الإسلام التعددي
(١) الإسلام المستنير
وسط هذا الانتشار الواسع للإسلام «الأصولي» بفعل تركيز المستشرقين والقوى السياسية الغربية والذي يسمى أحيانًا أخرى الإسلام السلفي أو الإسلام النصي، ومن خلال سيادة الإسلام المحافظ والذي يسمى أيضًا الإسلام التقليدي المنغلق، ومن ثنايا الإسلام العنيف الرافض الذي وُصف بالإرهاب في الخارج والداخل، والذي أصبح ذريعة لغزو الشعوب من قوى الهيمنة والاستعمار الجديد كما حدث في أفغانستان والعراق والشيشان وكشمير والصدام مع الحركات الإسلامية في الداخل في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا، وسط هذا الركام كله يبرز الإسلام المستنير كإسلام مغاير، يدعو إلى الحوار الوطني وبناء الجسور مع التيارات المتنازعة، وبدأ الحوار بين الدولة وخصومها بدلًا من الاستقطاب الحالي الذي أصبح يهدد وحدة الأوطان ويدفعها إلى حروب أهلية بين الإخوة الأعداء. مهمته إزالة الاستقطاب بين الدولة وخصومها الإسلاميين وإنهاء العنف المتبادل بينهما، ليس فقط عن طريق التائبين والمراجعين، توبة الجماعات داخل السجون ومراجعاتهم العلنية لمواقفهم السابقة، وليس أيضًا عن طريق إدماجهم في الحياة الاجتماعية والسياسية ولو عن طريق الاحتمال بل عن طريق إقامة حوار فعلي ضمن الحوار الوطني من أجل مصالحة تاريخية بين الدولة وخصومها، وإعادة ترتيب البيت من الداخل من أجل إقامة جبهة أو ائتلاف وطني عريض ضد المخاطر الخارجية، وأقلها الغزو المباشر من الخارج لتخليص المنطقة من النظم التسلطية حتى ولو على أسنة الرماح كما حدث في العراق من أجل إقامة نظم حرة وديمقراطية، وحماية الجبهة الداخلية من شق الصف الوطني دون انفراد الحزب الحاكم بالسلطة، وضرورة المشاركة السياسية للجميع. مهمته أيضًا تحقيق حوار وطني بين مختلف القوى والأحزاب السياسية في البلاد دون هذا الخصام المفتعل بين الإسلاميين والعلمانيين، صراعًا على السلطة إذا ما ضعفت الدولة، وعجزت اختياراتها السياسية عن تحقيق الاستقلال الوطني ومصالح الشعوب، بدلًا من أن تقوم الدولة بالتخلص من الإسلاميين باستعمال العلمانيين مرة أو بإزاحة العلمانيين باستعمال الإسلاميين مرة أخرى حتى يضعف الجناحان الوريثان للنظام القائم.
مهمة الإسلام المستنير أيضًا إفراز نوع من التعددية الفكرية والسياسية داخل الحركات الإسلامية والتيارات العلمانية على حد سواء. فالإسلاميون ليسوا تيارًا واحدًا. بهم وسط ويسار ويمين. وبهم صراع بين الرعيل الأول والأجيال التالية. الحوار الداخلي بين الأجنحة داخل كل تيار يقرب التيارات بعضها من البعض الآخر. والعلمانيون ليسوا تيارًا واحدًا. فهناك علمانيون يقبلون الإسلام الليبرالي والوطني والعقلاني والتقدمي والاشتراكي.
والإسلام المستنير ليس تيارًا واحدًا بل تتعدد تياراته وأسماؤه. فهو الإسلام الإصلاحي أو العقلاني، سليل الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين ومصطفى عبد الرازق وطه حسين ومحمد حسين هيكل والعقاد، وهو الإسلام الليبرالي الديمقراطي أو حتى العلماني عند علي عبد الرازق وخالد محمد خالد، وهو الإسلام التقدمي الاشتراكي الإنساني عند مصطفى السباعي وسيد قطب الأول صاحب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و«معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام» قبل أن يكتب «معالم في الطريق» تحت تأثير التعذيب في غياهب السجن، وعند عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد عباس صالح وغيرهم من الأجيال الجديدة الذين ضاقوا ذرعًا بالتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، وهو ما يتعارض مع مبادئ الإسلام ومُثله ونماذجه الأولى، وهو «اليسار الإسلامي» الذي يعيد فهم الإسلام بناء على تحديات العصر السبعة الرئيسية: استكمال حركة التحرر الوطني في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وسبتة ومليلية، تحرير المواطن من كل صنوف القهر الديني والسياسي والاجتماعي، تحقيق العدالة الاجتماعية بدلًا من هذا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، إقامة وحدة الأمة عن طريق التجمعات الإقليمية العربية والإسلامية ضد مخاطر التفتيت والتجزئة العرقية والطائفية والتي بدت في العراق وتهدد الخليج ولبنان واليمن والسعودية وسوريا والمغرب العربي ومصر ذاتها كي تبقى إسرائيل أكبر دولة عرقية طائفية تأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافيا السياسية في المنطقة، والتنمية المستقلة المتكاملة لما تتمتع به المنطقة من رءوس أموال وطاقة وأسواق وعقول للتخطيط، الدفاع عن الهوية الوطنية ضد مخاطر التغريب والهويات العرقية والطائفية الزائفة، وأخيرًا حشد الناس لإشراكهم في العمل الوطني التاريخي بدلًا من تهميشهم لصالح الأبطال التاريخيين ونظم حكم الفرد المطلق.
وهو الإسلام التعددي الذي لا يحتكر الرأي ويسمح بأكبر قدر ممكن من الاختلاف الذي هو حق شرعي. فالكل راد والكل مردود عليه. ولا توجد فرقة ناجية واحدة في الجنة وباقي الفرق ضالة هالكة في النار. والصواب متعدد وليس في صالح فريق دون فريق. يحيي التعددية القديمة التي كانت وراء الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، فرق كلامية، مذاهب فقهية، طرق صوفية، تيارات فلسفية، اتجاهات تفسيرية، مناهج للرواية وطرق للدراية بدلًا من أن يزهو الغرب علينا بأنه هو الذي أعطى العالم قيم التعددية.
وأخيرًا، هو الإسلام الواقعي الذي يبدأ من مصالح الناس وما تعم به البلوى، وما يمس كل مواطن، وتتأثر به كل أسرة. هو الإسلام الذي يعطي الأولوية للمصالح العامة على النصوص كما تفعل المالكية اعتمادًا على الاجتهاد في صوره المتعددة من قياس واستصلاح واستحسان واستصحاب ومصالح مرسلة. هو إسلام عمر بن الخطاب الذي يوقف حد السرقة عام المجاعة، ويوقف توزيع أرض السواد في العراق على المحاربين حتى لا يستوطنوا ويتركوا الجهاد في سبيل الله. هو الإسلام الذي لا يخشى في الله لومة لائم. يجهر بالحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
(٢) الإسلام العقلاني
الإسلام المستنير هو الإسلام الذي يقوم على العقل. فالعقلانية شرط الاستنارة. لذلك سمَّى فلاسفة الغرب مثل ديكارت العقل بالنور الطبيعي.
والعقلانية حاجة للعصر الذي سادته الخرافة، وطغى عليه السحر. وأصبحت دوافعه على السلوك الأهواء والانفعالات والرغبات والمصالح الشخصية، وليس التحليل العقلي الهادئ الرصين. يعتمد على السلطة وليس على البرهان، سلطة النص الديني أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي كما تبدو في نصوص القدماء، وأقوال الرؤساء، وأوامر الآباء، والقواعد البيروقراطية، والأمثال العامية. فاتسم السلوك بالطاعة العمياء، والتبعية المطلقة، والتقليد الأعمى، بلا اقتناع داخلي أو إيمان قلبي أو تصديق. فازدوجت الشخصية، بين طاعة ظاهرية ورفض باطني. وأصبح النفاق، انفصام الخارج عن الداخل، هي السمة المميزة للسلوك في الحياة اليومية كما يظهر ذلك في لغة المداهنة والتقرب لقضاء الحاجات. وعم المديح الخطاب القومي.
وهو ضرورة عصرية نظرًا لأن حضارة العصر هي حضارة العقل. فقد قامت الحضارة الغربية الحديثة على العقل ضد سلطة الكنيسة وبطليموس وأرسطو. وبدأت بشعار «أنا أفكر فأنا إذن موجود». وكما تعاملت الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى مع حضارة اليونان وهي حضارة العقل وأنتجت الفلسفة الإسلامية كذلك تتعامل الحضارة الإسلامية الآن مع الحضارة الغربية لتنتج الإسلام العقلاني المستنير.
وليس العلمانيون وحدهم هم الذين ينهلون من العقلانية الغربية تقليدًا لها وترويجًا لثقافتها، وتبعية لحضارتها لمعاداة الحركة الإسلامية، وإيجاد البديل عنها في التنوير الحكومي الذي تروج له أجهزة الدولة الثقافية والإعلامية والتعليمية بل أيضًا الإسلام العقلاني الذي يرشِّد الحركات الإسلامية وينقلها من الإطار السلفي إلى الإطار الحديث، ويأخذ موقفًا نقديًّا من العقلانية الغربية الصورية، ثم ينقلب عليها العلمانيون كما انقلب عليها الغرب نفسه بدعوى نقد الحداثة وللإعداد لمرحلة ما بعد الحداثة، والتحول من التحليل إلى التفكيك، ومن الفكر إلى الكتابة، ومن المعنى إلى اللفظ، الكتابة في درجة الصفر، وموت المؤلف.
والإسلام العقلاني ليس غريبًا على تراثنا القديم أو تقليدًا للغرب الحديث بل هو جوهر الحضارة القديمة وركيزتها الأولى. فقد قامت العلوم الإسلامية الأولى على العقل. وتم تصنيفها طبقًا لها إلى علوم نقلية عقلية تجمع بين العقل والنقل، وعلوم عقلية خالصة تعتمد على العقل وحده، في مقابل العلوم النقلية الخالصة التي تعتمد على النقل وحده.
فمن العلوم النقلية العقلية علم أصول الدين أو علم العقائد أو علم الكلام الذي قام على العقل مع النقل في معترك الحياة السياسية. جعل المعتزلة العقل أساس النقل. فالأشياء حسنة وقبيحة في ذاتها. حسنة كالكرم والإحسان ومعاونة الضعيف، وقبيحة كالقتل والظلم والعدوان. والشرع مؤيد لحكم العقل وليس بادئًا أو نقيضًا له. والنظر أول الواجبات. والعقل شرط التكليف. كما أثبت المعتزلة الواجبات العقلية مثل التكليف، وشكر المنعم. وأوَّلوا النص طبقًا للعقل حماية للتوحيد من الوقوع في التجسيم والتشبيه ودفاعًا عن التنزيه. والعقل هو أول ما خلق الله طبقًا للحديث القدسي «أول ما خلق الله خلق العقل». واعتبر الأشاعرة، وهم جمهور أهل السُّنَّة الآن، أن استعمال العقل ثابت بالنص لكثرة ما استعمل القرآن آيات مثل أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
كما اعتمد الفلاسفة على العقل. فالإنسان حيوان ناطق كما هو الحال عند اليونان. وهناك عقول متعددة. الله هو العقل الأول، عقل وعاقل ومعقول. والأفلاك عقول، والعلم فيض من العقل الفعَّال إلى العقل بالملكة والعقل المستفاد والعقل بالقوة كي يصبح عقلًا بالفعل. وفي رواية رمزية «حي بن يقظان» الطفل الذي نشأ في جزيرة ولم يسمع وحيًا أو بلغته رسالة أو نبوة استطاع بعقله الطبيعي أن يصل إلى كل ما أُنزل إلى الأنبياء: الله موجود، والعالم مخلوق والنفس خالدة، تثاب وتعاقب لأفعالها وقانون الاستحقاق فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. فالعقل والوحي طريقان للمعرفة، الأول طريق الفيلسوف، والثاني وحي النبي. وحَّد الكندي بين الفلسفة والدين. وجعل الفارابي رئيس المدينة الفاضلة الفيلسوف أو النبي. والشريعة عند إخوان الصفا تقوم على العقل. والحكمة عند ابن رشد النظر بما تقتضيه صناعة البرهان، وهو واجب بالشرع.
