وتجاه الأرحام، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ. ولا حدود لشر الإنسان. ولو سئل الفتنة لأتاها، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا.
وهي مسئولية فردية عن الأفعال التي اكتسبها الإنسان في حياته والتي ينتج عنها الجزاء بعد مماته، وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، سواء كان هذا العمل صالحًا أم افتراءً، لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ. إذا كان عملًا صالحًا فللإنسان، وإذا كان طالحًا فعليه. كل إنسان مسئول عن نفسه لا عن غيره، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وتتكرر الآية أكثر من مرة بأكثر من صيغة، قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. لذلك تُسأل الموءودة بأي ذنب قتلت، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ. ولا أنساب تنفع يوم القيامة، فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ. والمسئولية فردية وجماعية، مسئولية فردية عن الأعمال، ومسئولية جماعية عن أحوال الأمة. فالكل مسئول عنها مسئولية جماعية. لكل أمة ما كسبت وعليها ما اكتسبت، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
والمسئولية في الدنيا وفي الآخرة. وإذا تنصل منها الإنسان في الدنيا حيث إمكانية الخداع فإنه لا يستطيع أن يتنصل منها في الآخرة، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. يسأل الصادقين عن صدقهم، والكاذبين عن كذبهم، لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ.
وفي الآخرة لا ينفع التساؤل لأن الوقت قد انقضى، والزمان قد انتهى، والعمر قد ولى، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. وتتكرر الآية أكثر من مرة لبيان عدم جدوى التساؤل بعد فوات الأوان. ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا للتساؤل من جديد. فالزمان لا يرجع إلى الوراء، وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ. كما أن التساؤل عن البديهيات لا جدوى منه مثل التساؤل عن قانون الاستحقاق، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. فالجزاء من جنس الأعمال. فلا تساؤل عن أهل الجنة لِمَ هم في الجنة، ولا تساؤل عن أهل النار لِمَ هم في النار، وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ. فالسؤال عن البديهي تحصيل حاصل، فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ. وبعد البعث لا يجدي تساؤل، وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ. ومن يعمى عن الأنباء ولا يدري أن القيامة قد قامت فإنه لا يتساءل، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ. السؤال في الحياة وليس بعد الممات. ففي الحياة إمكانية التغير. وبعد الممات ينقضي كل شيء.