ودليل العقل عند الأصوليين أو القياس أو الاجتهاد هو أصل من أصول التشريع. بل إن التصوف الذي عُرف عنه أنه مع الذوق والكشف والمعاينة يقوم التصوف النظري على العقل بحيث أصبح حكمة إلهية كما هو الحال عند ابن عربي وابن سبعين. وأقام السهروردي منطقًا إشراقيًّا ذوقيًّا في مقابل المنطق الصوري اليوناني وحاول ابن سينا إقامة منطق للمشرقيين في مقابل المنطق الأرسطي.
والعلوم النقلية بالرغم من اعتمادها على النقل تقوم أيضًا على بعض الجوانب العقلية. والأدلة النقلية حتى لو تضافرت لإثبات شيء أنه صحيح ما أثبتته، ولظل ظنيًّا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجَّة عقلية ولو واحدة كما عبر عن ذلك الإيجي في «المواقف»، وهو أشعري يمثل عقائد أهل السنة ونظريتهم في المعرفة، فالاتفاق مع العقل أحد شروط الخبر المتواتر، والتفسير العقلاني مثل تفسير الزمخشري أحد التيارات الرئيسية في علم التفسير. والسيرة المعاصرة عند طه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل تقوم على العقل بعيدًا عن الأساطير القديمة المنتشرة عند أهل الكتاب في سير الأنبياء. وفي الفقه البلوغ هو العقل، والعقل مناط التكليف.
والعلوم الرياضية تقوم على العقل مثل الحساب والهندسة والجبر والموسيقى والفلك. وقد أبدع فيها المسلمون بالرغم من أن النقل هو مركز الحضارة الإسلامية ومنشؤها الأول. وما زال الإبداع الرياضي القديم أحد الروافد الأساسية في العلوم الرياضية المعاصرة.
وقامت الحركات الإصلاحية المعاصرة على العقل كما فعل محمد عبده في «رسالة التوحيد». فهو أشعري في التوحيد، معتزلي في العدل. بل إن العقل أصبح دعامة النهضة العربية الحديثة عند الطهطاوي.
ومِن ثَمَّ فإن الإسلام المستنير له رصيده عند القدماء والمحدثين، وهو استئناف للجوانب العقلانية في تراثنا القديم والتراث الغربي الحديث في مرحلة جديدة من مراحل تطور الحضارة الإسلامية.
(٣) الإسلام العلمي
الإسلام «العلمي» هو أحد مسميات اليسار الإسلامي في مقابل الخرافي والأسطوري. ولا يعني العلم هنا العلم الطبيعي المتغير طبقًا لتصورات العلم وكيفية تطبيقها في التقنية الحديثة والمتجددة باستمرار. إنما يعني الإسلام الطبيعي الذي يتفق مع معطيات الطبيعة العامة وليست الميتافيزيقا المغرقة في النظريات والمجردات والتأملات باسم الدين، وهو أيضًا الإسلام الواقعي المتفق مع مقتضيات الواقع. الإسلام الممكن وليس المستحيل كما قال محمد عبده من قبل في «رسالة التوحيد» أن الوحي ممكن الوقوع. لذلك انتشر الإسلام بسرعة لم يشهد التاريخ بمثلها لواقعيته وسهولته وطبيعيته. ولفظ «الواقع» لفظ قرآني. فالدين واقع وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ. والعذاب واقع إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ. والوعد واقع إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ. وإذا كان الوعد واقعًا، فالوعد صادق إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ، وهو الإسلام الذي يبدأ بعالم الشهادة. ويعتمد على الحس والمشاهدة وشهادة الحواس التي اعتمدها القرآن في البرهان، العين للبصر، والآذان للسمع ضد الأوهام والخيالات، وبعيدًا عن الغيبيات السمعية التي تخرج عن دائرة البرهان العقلي، وهو الجانب الذي تضخم في العقود الأخيرة لصعوبة رؤية الواقع والشهادة عليه، واستسهال الإغراق في الغيب الذي لا يمكن السيطرة عليه، وهو أيضًا الإسلام الذي يقوم على المضمون وليس على الشكل «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». فالشعائر مضمون قبل أن تكون صورة. الشهادة تحرر وجداني بفعلي النفي والإثبات في «لا إله إلا الله» قبل أن تكون تمتمة بالشفتين. والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر قبل أن تكون حركات وسكنات. والصيام إحساس بالفقراء قبل أن يكون إمساكًا عن الطعام والشراب في وقت معلوم. والزكاة مشاركة الفقراء في أموال الأغنياء قبل أن تكون ضريبة كمية، والحج توجه القلب نحو هدف واحد قبل أن يكون شعائر، سعيًا وإفاضة وطوافًا وهديًا ورميًا بالجمرات. ولو أن لفظ «مادي» كان له معنى تداوليًّا إيجابيًّا لأمكن استعماله. حينئذٍ يعني الإسلام المادي الاهتمام بحياة الناس وسعادتهم في الدنيا، بأرزاقهم ومعاشهم وتعليمهم وصحتهم وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية في مقابل الإسلام الكهنوتي المنغلق الذي حول الدين إلى بضاعة وتجارة وتكسُّب ورزق ومعاش خاصة في القنوات الفضائية.
وإذا كان اليسار الإسلامي إسلامًا عقلانيًّا فمن الطبيعي أن يكون إسلامًا طبيعيًّا. فالعقل والطبيعة هما الركيزتان الرئيسيتان للوحي. فالنص له دعامتان. الأولى في العقل والفكر والنظر والبرهان. والثانية في الطبيعة والواقع وحياة الناس. الأولى في السماء، والثانية في الأرض. وإلا يتحول الوحي إلى مجرد عقائد وشعائر مغلقة على نفسها. بلا دليل يؤيدها أو واقع تتحقق فيه.
وقد ظهر هذا البعد في النص نفسه في أسباب النزول. كل حكم له سبب في الواقع. الواقع يسأل، والوحي يجيب. ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ، ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ، ويَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ، ويجيب الوحي قُلْ. وكل الإجابات تدل على جلب المنفعة ودفع الضرر. السؤال نظري، والإجابة عملية. وكما تعني أسباب النزول أولوية الواقع على النص فإن «الناسخ والمنسوخ» يعني أولوية الزمان على الحكم، وتطور الزمان على ثبات الحكم. فالمكان والزمان بعدان للواقع. ولا يوجد وحي إلا في الزمان والمكان. يتكيف الوحي طبقًا لتطور الزمان والتدريج في التغير الاجتماعي.
وقد ظهر هذا الجانب في كل العلوم الإسلامية القديمة. ظهر في علم العقائد وهو علم أصول الدين أو علم التوحيد في جعل التفكير في الطبيعة سابقًا على التفكير فيما بعد الطبيعة. ولا يمكن التفكير في الذات والصفات والأفعال إلا بعد إثباتها عن طريق الجوهر والأعراض. ولا فرق بين صفات الإنسان الكامل والإنسان المتعين. وإذا كان التوحيد خاصًّا بالله فإن العدل خاص بالإنسان. وإذا شمل التوحيد الذات والصفات فإن العدل يتضمن العقل والحرية. والإيمان والعمل والإقرار ظهور للتوحيد في سلوك الإنسان. والإمامة تحقق التوحيد في المجتمع والدولة والتاريخ.
وفي علوم الحكمة وهي العلوم الفلسفية، الطبيعيات أيضًا سابقة على الإلهيات كما سبق المنطق أي العقل الطبيعيات. فدون النظر إلى الطبيعة لا يمكن الدخول فيما بعد الطبيعة. العالم دليل على الله، وليس الله دليلًا على العالم. والفكر العلمي فكر استقرائي صاعد، وليس فكرًا استنباطيًّا نازلًا، من الجزئي إلى الكلي وهو أمر مستغرب، وليس من الكلي إلى الجزئي كما هو شائع. بل إن علوم التصوف أيضًا أكدت على أهمية الواقع والطبيعة فيما سمته الوجود. فالحق لا يُفهم بعيدًا عن الخلق. ويروون الحديث القدسي «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني» البعض سمَّى — الحلاج — ذلك الحلول أو الاتحاد. والبعض الآخر مثل ابن الفارض سمَّاه وحدة الشهود، ألَّا يرى في العالم إلا الله. وفريق ثالث وعلى رأسهم ابن عربي سماه وحدة الوجود. فالإنسان في العالم. والفناء بقاء.
وقد ظهر الواقع على خير ما يكون في التعليل في علم أصول الفقه. فكل الأحكام الشرعية معللة. والعلة هي سبب التحليل أو التحريم. وهي العلة المادية، درء المفاسد وجلب المصالح. وهي لا تعرف إلا بالمناهج التجريبية التي سماها القدماء «السبر والتقسيم». فالسُّكْر المادي علة تحريم الخمر. وعدم اختلاط الأنساب علة تحريم الزنا. وقد سمى بعض الأصوليين المصدر الرابع من مصادر التشريع إما دليل العقل أو القياس أو الاجتهاد تأكيدًا على علة الأصل المستنبطة من النص أو الاستصلاح والاستصحاب والمصالح المرسلة تأكيدًا على علة الفرع المستقرأة من الأجزاء. والرخص في مقابل العزائم، والضرورات تبيح المحظورات، والعادة محكَّمة، كل ذلك كاشف عن وجود الواقع في طرق الاستدلال واستنباط الأحكام.
العلم هو العلم النافع، ما يمس حياة الناس «أعوذ بالله من علم لا ينفع»، وهو العلم الذي يبقى ويؤثر في الأرض فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
الواقعية أو العلمية أو الطبيعية أو البرجماتية ليست قصرًا على الغرب وحده بل هي نزعة في كل حضارة شرقية، صينية أو هندية أو مصرية قديمة أو بابلية أو آشورية أو كنعانية. «في البدء كانت الكلمة» ولكن الكلمة هي الفعل كُنْ فَيَكُونُ. وقد أوضح ذلك جوته بقوله «في البداية كان الفعل» وهو ما أبرزه القرآن أيضًا في عدة آيات وَقُلِ اعْمَلُوا، يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ. وقد استولى محمد الفاتح على القسطنطينية والنصارى تتناقش في طبيعة السيد المسيح إلهًا أم إنسانًا. وعندما سُئل الرسول متى الساعة أجاب «فاستعد لها».
(٤) الإسلام الإنساني
وأحد أشكال اليسار الإسلامي هو الإسلام «الإنساني» أي الإسلام الذي يجعل الإنسان محوره وهدفه، وليس الإسلام السلطاني أو الفقهي أو العقائدي أو الشعائري. فقد خاطب الله الإنسان بالوحي، وجعله خليفته في الأرض، والأمين على الرسالة التي اختارها بحريَّة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ. فالإنسان هو كليم الله وليس فقط موسى، وخليل الله وليس فقط إبراهيم، وروح الله وكلمة منه وليس فقط عيسى، والمبلغ لرسالات الله وليس فقط الرسول. لأجله خُلقت السموات والأرض والشمس والقمر، والجبال والبحار، والطير والزرع، والماء والهواء.
ومع ذلك اتُّهم الإسلام بأنه ضد حقوق الإنسان لأنه يعطي الأولوية للحاكم على المحكوم، وللسلطان على الناس، ولتطبيق الشريعة على جسد الإنسان ببتر الأعضاء وهي جزء من حقوق الإنسان. وأشد ملف قسوة من ملفات حقوق الإنسان هو الملف العربي الإسلامي طبقًا للتقارير السنوية لمنظمة العفو الدولية. المعتقلون بعشرات الآلاف تحت التعذيب طبقًا لقانون الطوارئ أو صيغته الجديدة باسم مكافحة الإرهاب أو قانون حماية الوحدة الوطنية أو قانون العيب إلى آخر هذه التسميات الفضفاضة التي تعني شيئًا واحدًا هو خرق حقوق الإنسان الطبيعية والمدنية. بل إن معتقلي جوانتنامو يُرسلون إلى الأقطار العربية ليعذبوا في بلادهم بدلًا من تعذيبهم بأمريكا مما يضع الإدارة الأمريكية تحت المساءلة.
كما ادَّعى الغرب أنه وحده هو الذي أصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرتين، الأولى أثناء الثورة الفرنسية، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية. في حين أن الحضارات الأخرى لم تعرف إلا حقوق الله وحقوق السلطان. في الغرب وحده قامت النزعة الإنسانية منذ القرن السادس عشر. وعليها قامت النهضة الغربية الحديثة. ويضرب المثل بالعقائد. في المسيحية يموت الله من أجل الإنسان. وفي الإسلام يموت الإنسان من أجل الله.
والإنسان مذكور في القرآن الكريم خمسًا وستين مرة، عن أصله وسماته الهشة وأعدائه. ومذكور أيضًا حريته ومسئوليته وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وبره بالوالدين، وعظمته بما يتمنى أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى، ويسعى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وعلمه خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وهو في أحسن تقويم لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. والإنسان اشتقاقًا من الأنس والألفة والمحبة. والإنس وهم البشر في مقابل الجن والملائكة، وليس من النسيان كما قال أحد الشعراء.
وقد ظهر الإنسان في العلوم الإسلامية العقلية النقلية القديمة. ظهر في علم أصول الدين وعلوم التصوف في صورة «الإنسان الكامل». فقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله. والصفات، العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، مشتركة بين الإنسان والله، في الإنسان على نحو نسبي، وفي الله على نحو مطلق. في الإنسان على الحقيقة وفي الله على المجاز، قياسًا للغائب على الشاهد، أو في الله حقيقة وفي الإنسان تواضعًا من الإنسان أن يؤثر الله بالحقيقة ويكتفي هو بالمجاز. والأسماء الإلهية التسعة وتسعون مجموعة من القيم والفضائل الإنسانية يتحلى بها كي يصبح إنسانًا كاملًا. و«الإنسان الكامل» عند الجيلي هو الإنسان الذي تشبَّه بصفات الله وأسمائه.
وإذا كان الإنسان من حيث هو إنسان قد غاب في علوم الحكمة إلا أنه كان حاضرًا كنفس أو عقل خاصة عند إخوان الصفا الذين جعلوا الحكمة ليست فقط ثلاثية: منطق، وطبيعيات، وإلهيات بل رباعية بإضافة العلوم النفسانية والناموسية أي علمي النفس من ناحية والاجتماع والسياسة والقانون من ناحية أخرى.
كما حضرت حقوق الإنسان بوضوح في مقاصد الشريعة في علم أصول الفقه، في الضروريات الخمس: الدفاع عن النفس أي الحياة ضد الجوع والفقر والمرض والحروب، والدفاع عن العقل ضد الجهل والغباء والسفه والخبل، فالحياة هي الحياة العاقلة، والدفاع عن الدين أي القيمة التي يشارك فيها الجميع، المعيار الخلقي الشامل ضد النسبية والمعيار المزدوج والأنانية وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، والدفاع عن العرض أي الكرامة الفردية والجماعية ضد جميع انتهاكات حقوق الإنسان، وأخيرًا الدفاع عن المال أي الثروة الوطنية ضد التبذير والسفه والاستغلال والاحتكار وسوء توزيع الثروة.
وما زال الفكر العربي الإسلامي المعاصر يصارع من أجل إبراز حقوق الإنسان، ليس فقط عن طريق القراءات الإسلامية المتعددة لمواثيق حقوق الإنسان الدولية، ولكن أيضًا عن طريق تأصيل حقوق الإنسان في التراث القديم الذي ما زال يؤكد على حقوق الله وواجبات الإنسان كما هو الحال عند محمد بن عبد الوهاب في «كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد». في حين أن المعتزلة القدماء تكلموا عن الواجبات العقلية مثل الخلق والتكليف وشكر المنعم. التوازن بين الحقوق والواجبات ضروري. لا حقوق بلا واجبات، ولا واجبات بلا حقوق. في الحضارة الغربية في العلاقات الدولية حقوق بلا واجبات، وفي الحضارة الإسلامية في العلاقات السياسية واجبات دون حقوق.
الإسلام الإنساني إذن يجعل الإنسان هو الهدف الرئيسي من الرسالة، دفاعًا عن حقوقه، وتأكيدًا لسلطانه وحريته. بدنه جزء من الحقوق، يداه ورجلاه ورقبته وحريته في القول والتعبير جزء من الحقوق ضد حرية الرأي وتكميم الأفواه وتقييد الحركة في السجون والمعتقلات. الإسلام الإنساني ضد الإسلام السلطاني الذي يضحي بالإنسان في سبيل السلطان وضد الإسلام الردعي اعتمادًا على درء الحدود بالشبهات.
حينئذٍ يستطيع الإسلام أن يدفع عن نفسه الشبهات ويدافع عن إنسانيته في مواجهة تحديات العصر.
(٥) الإسلام التقدمي
والإسلام «التقدمي» أحد أشكال اليسار الإسلامي وتعبيراته المختلفة مثل الإسلام العقلاني أو الإسلام العلمي. ويعني الإسلام الذي يساهم في صنع التقدم للشعوب، إسلامية أو غيرها. فالتقدم في حد ذاته فضيلة، وهو مذكور في القرآن لفظًا لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ. ونفس المعنى في لفظ السبق وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. وفي القرآن نقد شديد للتخلف فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللهِ، وللمتخلفين من الأعراب قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ، وللخوالف رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ، وللقاعدين إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ.
والغرب يزهو علينا وعلى باقي الحضارات أنه وحده حضارة التقدم، وأنه قد أغنى الحضارات البشرية بمفهومي التقدم والتاريخ والأمل في المستقبل. وصاغ لذلك «فلسفة التاريخ»، تُعنى بالتقدم وباكتشاف قوانينه. فوقع في العنصرية والمركزية الأوروبية. فالتقدم يبدأ منه عند اليونان والرومان، وينتهي إليه في الغرب الحديث. في حين انشغلت الحضارات الأخرى بالخلود، بكل الزمان. وصنف غيره ضمن الشعوب «المتخلفة». تئن من ثقل الماضي دون أن تتحرر منه إلى المستقبل. ربط الإسلام بمظاهر التخلف مثل القهر والاستبداد والعنف وخرق حقوق الإنسان والمواطن والمرأة والأقليات.
ولفظ «تقدم» من فعل «قدم» يعني قديم وتقدم في آنٍ واحدٍ. أخذت الثقافة الموروثة أحد المعنيين وهو القديم كمعنى تداولي دون المعنى الثاني وهو التقدم فغاب المفهوم من ثقافتنا المعاصرة ومن خططنا ومن سلوكنا اليومي. هنا تأتى أهمية اليسار الإسلامي في إعادة بناء الثقافة الموروثة بعد أن أصبحت هي الرافد الرئيسي المكون للثقافة الوطنية.
ليس التقدم جوهرًا ثابتًا وقيمة مطلقة تخص شعبًا دون شعب إلى الأبد. بل هي سمة توجد في شعب وحضارة في لحظة تاريخية معينة، كانت الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، القرون السبعة الأولى، حضارة تقوم على العقل والعلم، وتهدف إلى التقدم وتأسيس العمران. وكانت أوروبا في العصر الوسيط المتزامن مع عصرنا الذهبي متخلفة في العلوم والآداب، ثم انقلبت الآية، فأصبحنا نحن في العصر المملوكي العثماني في القرون السبعة الأخيرة نموذجًا للحضارة المتخلفة الناقلة لعلومها الماضية والمقلدة لتراثها السابق، الشارحة والملخصة له. وأصبحت أوروبا في عصورها الحديثة نموذج الحضارة المتقدمة ورائدًا للحداثة والتحديث.
ليس إذن التقدم غريبًا على الحضارة والشعوب العربية والإسلامية. ظهر المفهوم في العلوم الإسلامية النقلية العقلية القديمة، أصول الدين وأصول الفقه وعلوم الحكمة والتصوف.
ففي علم أصول الدين تساءل العلماء عن مستويات التقدم ورتبه هل هو بالزمان، تقدم الأب على الابن، أو بالمكان، تقدم القائد الصفوف، أم بالشرف، تقدم الأنبياء على سائر البشر؟ كما ظهر التقدم في الماضي في النبوة وتوالي الأنبياء من آدم حتى محمد. ويستمر التقدم في المعاد في استمرار الحياة بعد الموت. ثم ينهار التقدم في إمامة المفضول بالرغم من وجود الأفضل، وتوالي الانهيار في الأجيال جيلًا وراء جيل «خير القرون قرني ثم الذي يلونه»، «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة تتحول بعدها إلى ملك عضوض». ثم يأتي المهدي ليرفع الأمة من هذا الانهيار ويخلصها من طول قهر وظلم، ويملأ الأرض عدلًا كما مُلِئت جورًا.
وفي علم أصول الفقه ظهر التقدم في العلاقة بين المصادر الشرعية الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، من نص الوحي الأول إلى نص الرسول إلى قرار الإجماع إلى فتوى القياس. بل إن التقدم داخلٌ في كل أصل. في القرآن في الناسخ والمنسوخ، وتغير الحكم الشرعي بتغير الزمان، وقياسه على مقدار القدرة والأهلية والطاقة. والتقدم في السنة من المرحلة المكية إلى المرحلة المدنية. والتقدم في الإجماع. كل إجماع ملزم لعصره. وإجماع العصر السابق ليس ملزمًا لهذا العصر. وإجماع هذا العصر ليس ملزمًا للعصر القادم نظرًا لتغير الظروف.
وفي علوم الحكمة وفي علوم التصوف ظهر التقدم على مستوى رأسي وليس أفقيًّا، التقدم الروحي، والصعود إلى الحق إشراقًا أو النزول منه فيضًا. فالتقدم في الحكمة رقي في الدرجة من أسفل إلى أعلى، من العقل الإنساني، المستفاد أو بالملكة إلى العقل الفعَّال أو فيضًا من العقل الفعَّال على العقل بالقوة وهو العقل الإنساني. كما ظهر التقدم الدائري أو الحلزوني في فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، عودًا على بدء، من البداوة إلى الحضارة إلى البداوة من جديد. كما تجلى هذا التصور الحلزوني في قصص الأنبياء في القرآن. يظهر النبي ضد مثالب قومه، مثل التسلط عند آل فرعون، الشذوذ الجنسي عند قوم لوط، العصيان في بني إسرائيل، عبادة الأصنام لدى آل إبراهيم. ثم تعود المجتمعات إلى ما تعودت عليه من قبل. فيظهر نبي جديد مُذكرًا بالأنبياء السابقين وكما صور نجيب محفوظ في «ملحمة الحرافيش» وفي «أولاد حارتنا».
أما علوم التصوف فتصورت التقدم أيضًا ارتقاءً في المقامات والأحوال، من التوبة إلى الفناء، طريقًا إلى الله يسلكه السالكون، ويطرقه المريدون بمساعدة مشايخ الطرق، وهو تقدمي أخلاقي روحي. ينتهي بعالم الأقطاب والأوتاد والأبدال والنقباء من صنع الخيال. يجد فيه الصوفي البديل عن عالم الظلم والقهر والاستبداد أو عالم الرياء والنفاق والمداهنة والمديح.
ثم أصبح مفهوم «التقدم» أحد هموم الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر في حركات الإصلاح بكافة أنواعها، الإصلاح الديني عند الأفغاني، الاجتهاد ضد التقليد، والعقل في مقابل النقل، وحرية الإرادة في مقابل القضاء والقدر، والديمقراطية في مواجهة التسلط والطغيان. وتساءل شكيب أرسلان: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرهم؟ كما ظهر كتقدم مدني في الفكر السياسي الليبرالي عند الطهطاوي. وترجم فتحي زغلول سر تقدم الأنجلوسكسون. وأبرزه أنصار الفكر العلمي العلماني وأنصار نظرية التطور لدارون. إن التقدم والارتقاء سر الحياة الطبيعية والإنسانية. فكل شيء يتطور بما في ذلك الإنسان والحضارة.
وأُنشئت عديد من الأحزاب التي وصفت نفسها بالتقدمية، الحزب الاشتراكي التقدمي، التجمع الوطني التقدمي. وأُنشئت وحدة الأحزاب التقدمية. وظهرت دور نشر تحمل اسم «التقدم» كتلك التي أسسها أنصار سلامة موسى. غنَّاه الشعراء، ودافع عنه المفكرون في مواجهة قوى المحافظة والرجعية والسلفية.
اليسار الإسلامي إذن هو إحدى القوى التقدمية في الوطن العربي والعالم الإسلامي. يرى أن اليوم أفضل من الأمس بالرغم من بعض مظاهر الانتكاس، وأن الغد أفضل من اليوم بالرغم من حالة التشاؤم والانهيار العامة. والقرآن يحث على الأمل يا أيها الذين آمنوا لا تقنطوا من رحمة الله، وهو واقع مهما طال الانتظار وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.
(٦) الإسلام الليبرالي
الإسلام الليبرالي هو أحد صياغات اليسار الإسلامي، وهو موجود بالفعل تحت هذا الاسم في إندونيسيا عند أولي الأبصار تطويرًا لليسار الإسلامي في القاهرة بالرغم من مغالاته في الليبرالية على مستوى الرأي العام ومدها إلى العبادات بحيث يحقق أهدافها بوسائل أخرى كما قال الفلاسفة من قبل. فالعبادات وسائل وليست غايات. الصلاة للسمو الروحي، وأداء الأفعال في أوقاتها. والزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء. والصوم إحساس بجوع الفقراء. والحج تجمع سنوي للتعبير عن حال الأمة بين أعدائها وأصدقائها.
وقد أصبح اللفظ المعرب لفظًا مستعملًا متداولًا مثل بعض الألفاظ القديمة، فلسفة وموسيقى وهندسة وبعض الألفاظ العلمية الحديثة مثل الراديو والتليفزيون والتليفون والكومبيوتر والإنترنت، ومثل بعض الألفاظ السياسية مثل الديمقراطية والبرلمان والأيديولوجيا والماركسية. فاللفظ القديم «الحرية» يقال في مقابل «العبودية» في الفقه، وقد اختفى نظام العبودية في التاريخ في القرن التاسع عشر في الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب.
والرغبة في الحرية رغبة عارمة في قلوب الناس لمعاناتهم من نظم القهر، ملكية كانت أو جمهورية، مدنية أم عسكرية. تسيطر الدولة فيها على كل وسائل التعبير في أجهزة الإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية. وكل رأي جديد يتهم صاحبه بالردة أو الكفر أو إنكار ما عُلم من الدين بالضرورة. وتتفق كل التيارات السياسية الرئيسية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، الإسلامية والقومية والليبرالية والماركسية، على أن القضية الرئيسية في الحياة العامة هي قضية الحرية. يعاني أنصارها من الاضطهاد والسجن والاعتقال. وهي أجنحة المعارضة الرئيسية في البلاد. وتدل تقارير منظمات العفو الدولية على وجود حوالي عشرين ألفًا من المعتقلين السياسيين في الوطن العربي وحده؛ بل تصدر إليه معتقلو جوانتنامو للتعذيب في أوطانهم وليس في الولايات المتحدة الأمريكية خشية الإعلام والقانون.
والحرية حق طبيعي للإنسان. أعلنه عمر بن الخطاب منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» واستعاده أحمد عرابي في مواجهة الخديوي توفيق عارضًا عليه مطالب الجيش والشعب «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا عقارًا. والله لا نستعبد بعد اليوم.» من تعاليم الأفغاني. وكتب الكواكبي «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» دفاعًا عن الحرية. ودافع عنها خالد محمد خالد في «الله والحرية». وساهم في ذلك المفكرون العرب مثل محمد عزيز لحبابي في المغرب في «حرية أم تحرر؟»
ولم تغب الحرية عن تراثنا القديم وإن ظهر معناها بألفاظ أخرى مثل «خلق الأفعال» في علم الكلام خاصة عن المعتزلة. فالإنسان خالق أفعاله أي صاحبها وإلا انتفت المسئولية عنها في الدنيا والآخرة، وضاع قانون الاستحقاق، الثواب أو العقاب على الأفعال. وفي الفلسفة الخلقية عند الفارابي ومسكويه الحرية شرط الفعل الخلقي الإرادي. والإنسان يختار بين حياة الفضيلة وحياة الرذيلة، بين تنمية قواه الشهوية أو الغضبية أو العاقلة. وعند الصوفية، الحرية داخلية، حرية الضمير والتغلب على شهوات الدنيا والتحرر منها. وفي أصول الفقه حرية الأفعال في المندوب والمكروه، المندوب هو حرية الاختيار بين الفعل وعدم الفعل والأفضل الفعل. والمكروه حرية الاختيار بين الفعل وعدم الفعل والأفضل عدم الفعل. والمباح حرية الفعل أو عدم الفعل فالإنسان حر طليق في أفعاله الطبيعية. شرعيتها في وجودها.
وفي الفقه يتحرر الإنسان من العبودية بالعلم؛ إذ لا يجوز استعباد العالم في حده الأدنى وهو القراءة والكتابة. ولا يجوز استعباد الأم، فالأمومة تربية الأطفال على الحرية، وفاقد الشيء لا يعطيه. ولا يجوز استعباد الشجاع المحارب الذي يدافع عن القبيلة ضد الغزو والعدوان، فالشجاعة فعل من أفعال الحرية. وإذا ارتكب الإنسان ذنبًا فعليه تحرير رقبة، فالعبودية ذنب يجب التكفير عنه بالتحرير.
والشهادة نفسها فعل من أفعال الحرية، تبدأ بالشهادة أي بالرؤية والإعلان. فالمسلم هو الذي يشهد على ما يقع في عصره من أحداث وما يتحكم فيها من نظم. ليس كالحكمة الصينية القديمة «لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم» أو بالتعبير المسرحي الشعبي «شاهد ما شافش حاجة». ثم يقوم المسلم بفعلين من أفعال الشعور، فعل النفي في «لا إله» أي نفي كل آلهة العصر المزيفة، الثروة، الجاه، السلطة، الجنس، الشهرة. فإذا ما تحرر منها يقوم بفعل الإثبات «إلا الله» أي الواحد الحق الذي يتساوى أمامه الجميع. فالشهادة تعني حرية الضمير والوجدان، وهو ما يدفعه لقول الحق. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو جهر بالحق مثل النصيحة. ووظيفة الحسبة الكشف عن الزيف في المعاملات والاحتيال في الموازين والأسعار في الأسواق. فالمسلم لا يخاف من الإعلان عن الحق لأن حرية الرأي والتعبير والتفكير من مقتضيات الإيمان الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
الحرية في القول والعمل، في الفكر والاعتقاد. تمنع الإنسان من ازدواجية الشخصية والنفاق والرياء والمدح قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ. الحرية هي الإعلان والبيان والبلاغ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ. الحر كالرسول يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
يكفي اليسار الإسلامي أن يكون مدافعًا عن حريات الناس ضد قهرهم والتسلط عليهم. فبدون الحرية لا تنشأ استنارة عقل، ولا توزيع ثروة، ولا إحراز تقدم، ولا تأكيد حق طبيعي، ولا وجود لإنسان.
(٧) الإسلام الديمقراطي
«الإسلام الديمقراطي» إحدى صياغات اليسار الإسلامي وتسمياته، وهو موجود بالفعل في مصر وتونس. ويعني قبول التعددية السياسية والنظام الحزبي والاحتكام إلى صناديق الاقتراع بعيدًا عن العنف واستعمال القوة للوثوب على السلطة بتنظيمات علنية أو سرية، وهي تسمية طبيعية بعد «الإسلام الليبرالي»، حرية الفرد أولًا ثم ديمقراطية الحكم ثانيًا.
ولفظ «الديمقراطية» أيضًا لفظ معرب مثل «الليبرالية». وأصبح أيضًا متداولًا وشائعًا. ويعني حكم الشعب على النقيض من حكم الطغاة كما حدث عند اليونان. ويفضل الإسلاميون استعمال لفظ «الشورى». وبالرغم من الخلاف في الآليات بين «الديمقراطية» و«الشورى» إلا أن الاتفاق في الروح، وهو ضد حكم الفرد وانفراده بالرأي والقرار. ويصر العلمانيون على أن الخلاف بينهما كبير. وهما أقرب إلى الاختلاف منهما إلى الاتفاق. والحقيقة أن الخلاف في استعمال اللفظ بين الإسلام الديمقراطي والعلماني الغربي إنما هو صراع على السلطة. فالإسلاميون يريدون إعادة صياغة إسلام مدني قادر على التعامل مع باقي الاتجاهات السياسية في إطار من شرعية الدولة. والعلمانيون الغربيون يريدون حصار الإسلاميين في المحافظة الدينية حتى يفسح لهم المجال وحده للعمل السياسي الشرعي خوفًا من شعبية الإسلاميين وقدرتهم على حشد الجماهير.
والمعنى الشائع لا خلاف عليه. فالسلطة للشعب وليست للرئيس، واحترام سلطة الأغلبية وأولويتها على سلطة الأقلية، وحرية الصحافة وأجهزة الإعلام، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء. الديمقراطية بهذا المعنى الشائع أفضل من الأوتوقراطية، حكم الفرد المطلق وحكم الأقلية وحكم الطبقة. ومع ذلك الديمقراطية في آلياتها الغربية لها حدودها باعتراف أنصارها أنفسهم. فهي تصور كمي يقوم على قسمة الشعب إلى أغلبية وأقلية. الأغلبية في الحكم، والأقلية في المعارضة. للأغلبية الحق في إصدار القرارات في النظام السياسي، اشتراكية أو رأسمالية، وفي العلاقات الدولية، حربًا أم سلمًا. فإذا ما أصبحت أغلبية اليوم أقلية في الغد وأصبحت أقلية اليوم أغلبية في الغد، تتغير القرارات السياسية. وما كان حقًّا يصبح باطلًا، وما كان باطلًا يصبح حقًّا. ولا يوجد نظام قيمي يحكم ديكتاتورية الأغلبية وتبعية الأقلية أو اتفاق الأغلبية والأقلية على القهر والغلبة كما حدث في النازية والفاشية أو على تأييد الغالب على المغلوب والقوي على الضعيف والظالم على المظلوم كما يحدث الآن في تأييد اغتصاب إسرائيل لفلسطين وطرد الشعب الفلسطيني خارج وطنه في المخيمات أو إلى بلاد المهجر. فلا فرق بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية أو بين العمال والمحافظين في بريطانيا في العدوان على العراق وأفغانستان وتأييد اغتصاب فلسطين. لا فرق بين أقلية وأغلبية لاجتماعهما معًا على أيديولوجية الغزو العسكري للأوطان، واغتصاب حقوق الشعوب.
وتقوم الديمقراطية على تصور فردي، صوت واحد لكل فرد بصرف النظر عن علمه أو جهله، اختصاصه أو عدم اختصاصه، وعيه أو عدم وعيه، استقلاله أو تبعيته، حضوره أم غيابه، التلاعب بصوته أو احترامه. كما أنه يخضع لقوة الإعلام والدعاية الانتخابية للمرشحين وانتماءاتهم القبلية أو الطبقية. تتحكم في الانتخابات «الأعمال القذرة». ولم تمنع الديمقراطية في النهاية من شتى أنواع الفساد والرشوة والتهرب من الضرائب.
أما «الشورى» التي يفضلها الإسلاميون فإنها تقوم أساسًا على حق الاختلاف وشرعيته. فاختلاف الآراء مثل اختلاف الليل والنهار واللغات والشعوب والقبائل والعادات والتقاليد. واختلاف الأئمة رحمة بينهم. والكل راد ومردود عليه. لذلك نشأ علم الخلاف في الفقه وعلم التعارض والتراجيح في أصول الفقه. وذلك ضد الانفراد بالرأي والقرار حماية لمصالح الأمة من الانفعالات والمصالح والأهواء. الأقلية لها نفس احترام الأغلبية. ويكون الإجماع ناقصًا حتى ولو عارض واحد فقط. هي ديمقراطية توافقية للوصول إلى رأي واحد عليه إجماع الأمة. تخضع لنسق من القيم. فالحق ليس مشروطًا بإرادة الأغلبية. ولا الباطل مشروطًا بإرادة الأقلية حتى لا يصبحا نسبيين، يتغيران بتغير أصوات الناخبين. نسق القيم مستقل عن أهواء البشر. الحق حق، والباطل باطل. والعدل عدل، والظلم ظلم، بصرف النظر عن إرادات البشر. إنما الخلاف في مدى إلزامها. البعض يجعلها ملزمة، والبعض يجعلها استشارية. فالقرار في النهاية للرئيس، وهو الإمام بتعبير القدماء، وهو مبايع من الناس وليس معينًا من رئيس سابق أو من وصية أو من عهد أو من نص. وكما قال القدماء «الإمامة عقد وبيعة واختيار». والعقد شريعة المتعاقدين بين الحاكم والمحكوم. يطيع المحكوم الحاكم طالما أطاع الحاكم القانون والدستور. ويعصي المحكوم الحاكم إذا ما عصى الحاكم القانون والدستور وفسخ العقد من جانبه. ويحق للمحكوم الخروج على الحاكم بعد استيفاء وسائل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة. وهي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية. فالحكم الإسلامي ليس ثيوقراطيًّا بل حكم القانون. والحاكم مبايع من الناس وممثل لهم وليس معينًا لله وممثلًا له. والحكم مدني وليس إلهيًّا، سياسي وليس دينيًّا، نسبي وليس مطلقًا.
قد يعيب العلمانيون على الشورى أنها حكم الأقلية، وأن البيعة من أهل الحل والعقد وليس من جمهور المسلمين. هل هي بالانتخاب أم بالتعيين؟ هل هم رجال الأحزاب أم أهل الاختصاص؟ والحقيقة أن هذه كلها صياغات مختلفة متروكة لحكم البشر. فبعض النظم تفضل انتخاب الرئيس بالاقتراع العام. والبعض الآخر يفضل انتخابه من البرلمان. فالديمقراطية التمثيلية ليست غاية في ذاتها بل هي وسيلة لمنع الانفراد بالرأي والتفرد بالقرار. وكثيرًا ما قامت تجارب التنمية وبناء الدول وتحقيق المشاريع القومية بالتوافق الوطني وأحيانًا بسلطة الدولة كما تم في اليابان وكوريا الجنوبية ومصر في دولة محمد علي وعبد الناصر. ويمكن تحقيقها بوسائل أخرى. والأفضل بطبيعة الحال بالوسائل الديمقراطية السائدة هذه الأيام لتجميل النظام السياسي والتي ليس لها أي أثر في الحياة السياسية. وظيفتها تبرير القرارات السياسية لحكم الفرد المطلق كما تفعل المجالس النيابية.
لقد استشارت الملكة سبأ في أمر سليمان، قالت: يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون. لا فرق في ذلك بين رئاسة الرجل ورئاسة المرأة. وقد كان الرسول يستشير أصحابه «لا خاب من استشار».
(٨) الإسلام البرجماتي
«الإسلام البرجماتي» إحدى تسميات اليسار الإسلامي. واللفظ معرب أيضًا مثل الليبرالي والديمقراطي. واللفظ العربي هو الإسلام العملي.
ليس الإسلام دينًا نظريًّا يضع قواعد العقائد. فالمسيحية تفعل ذلك. وتجعل همها في معرفة السر. لذلك ازدهر اللاهوت العقائدي في المسيحية. الإسلام دعوة إلى العمل أو بتعبير الأصوليين اقتضاء فعل. والقرآن مليء بآيات الدعوة إلى العمل وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ. ويربط القرآن بين الإيمان والعمل في مئات الآيات التي تبدأ بنداء (يا أيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات). ويستنكر انفصال القول عن العمل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ. وقد ظهر ذلك في الحديث أيضًا «الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل».
والدعوة للعمل من أجل تحقيق المنفعة العامة. لذلك تسمى البرجماتية أيضًا مذهب المنفعة. والقرآن مملوء بالآيات التي تحث على تحقيق المنفعة فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. وفي الحديث «خيركم للناس أنفعكم للناس»، «أعوذ بالله من علم لا ينفع».
وقد ظهر ذلك بوضوح في علم أصول الدين وهو علم العقائد. فالتوحيد له غرض عملي. يتجلى في وحدة الذات الإنسانية بين القول والعمل، وبين الفكر والوجدان منعًا لازدواجية الخطاب وكل أشكال النفاق والرياء والمداهنة. والإيمان والعمل إحدى القضايا الرئيسية في علم الكلام. المثل الأعلى التوحيد بين القول والعمل والفكر والوجدان. والعمل هو أساس الاستحقاق، الثواب والعقاب فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. والعمل هو الكدح يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ. لذلك فرَّق الفقهاء بين التوحيد النظري والتوحيد العملي، بين التوحيد الذهني والتوحيد الإرادي. وكل الأسئلة التي سألها المسلمون النبيَّ كانت لها إجابات عملية يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ. ولا يُسئل عن أشياء نظرية لا ينتج عنها أثر عملي مثل وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي. والسؤال النظري إجابته عملية كما سُئل الرسول متى الساعة فقال «استعد لها».
وظهرت هذه النزعة العملية في باقي العلوم الإسلامية. ففي الفلسفة، الفلسفة قسمان: نظرية وتضم المنطق والطبيعيات والإلهيات، وعملية وتضم الأخلاق والاجتماع والاقتصاد. والنظرية مقدمة إلى العملية. وفي علم أصول الفقه الوعي التاريخي، المصادر الأربعة للشرع مقدمة للوعي النظري، تحليل الخطاب وأفعال الأمر. وكلاهما يصبان في الوعي العملي، المقاصد والأحكام. فالشريعة قصد موجه نحو الإنسان، حياته وعقله وقيمه وكرامته ومصالحه. والإنسان أيضًا قصد جزئي موجه نحو الفعل بالنية. وأحكام الوضع وصف لفعل الإنسان في العالم، سببه وشرطه ومانعه وطاقته وصدقه. وأحكام التكليف وصف لفعل الإنسان الضروري، إيجابًا وسلبًا وهما الواجب والمحرم أو الحر، إيجابًا وسلبًا وهما المندوب والمكروه أو الطبيعي وهو المباح. والفقه عبادات ومعاملات. وكلاهما أفعال.
ليست البرجماتية فقط من إبداع الغرب وحده، ولا النزعة العملية الأخلاقية من صنعه. فقد تجلت في كل حضارة. سقراط والرواقيون والأبيقوريون عند اليونان، وأوغسطين في العصر المسيحي، وديكارت وكانط وبرجسون وشيلر في العصر الحديث. واشتهر بها وليم جيمس وجون ديوي في الفلسفة الأمريكية. وهي روح الكونفوشيوسية والبوذية في آسيا. وحَّول جوته أول آية في إنجيل يوحنا «في البدء كانت الكلمة» إلى «في البدء كان الفعل». واشتهر كارل ماركس بأنه هو الذي نقل الفلسفة الغربية من النظر إلى العمل، ومن فهْم العالم إلى تغييره.
واليوم ندخل حرب العقائد. ويكفر بعضنا بعضًا لقول أو مقال، والواقع لم نتغير. شغلنا أنفسنا بعذاب القبر ونعيمه، ومنكر ونكير، والجنة والنار، والصراط والميزان والحوض. وتصدر فتاوى عن إرضاع الكبار لجواز الخلوة، وببول الرسول لجواز البركة، ولريقه للعلاج. ومن القواعد الفقهية القديمة أن كل مسألة نظرية لا ينتج عنها أثر عملي فإن وضعها في العلم عار أي لا يجوز. والكافر العادل عند الله خير من المسلم الظالم. وامتلأت خطب المساجد بما لا ينفع، والحديث عن جنس الملائكة وفلسطين تضيع، وعن جواز الجن والعراق يسيل دمه كل يوم، وعن المعجزات والكرامات ويراق دم الأفغان من القوات الأمريكية والبريطانية. وقضاء حاجات الناس أولى من الحديث الذي لا ينفع. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. والأمور بخواتيمها وليس بمقدماتها.
لذلك كثرت نداءات الإصلاح للفعل والعمل، وصاح محمد عبده: «ما أكثر القول وأقل العمل». وكثرت دعوات العودة إلى دعوة القرآن لما ينفع. بل المنفعة والضرر هما مقياس الإيمان وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ، أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا، والعلم هو العلم النافع وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ. والذكرى هي الذكرى النافعة فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى. والشفاعة لا تنفع بعد انقضاء الحياة يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ. والصدق هو النافع هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ.
وقد خُلق هذا العالم من أجل منفعة الإنسان وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ. والحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، والأنعام بها دفء ومنافع. والعبادات بها منافع الصلاة والصيام والزكاة والحج لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ.
إن قيمة الإنسان اليوم بما ينتج. والأخ الذي لا يعمل لإعالة أخيه العابد أفضل عند الله. ويقول إقبال في ديوان «جواب شكوى»: سألني الله يومًا: هل يعجبك العالم؟ فقلت: لا. فأجابني «إذن غيِّره».
(٩) الإسلام الإصلاحي
«الإسلام الإصلاحي» أحد تعبيرات اليسار الإسلامي. فهو لا يدين ولا يكفِّر ولا يستبعد أي تفسير آخر، تعلمًا من تجارب الأنبياء السابقين. فقد دعا نوح على قومه بالهلاك، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا. وغضب موسى من قومه ومن أخيه هارون الذي خلفه وصعد إلى جبل الطور يعبد ربه، وترك قومه في التيه، وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وأعلن عيسى الحقيقة كلها فلم يتحمله قومه ووشوا به وتخلصوا منه ثم عبده أنصاره. فبناء النفوس أصعب من بناء الدول فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ، وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
الإسلام حركة إصلاحية ضد الإفساد في الأرض، تغير ما هو موجود وليس تدميره أو إقصاؤُه أو الخروج عليه بالعنف المسلح أو الانعزال عنه إلى الكهوف والصحراء، في الأديرة والزوايا والخانقاه. تعامل مع كل ما كان موجودًا من أديان سابقة عليه. ارتبط بالحنفاء، دين إبراهيم، وقد كانوا معظَّمين عند العرب. وتعامل مع اليهودية والنصرانية مؤكدًا أن القرآن مصدق لما جاء في التوراة والإنجيل والزبور دون حرفية القانون والعصيان، وادعاء الاختيار في اليهودية، وضد التحريف وسوء فهم العقائد والوقوع في الاشتباه في النصرانية، وكلاهما «أهل ذمة» أي في ذمة المسلمين. يعيشون معهم ويشاركونهم الطعام والشراب والزواج. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ. وارتبط بالصابئة مغيرًا عبادة الكواكب إلى استعمالها لمعرفة المواقيت والحساب. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ. وارتبط بالمجوس، مغيِّرًا عبادة النار إلى توظيفها في الدفء والوقود. أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ حتى يُنتزع استغلالها ويُقضَى على ألوهيتها. فالنار مصنوعة وليست صانعة الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. النار للدفء لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، وللصناعة وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ. والكل يكوِّنون الأمة الإسلامية المتعددة الديانات والطوائف والملل والنِّحل. وكما حدث بالفعل في «ميثاق أهل المدينة» أول دستور تعددي في التاريخ.
كما آخى الإسلام بين الأوس والخزرج، ولم يدمرهما ويأتي بقبائل جديدة. كما آخى بين المهاجرين والأنصار ولم يغلِّب فريقًا على فريق. وأيد حلف الفضول قبل الإسلام أي نصرة المظلوم ضد الظالم. وتواصل مع الجاهلية بعد تنظيف الكعبة من الأصنام. «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام».
وغيَّر الواقع تدريجيًّا دون هدمه وإعادة بنائه من جديد. حرم الخمر تدريجيًّا، لما فيها من إثم ومنافع، ولعدم التركيز في الصلاة ثم عدم الاقتراب منها لأنها رجس دون لفظ التحريم. وغير وضع المرأة مما لا مساومة فيه وهو حق الحياة وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ إلى وضع سقف لتعدد الزوجات وفي حالات استثنائية وبشرط مستحيل التحقق وهو العدل وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ. ولم تكن لها شهادة فأصبحت نصف شاهدة. ولم يكن لها نصيب في الميراث فأصبحت نصف وارثة. ولم يكن لها حقوق في الطلاق فأصبح لها النفقة ومؤخر الصداق. وكانت لا تخرج من الخيمة فتصدرت الحياة العامة في العلم والقضاء، والسلم والحرب. هذا التغير التدريجي بنص الوحي في «الناسخ والمنسوخ» كلما تغير الواقع تغير الحكم طبقًا لدرجة تقدمه. ودور الفقيه الآن هو الاستمرار في روح الإسلام نحو المساواة بين المرأة والرجل من النصف إلى الواحد الصحيح.
الإسلام الإصلاحي ضد الحاكمية بالمعنى السلفي أي تكفير المجتمع ونظمه القائمة الليبرالية والقومية والإسلامية النصية بل تبدأ من واقع هذه النظم وتجعلها أقرب إلى النظام الإسلامي، تحول سلميًّا من الواقع إلى المثال، وهو المنهج الإسلامي في البداية بالطبيعة والاتجاه بها نحو الكمال. لذلك أُعجب المسلمون بأرسطو. فالطبيعة تتجه نحو الكمال.
لذلك كثر استعمال لفظ «الإصلاح» في مقابل «الإفساد» في القرآن. النبوة إصلاح، والنبي مصلح واسم النبي صالح إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ. والإصلاح هو سبب البقاء في الأرض وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ. والنجاة في السماء جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ. وشرط التوبة الإصلاح والتغير بعدها فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، وهو فعل حر لا يتدخل الله فيه إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ودون احتجاج بالقضاء والقدر. والإصلاح ضد الإفساد وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا. ومعيار التمييز بين الناس هو الإصلاح والإفساد، وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ. والإصلاح والإفساد في الأرض وبين الناس الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ. والعمل هو العمل الصالح. والإيمان مقرون به.
لذلك أُعجب المسلمون بحركة الإصلاح الديني الحديثة عند الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين والكواكبي وعبد الحميد بن باديس. بل إن كل التيارات الفكرية والسياسية، الليبرالية والعلمية بل والعلمانية تيارات إصلاحية بالمعنى الواسع أي تغيير الوضع القائم لما هو أفضل، وهو المعنى الأصلي لليسار، تغيير الوضع الراهن لما هو أفضل وليس تثبيته كما يريد اليمين المستفيد منه. وقد نشأ التباين في مناهج الإصلاح بين الإصلاح الثوري السياسي بل والانقلابي عند الأفغاني، والإصلاح التربوي الأخلاقي التدريجي عند محمد عبده بعد فشل الثورة العرابية. وسعد زغلول قائد ثورة ١٩١٩م في مصر تلميذ الأفغاني. ويتوق الجيل الحالي من المصلحين للانتقال من الإصلاح الديني إلى النهضة الشاملة. فلا نهضة بدون إصلاح.
ليس الإصلاح والنهضة وقفًا على الغرب. فقد عُرف الغرب بهما، بالإصلاح الديني عند لوثر في القرن الخامس عشر، وبالنهضة عند جيوردانو برونو في القرن السادس عشر. وأعجب المصلحون الإسلاميون بمارتن لوثر. فقد سُمي الأفغاني «لوثر الشرق». وقد درس لوثر الإسلام لمعرفة كيف وصل إلى الإصلاح. وجعل اسبينوزا الإسلام نموذجًا لإصلاح المعبد اليهودي. تلك بضاعتنا رُدت إلينا. المهم الآن كيفية تطوير الإصلاح وتحويله من الخطابة إلى العلم، ومن الوعظ إلى التحليل، ومن الوجدان إلى العقل، ومن الدفاع إلى النقد حتى لا يكبو من جديد أو تتعثر نهضته إلى سقوط أو تنقلب ثورة إلى ثورة مضادة حتى تتعلم الأمة من دروس التاريخ.
(١٠) الإسلام الاشتراكي
من أسماء «اليسار الإسلامي» «الإسلام الاشتراكي». وربما هو أول اسم يتبادر إلى الأذهان نظرًا للتوحيد التاريخي بين اليسار والاشتراكية. وقد ازدهرت أدبيات «الإسلام والاشتراكية» في الستينيات حتى اعتقد الناس تحت تأثير الإعلام والدولة الاشتراكية أن الإسلام هو الاشتراكية وأن الاشتراكية هي الإسلام. فمنذ الأربعينيات كتب مصطفى السباعي «الاشتراكية في الإسلام». واستأنف ذلك سيد قطب في «العدالة الاجتماعية في الإسلام» عام ١٩٥٠م. ثم ازدهرت هذه الكتابات بعد الثورة المصرية منذ صياغة الاشتراكية التعاونية في ١٩٥٥م ثم الاشتراكية العربية في الميثاق عام ١٩٦٣م ثم التطبيق العربي للاشتراكية بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م في ورقة ٣٠ مارس عام ١٩٦٨م أسوة بالاشتراكية الأفريقية، واشتراكيات العالم الثالث، وضد اتهام الثورات العربية في منتصف القرن الماضي بأنها مادية ملحدة، شيوعية دموية من النظم الملكية والإقطاعية الرأسمالية. فالاختيار السياسي، اشتراكي أو رأسمالي هو الذي يحدد القراءة والانتقاء من النص ما يدعمها. والنص قابل للانتقاء الجزئي والتأويل طبقًا للاختيار السياسي.
ودون أي قراءة اشتراكية معاصرة للإسلام في مواجهة الموجة الحالية منذ ثلاثة عقود من الزمان أو يزيد للخصخصة وبيع القطاع العام والبنوك والشركات الوطنية والدخول في النظام الرأسمالي العالمي دون قيم ليبرالية، يمكن القول بلا أدنى تردد إن الإسلام اختيار اشتراكي في مبادئه الاقتصادية العامة. الإسلام رؤية جماعية تقدم الجماعة على الفرد، والأمة على المواطن. ويتضح ذلك في الملكية العامة لوسائل الإنتاج ملكية جماعية أو ملكية دولة لكل ما تعم به البلوى، الماء والطاقة والمواصلات والمعادن، ولكل ما هو ثابت غير منقول. وبتعبير القدماء هو «الركاز» أي كل ما في باطن الأرض. عرف القدماء الذهب والحديد والنحاس والفضة والمنجنيز والفوسفات وعرفنا نحن النفط. وقد عُرفت الملكية العامة بلفظ «الاستخلاف» وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ. للإنسان حق الاستثمار والانتفاع والصرف فيما لديه وليس له حق الاحتكار والاستغلال والاكتناز. فالمحتكر ملعون. ولفظ المال في القرآن لا يشير إلى شيء أي إلى كنز وثروة بل هو لفظ مركب من اسم الصلة «ما» وحرف الجر «ل» أي إنه إضافة. فالملكية وظيفة اجتماعية واقتصادية وليست استحواذًا على شيء، من فعل الذات وليست من فعل الموضوع.
وقد انتشرت أحاديث كثيرة تشرع للقطاع العام مثل «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». الماء والكلأ رمز للزراعة والنار رمز للصناعة. و«الإقطاع» في النظم الاقتصادية القديمة مزارع للدولة يرعى فيها الجميع. كما وضع ابن حزم مبدأ «الأرض لمن يفلحها» أي عدم جواز الملاك الغائبين وامتلاك الأرض لغير الفلاحين. كما وضع القدماء مبدأ «من استصلح أرضًا فهي له». ووضع الفقه القديم نظم المؤاجرة والمزارعة، واحد بأرض والثاني بعمله مناصفة ومشاركة في الانتفاع. وحرم القرآن الربا واستغلال حاجات الفقراء من الأغنياء. وجعل العمل وحده مصدر القيمة، وليس الإرث أو النسب. وحدد الأسعار، ووضع هامشًا معينًا للربح. ومنع الغش وبيع ما في الغيب مثل التمر على النخل قبل أن يطرح، والوليد في بطن الحيوان قبل أن يولد، والزرع في الأرض قبل حصاده. ووظيفة المحتسب الرقابة على الأسواق والموازين ومنع الغش في البضائع.
ليست الزكاة وحدها هي حق الفقراء في أموال الأغنياء بل في مال الأغنياء حق للفقراء غير الزكاة وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. ولا يجوز ترك المال العام في أيدى قلة أو طبقة لمنع الاستغلال كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ. واستعمالات لفظ «المال» في القرآن تشير إلى أنه أموال الغائبين «أموالهم» وليس أموال الحاضرين ولا يوجد لفظ «أموالي» بل لفظ «مالي» وبمعنًى سلبي مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ. أي سلطة الاقتصاد والسياسة.
وكثرت أحاديث الاشتراك في الأموال والثروات في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وفي الممارسات الاجتماعية. فالقرآن يدين من له تسع وتسعون نعجة ويريد أن يأخذ نعجة أخيه لتتراكم ثروته وإعدام ثروة الآخرين. ويصوِّر القرآن سبب انهيار المجتمعات وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي تعطيل مصالح الناس الحيوية مثل الماء والآبار وتشييد قصر لإقطاعي على حافته. ويصف «رب البيت» بأنه هو الذي يطعم عن جوع ويؤمن من خوف فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ. فالله على علاقة بالخبز والحرية، ولا يسمح الإسلام بوجود فوارق اجتماعية شديدة بين من يملكون ومن لا يملكون. «ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ». وما زاد عن حاجة الإنسان وقوت يومه فهو حق للآخرين. وفي الأثر: «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه». وقد نُقل عن عمر: «لو كان الفقر رجلًا لقتلته». ونفى عثمان أبا ذر الغفاري إلى ربضة الشام عندما رأى التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء، وبناء القصور، وتراكم رأس المال بأيدي قلة، وظهور الطبقات الاجتماعية. وقد جعله بعض المفكرين المعاصرين مثل علي شريعتي أول اشتراكي في الإسلام. وفي الإسلام نقد شديد للإسراف والمسرفين والتبذير والمبذرين وكل مظاهر الاستهلاك الحديثة داعيًا إلى التقشف وعدم ملء البطون «حسب المرء لقيمات يقمن صلبه.» ثُلث المعدة للطعام والثلث للماء والثلث للنفَس. إن أي سياسة للتنمية تتضمن الحد من الاستهلاك وشد الحزام على البطون والادخار الوطني من أجل الاستثمار.
إن أوضاع المسلمين اليوم تحتم هذا الخيار الاشتراكي للإسلام نظرًا للتفاوت الشديد في الدخول بين الأغنياء والفقراء. فأغنى الأغنياء منا، أحد السلاطين. وأفقر فقراء العالم منا، الآلاف الذين يموتون بطنة وإشباعًا والملايين الذين يموتون قحطًا وجوعًا وعريًّا وهلاكًا في مالي وتشاد والصومال وإريتريا والسودان وبنجلاديش والهند. والإسلام قادر على تلبية حاجات المسلمين في كل عصر. ما ينقصه هو اجتهاد العلماء. واليسار الإسلامي أحد الاجتهادات لحل القضية الاجتماعية من أجل إعادة توزيع الدخول بين المسلمين دون تركيز الثروة في منطقة، والفقر في منطقة أخرى، والجفاف في منطقة، والمياه في منطقة أخرى، والثروات الطبيعية في منطقة والعمال في منطقة أخرى. وقد استطاعت بلدان إسلامية مثل ماليزيا وتركيا واليمن وإيران والهند الوعي بذلك. والعقل والخبرة والعلم متوفرة في الوطن العربي والعالم الإسلامي. تساهم في بناء الغرب، وتشارك في تحقيق مشاريعه التنموية. وأهل مكة أدرى بشعابها دونما حاجة إلى عقل إسرائيل.
ما ينقص هو الإرادة السياسية الواحدة، والعمل على الأمد الطويل وليس على الأمد القصير، والتخطيط لمشاريع تنمية مشتركة تواجه قضية الفقر والبطالة والإسكان والتعليم والصحة. واليسار الإسلامي محاولة لتوعية الأمة، العامة والخاصة، الشعب والقادة، الجماهير والنخبة، على أن «الإسلام هو الحل» ليس كشعار فارغ من أي مضمون بل كبناء سياسي اجتماعي وتغيير للوضع القائم وإصلاح لأحوال الأمة وتحقيق لأمانيها في المساواة والعدالة الاجتماعية.
(١١) الإسلام الوطني
«الإسلام الوطني» هو إحدى صياغات «اليسار الإسلامي». يعطي الأولوية للوطن على القبيلة والقوم والعشيرة والعرق والمذهب والطائفة. فالوطن هو الذي يجمع بين الناس وليس العصبية كما كان الحال في العهد القبلي وكما وصف ابن خلدون. والوطن إحساس بديهي بالمكان، وذكريات الطفولة، وصداقات الصبا. والوعي الأولي بالعالم. هو اجتماع المكان، مكان الولادة، بالزمان، بالعصر والتاريخ. الوطن هو الواقع الذي يعيش الإنسان فيه، يخلق فيه الوعي، ويسعى فيه الجسد. اشتق منه لفظ «مواطن» أي من ينتسب إلى وطن؛ لذلك كان ضمن العقوبات الشرعية «التغريب» أي الإبعاد عن الوطن. ومهما عاش المغترب حاليًا خارج وطنه فإنه يحن إليه، يحلم به، ويسامحه مهما أساء إليه بدفعه إلى الهجرة بعيدًا عنه. أول ما يسمع من الأخبار عنه، يأكل طعامه ويشرب شرابه ويلبس لباسه ويسكن مسكنه وهو في الغربة حتى يعيش في وطن بديل، يحمله بين جنبيه في الهجرة والعودة. يسمع أدب المهجر، والحنين إلى الأوطان. ويشاهد «الجزيرة» و«عربية» والفضائيات العربية. ويشارك بأقصى جهد في المهرجانات الوطنية. ويسير في المظاهرات في الشوارع ويشارك في الملتقيات الشعبية في الميادين والحدائق دفاعًا عن الوطن إذا ما أصابه سوء، احتلال وغزو من الخارج أو قهر وتسلط من الداخل.
ليس الوطن ضد الدين بدعوى أن الوطن قيمة علمانية وأن الدين عابر للأوطان، لا يفرق بين وطن ووطن أو قوم وقوم أو شعب وشعب. كل من قال «لا إله إلا الله» فهو مواطن سواء انتسب إلى هذه القومية أو تلك. الوطن واحد. والقوميات والعرقيات والطوائف والمذاهب متعددة.
وحب الأوطان ليس غريبًا على التراث الإسلامي. فقد رُوي عن الرسول ما تعلمناه في المدارس الوطنية ومكتوب على ظهر الصفحة الأخيرة من نصائح «حب الوطن من الإيمان». صحيح لفظ الوطن غير مذكور في القرآن إلا بمعنى الموطن أي المكان لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ويعني موقع النصر وليس الهزيمة أو الهجرة. وألقى الرسول خطابًا ليلة الهجرة وهو يودعها في نظرة أخيرة معلنًا أنها أحب البلدان إلى قلبه لولا ظلم أهلها. وكان لدى عمر بن الخطاب إحساس بأن العرب ينتمون إلى بلاد العرب ذات الدين الواحد «والله لن أجعل في بلاد العرب دينين». وكتب التوحيدي رسالة «في الحنين إلى الأوطان». وقد صدَّر الطهطاوي كتابه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» بأنشودة في حب الوطن وفي كل التراث الإسلامي في حب الأوطان.
وطالما قامت حركات التحرر الوطني على أولوية الوطن على الأيديولوجيات السياسية. قامت بفضل «الجبهة الوطنية» أو «الائتلاف الوطني» أو «البرنامج الوطني» أو «الخلاص الوطني». فالوطن بوتقة تنصهر فيه كل الاختلافات الأيديولوجية والمذهبية. فاللبناني لبناني أولًا قبل أن يكون مسلمًا أو مسيحيًّا، شيعيًّا أو سنيًّا، مارونيًّا أو كاثوليكيًّا أو أرثوذكسيًّا، درزيًّا أو عربيًّا أو كرديًّا.
وفي نظرية الدوائر الثلاث التي حكمت جيلًا بأكمله كان الوطن هو البؤرة، الدائرة الأولى، ثم القومية الدائرة الثانية، ثم الإسلام الدائرة الثالثة، مصر والعروبة والإسلام. وليس صحيحًا أن الوطن مفهوم استعماري. فقد قسَّم الاستعمار الأمة إلى أوطان، والخلافة إلى أمصار لأن الوطن في وجوده سابق على الأمة كوحدة قلبية وعلى الخلافة كوحدة سياسية. وكان عيب «الجمهورية العربية المتحدة» في ١٩٥٨–١٩٦١م أنها أسقطت أسماء الأوطان مصر وسوريا. أما اسم «جمهورية مصر العربية» فإنه يعطي الأولوية للوطن على القومية في حين أن «الجمهورية العربية السورية» و«الجمهورية العربية اليمنية» تعطي الأولوية للقومية على الوطنية. أما «الجمهورية التونسية» أو «الجمهورية الجزائرية» فإنها تقتصر على الوطن دون العروبة. والاختلاف شديد بينها في النظم السياسية بين الجمهورية والملكية والدولة والسلطنة. فالولاء الوطني ليس خيانة للولاء القطري أو الأممي. فالوطن ليس هو القطر. الوطن كيان أولي في حين أن القطر جزء مصطنع من كيان سياسي أشمل. ومِن ثَم لا مكان لتكفير الإسلامي للوطني والقومي أو تخوين الإسلامي والقومي للوطني. فلا خصومة ولا فرقة في الوطن بل الحوار الوطني بين كافة الاتجاهات الفكرية والتيارات السياسية. الوطن هو الانتماء الأول والولاء الأول الذي منه تتشعب الاختيارات السياسية.
ليس الوطن قيمة غربية من منظومة القيم العلمانية مثل العقل والحرية والإنسان والتقدم والمساواة والطبيعة بل هو عاطفة أولية تقوم على تفاعل الزمان والمكان في وعي الإنسان بالعالم منذ الصغر. ومِن ثَم الوطن هو الرابطة الجامعة لكل المواطنين. والأغرب هو عزل المواطنين المصريين في درس التربية الدينية بين المسلمين لدراسة الدين الإسلامي والأقباط لدراسة الدين المسيحي وفك رابطة الوطن لصالح رابطة الدين مع أن التربية الوطنية جامع للفريقين، والقيم الأخلاقية هي الجامع للدينين. الوطن هو الجيرة والقرابة، والأقربون أولى بالشفعة. والجار أولى من البعيد «ما زال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
الخطورة الآن في تفتيت الأوطان إلى كيانات عرقية وطائفية والقضاء على الولاء الوطني لولاءات بديلة حتى تبتلع العولمة الشاملة هذا الفسيفساء العرقي الطائفي. فالوطن مهدد من أسفل بالطائفية والعرقية ومن أعلى بالعولمة والشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية.
الوطن كيان تاريخي تجسده الدولة خاصة في بعض الدول التاريخية مثل مصر والمغرب والعراق. قد تكون الدولة الوطنية الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمار شكلًا حديثًا لأمم تاريخية. الوطن خبرة أولية لا ترد إلى القطر أو البلد أو المصر أو الأراضي المتنازع عليها تحت وصاية الأمم المتحدة أو تحت الاحتلال. الوطن رموزه النشيد الوطني، والسلام الوطني، والعلم الوطني، والزي الوطني، والحياة الشعبية الوطنية. والمواطنة سابقة على الحرية لأنه لا حرية إلا لمواطنين. والحرية لا تكون إلا في وطن. ويمكن للمواطن التنازل عن حريته الفردية في سبيل حرية الأوطان. وحرية الأوطان لا تؤجل حتى يتحرر المواطن. تحرير فلسطين له الأولوية على حرية الفلسطيني. فالوطن قبل الفرد.
الإسلام الوطني قادر على لمِّ الشمل بين الإسلاميين والعلمانيين لصالح الوطن. فالإسلامي والعلماني ينتسب إلى نفس الوطن. وكلاهما مواطن في نفس الوطن. والخلاف الأيديولوجي لا يقضي على وحدة الأصل. فإذا قال الإسلاميون: «الإسلام هو الحل» وقال الوطنيون: «الوطنية هي الحل»، فعند اليسار الإسلامي «الإسلام الوطني هو الحل».
(١٢) الإسلام القومي
اليسار الإسلامي أيضًا إسلام قومي، يربط العروبة بالإسلام. فالإسلام أحد تجلياتها ومراحلها التاريخية، كما أن العروبة أحد مراحل تطور الوحي منذ آدم حتى محمد. حمله الساميون، وكان آخرهم العبرانيين. وبالرغم من الصراع التقليدي بين الإسلاميين والقوميين لسوء فهم متبادل لكل منهما الآخر. فالقومية عند الإسلاميين عرقية محدودة، في حين الإسلام إخوة شاملة. والإسلام عند القوميين تجاهل للعروبة وأممية لا وجود لها في عصر القوميات. فما يجمع بين العربي المسلم والعربي المسيحي أكثر مما يجمع بين العربي المسلم والصيني المسلم. وبعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م نشأ الحوار القومي الإسلامي في مواجهة الأخطار المشتركة من العدوين التقليديين لهما، الاستعمار والصهيونية. فالأيديولوجيتان متكاملتان. الإسلام ثقافة العرب. والعروبة حامل الإسلام الأول قبل باقي الأمم الأخرى في آسيا وأفريقيا وأخيرًا في الغرب الحديث، أوروبا وأمريكا.
صحيح أن لفظ «قوم» لفظ قرآني مع ألفاظ أخرى مثل قبيلة وعشيرة ورهط وأناس وشعب. ويعني قوم مجموعة مترابطة من الناس. ذكر اللفظ ومشتقاته في القرآن ثلاثمائة وثلاثًا وثمانين مرة. ويعني الجماعة الصالحة العالمة المؤمنة الذاكرة العاقلة الموقنة المعاهدة المحبة. وهي خصائص خلقية مثالية وليست عرقية شعوبية. في حين ذُكر لفظ «إسلام» مائة واثنتين وأربعين مرة أي الثلث تقريبًا.
ولا تعني القومية العربية وحدها بل أي قومية. فالإسلام التركي قائم على القومية التركية. وكذلك الإسلام الإيراني أو الهندي أو الصيني أو الأزبكي. وقد يتم توسيع المفهوم القومي على القاريِّ مثل الإسلام الأفريقي، الإسلام الآسيوي، الإسلام الأوروبي. ولا يعني ذلك تعدد الإسلام من حيث هو مضمون ورسالة، بل يعني فقط فهمه في ظروف وأطر ومواقف حضارية مختلفة، ويلبي حاجات كل حضارة وشعب. الإسلام القومي حلقة متوسطة بين الإسلام الوطني والإسلام الأممي طبقًا للدوائر الثلاث: الوطن والعروبة والإسلام. وكما نقول في الاستعمال مصري وتعني عربي، فإننا نقول «عربي» وتعني «إسلامي»، لا فرق بين الوطن العربي وليس العالم العربي، والعالم الإسلامي وليس الوطن الإسلامي. فالإسلام له حامل قومي. حمله العرب كما حمله غير العرب.
العروبة حامل الإسلام الأول. أراد عمر أن يوحِّد جزيرة العرب وأن يجعلها قصرًا على العرب والإسلام. وحديثًا جعل بعض القوميين مصر الدولة القاعدة لتوحيد العرب، والعرب القومية القاعدة لتوحيد الأمة. ليست العروبة عرقًا وليست بأب أو أم بل هي اللسان. فكل من تحدث العربية فهو عربي. اللغة تفرض فكرها وثقافتها ورؤيتها للعالم.
العروبة خاصية للسان والثقافة ممثلة في القرآن والنبي مبلغه. فقد ورد لفظ «العرب» ومشتقاته في القرآن إحدى وعشرين مرة لوصف اللسان وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، والقرآن إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وهي أكثر الاستعمالات (ثماني مرات)، والحكم أي الشريعة أي الطبيعة والفطرة العربية. أما «الأعراب» فلها معنًى سلبي بمعنى البدو في الاستعمال التداولي الحديث، يتميزون بالكفر والنفاق والتخلف عن المعركة، وهو اللفظ الأكثر استعمالًا (عشر مرات) وكأنه يصف سلوك بعض الأعراب المحدثين.
وهناك أمم قبلت العروبة والإسلام مثل مصر، وأخرى قبلت الإسلام دون العروبة مثل الأمم القومية، إيران وتركيا. ويمكن اعتناق الإسلام دون اللغة مثل الأمم الإسلامية في آسيا قديمًا وفي الغرب حديثًا إلا في أقل القليل لأداء شعائر الصلاة. ويمكن لأمم أخرى أن تبقي العروبة دون الإسلام مثل النصارى العرب. وهم أولاد عمومة لا تُقبل منهم الجزية. تتعدد اللغات الوطنية والثقافات القومية والدين واحد، عكس ما هو حادث حاليًّا في الوطن العربي والعالم الإسلامي، اللغة واحدة، الفرانكفونية أو الأنجلوفونية التي تضم لغات وطنية وثقافات قومية متعددة مثل الأفريقي أو الآسيوي الذي لغته الفرنسية أو الإنجليزية.
توجد عروبة واحدة كهوية متصلة عبر التاريخ ذات عادات وثقافات ولهجات متعددة. لهجات العرب وزيهم وطعامهم وعاداتهم وتقاليدهم تتغير بتغير الشعوب العربية. أما هوية الشعب العربي في اللغة والثقافة فواحدة. وهناك عادات لشعب انتشرت لدى شعوب أخرى مثل غطاء الرأس حماية من الحر أو غطاء الوجه حماية للرمال. تنتشر في مجموع الصحراء العربية في شبه الجزيرة لتشابه الظروف الجغرافية. و«الأرابيسك» فن أوزبكي انتشر بانتشار الإسلام لأنه فن مجرد يحافظ على التنزيه، ولا يقع في التشبيه.
أصبحت القومية العربية أحد روافد الفكر السياسي العربي الحديث وإحدى أيديولوجياته السياسية المنتشرة في الشام والعراق وعلى أطراف الجزيرة العربية في الخليج واليمن. وحكمت فيها. أخطأت وأصابت، قهرت وحررت، وكوَّنت الوجدان العربي الحديث بانتصاراته وهزائمه. وأصبحت جزءًا من الأناشيد الوطنية «وكل بلاد العرب أوطان»، عدنان وقحطان، لبنان وتطوان، من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر. وظهر مفكرون قوميون مثل ساطع الحُصري ونديم البيطار. وأُنشئت أحزاب قومية رائدة مثل حزب البعث العربي الاشتراكي. وقامت ثورات عربية مثل الثورة العربية الكبرى. وأُنشئت تجارب عربية وحدوية مثل «الجمهورية العربية المتحدة». وقامت مجالس تعاون بين أكثر من قطر عربي. وتأسست الجامعة العربية بيتًا للعرب.
وأمام مخاطر التفتيت والتجزئة للأمة إلى دويلات عرقية عربية وكردية وبربرية وتركمانية وزنجية، وطائفية سنية وشيعية ومارونية وقبطية وإسلامية حتى تصبح إسرائيل أكبر دولة عرقية طائفية يهودية في المنطقة، يساهم الإسلام القومي في الحفاظ على الوحدة العربية باسم القومية العربية. فقد خسرت الأمة الوحدة الإسلامية ممثلة في نظام الخلافة في ١٩٢٤م لصالح القومية العربية. ثم خسرت القومية العربية عدة مرات بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م وحربي الخليج الأولى عام ١٩٨٠م والثانية عام ١٩٩٠م لصالح القطرية. والآن تخسر القطرية لصالح الدويلات العرقية والطائفية.
والمقصود من تفتيت المنطقة عزل مصر من محيطها العربي، ونزع القلب من الأطراف حتى تلتهم القوى الكبرى الأطراف شرقًا وغربًا. وفي عصر التكتلات الكبرى مثل العولمة أو التجمعات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي فإن تجمعًا عربيًّا يضم أكثر من مائتين وخمسين مليونًا من العرب، تحوط به دول الجوار إيران وتركيا يمثل ثقلًا دوليًّا يحمي الأقطار من الاندثار. له جناحه الشرقي في آسيا، والشمالي في تركيا، والغربي في أوروبا، والجنوبي في أفريقيا. يربط بين القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأوروبا. ويكون ميزان الثقل في العالم الجديد كما كان قديمًا في الفترة الإسلامية الأولى. ويرث أوروبا بعد أن فقدت استقلالها بتبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية. حينئذٍ ينسى العالم صور الإرهاب والعنف والتخلف والقسوة والتسلط. ويحيي ذكرى غرناطة وقرطبة وإشبيلية وطليطلة. ويبقى تاج محل وقصر الحمراء من عجائب الدنيا.
(١٣) الإسلام الأممي
والإسلام كما هو معروف لا يعرف حدود الأوطان أو الأعراق، فهو أيديولوجية أممية لمجموع المسلمين تحت لواء «الأمة الإسلامية». وهي أمة لا تتكون فقط من المسلمين بل من جميع المؤمنين بأديان أخرى داخل الأمة الإسلامية مثل أهل الكتاب، اليهود والنصارى، والصابئة، والمجوس، وقياسًا عليه أضاف القاضي عبد البر «عبدة الأوثان». ويمكن إضافة الديانات الآسيوية الأخرى كالهندوكية، والبوذية والتاوية والكونفوشيوسية. الأمة الإسلامية أمة متعددة الأعراق والديانات. ولا تتكون فقط من المسلمين. والكل متساوون في الحقوق والواجبات. وعلى هذا الأساس أقيم «ميثاق المدينة»، وهو أشبه بحلف الفضول الذي وقعَّه الرسول قبل البعثة لنصرة المظلوم أيًّا كان ضد الظالم أيًّا كان. وله صياغاته الحديثة في الدول الفيدرالية أو الكونفيدرالية أو الاتحادات مثل الاتحاد الأوروبي قولًا وعملًا، والاتحاد الأفريقي قولًا، ومثل التجمعات الإقليمية، «الآسيان» في جنوب شرق آسيا أو «النافتا» في أمريكا الجنوبية أو «منظمة شمال الأطلنطي» في أوروبا أو «الاتحاد السوفيتي» في آسيا.
الأمة الإسلامية واقع تجسده بعض المنظمات مثل «منظمة المؤتمر الإسلامي» بالرغم من عدم فاعليته وارتباطه بسياسات حكوماته. وتقوم على الإحساس بالإخوة بين المسلمين والتضامن بعضهم مع البعض والدفاع عن مصالحهم المشتركة كما أراد الأفغاني وكما تصور الكواكبي في «أم القرى». وهي ليست وحدة خيالية. مثلها مثل الأممية الاشتراكية، والعولمة الرأسمالية وتعييناتها المختلفة في الشركات المتعددة الجنسيات، ومجموعة الثمانية الأكثر تصنيعًا والقائمين بالفعل ولا يعتبرهما أحد من صنع الخيال. هي وحدة التاريخ والثقافة، انعكاس التوحيد على البشر «كلكم لآدم وآدم من تراب»، وخلق البشر جميعًا من نفس واحدة.
ولا تعني الأمة الإسلامية بالضرورة نظام الخلافة المركزي في المدينة أو دمشق أو بغداد أو القاهرة أو استانبول، بل يعني وحدة المصالح والهدف والمصير. وتتعدد الصيغ السياسية لتحقيق ذلك ابتداءً من الدولة الوطنية القوية أو مجالس التعاون بين جارتين أو عدة جارات أو مجالس التعاون الإقليمي الذي يضم أكثر من دولة أو جامعة إقليمية عربية مثل جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو تجمعًا شرقيًّا يضم آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مثل دول عدم الانحياز والعالم الثالث، والتضامن الآسيوي الأفريقي دون قفز على الدولة الوطنية أو التجمعات الإقليمية في إطار من نظرية الدوائر الثلاث: الوطن والعروبة والإسلام.
ومن الطبيعي لا يلغي الإسلام الأممي الواحد الخصائص القومية للشعوب. فهناك الإسلام الآسيوي القادم بعد أن تعب العرب من حمله على مدى أربعة عشر قرنًا. الإسلام في إيران وتركيا وماليزيا وإندونيسيا والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا، وهو القوة السياسية الوحيدة الفعالة في باكستان وأفغانستان، وهو من حيث السكان أكبر تجمع إسلامي من الإسلام الأفريقي أو الإسلام الأوروبي أو الإسلام الأمريكي شمالًا وجنوبًا. ويقوم على الإيمان الشديد وعلى التوحد بالأعراق والمذاهب والطوائف والقبائل. تغلب عليه المحافظة الدينية والممارسات الشرعية الصورية. يمارس العنف أحيانًا إذا ما ضاق بالنظم السياسية التابعة للغرب.
وهناك الإسلام الأفريقي. يغلب عليه الشخصية الأفريقية والثقافة الأفريقية والفن الأفريقي بل وبعض أشكال السحر الأفريقي والخرافات والأساطير الأفريقية كثقافة شعبية. يغلب عليه الطابع الصوفي. فقد انتشر على أيدي الطرق الصوفية، الأذكار والأوراد والسماع الذي يتفق مع الرقص الأفريقي. ويتعامل مع الوسائط وأشكال التبرك والأحجبة والطب النبوي كما هو شائع في أفريقيا. ويزداد الجانب الشعائري في الوضوء والصلاة والصوم والحج للحصول على لقب حاج. وسعيد بنظام تعدد الزوجات المتفق مع العادات الأفريقية في العائلة الكبيرة والمنزل الكبير حيث يعيش الجميع في وئام وسلام طبقًا لنظام عادل. أصبح الاستثناء هو القاعدة والقاعدة هو الاستثناء. تكثر فيه المظاهر الاحتفالية بالمناسبات والأعياد خاصة المولد النبوي وموالد الأولياء والقديسين طبقًا للعادات الأفريقية. يقوم على الترابط الاجتماعي ونظام القرابة واحترام الجار. وينأى بنفسه عن الصراعات القبلية والعرقية وإن كان أحيانًا يجعل من تطبيق الشريعة الإسلامية أحد أسباب التوتر الذي قد يصل إلى حد الصراع بين المسلمين والمسيحيين، بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي كما هو الحال في السودان ونيجيريا أو الجنوب المسلم والشمال الأفريقي مثل الفلبين أو البوذي كما هو الحال في تايلاند وبورما.
وهناك الإسلام الأوروبي الذي تغلب عليه أيضًا الشعائرية للتأكيد على الهوية الجديدة للمسلم الأوروبي، الذقن والجلباب، وغطاء الرأس، ورفض العادات الغربية في العري والحرية الجنسية. كما يرفض القيم الأوروبية مثل المادية والإلحاد ومظاهر الحياة الآلية في الصناعة والاستهلاكية في الاقتصاد. يغلب عليه التصوف والروحانية الزائدة كرد فعل على ما يسود الغرب من علم وحداثة.
وهناك الإسلام العربي، سماحته وبساطته وواقعتيه وأخلاقه العملية وعقلانيته وإصلاحيته وإنسانيته. وما عرض له في المدة الأخيرة من صورية وشعائرية إنما هو وارد من شبه الجزيرة العربية من العمالة المهاجرة اليدوية والذهنية. والعنف الملتصق بالحركات الإسلامية إنما هو عنف سياسي لجماعات سياسية ضد نظم الحكم القائمة على القهر في الداخل والتبعية في الخارج.
الإسلام الأممي لا يمنع التعددية في الفكر والممارسة، فالإسلام قادر على التأقلم مع ثقافات الشعوب وعاداتها مع إكمالها وتطويرها للإثراء المتبادل والتعلم المشترك. يقوم على الوحدة والتنوع، وحدة العقيدة وتنوع مظاهر تعبيرها. لذلك لا يقتتل المسلمان. القاتل والمقتول مدانان. القاتل لأنه قتل بالفعل، والمقتول لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه. فدم المسلم وماله وعرضه حرام لا يجوز انتهاكه. والصلح بين المتخاصمين خير حتى يفيء الجميع إلى الحق والعدل دون العدل والظلم. والتاريخ شاهد على ذلك من الأندلس حتى الصين بالرغم من الاستثناءات هناك وهناك.
(١٤) الإسلام العلماني
العلمانية لها معنى سيئ في ثقافتنا المعاصرة. فهي ضد الدين، وقرينة الإلحاد والمادية والإباحية، وربما الكفر والفسوق والعصيان. وتعني عند الحركة الإسلامية فصل الدين عن الدولة وهو ضد وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، ومرة أخرى الْفَاسِقُونَ، ومرة ثالثة الظَّالِمُونَ. كما تعني فصل الدين عن مظاهر الحياة الأخلاقية والقانونية والسياسية، والوقوع في الأخلاق النسبية المتغيرة والشريعة الوضعية التي أحيانًا تحلل الحرام كالخمر والشذوذ الجنسي، والسياسة البشرية التي تقوم على المصالح وصراع القوى. الدين علاقة خاصة بين الإنسان والله «علاقة رأسية» في حين أن القانون علاقة عامة «علاقة أفقية» بين المواطن والمواطن. لذلك رفعت العلمانية شعار «الدين لله والوطن للجميع». ومِن ثَم أصبح من الصعب من الناحية التداولية استعمال لفظ «علماني».
ومع ذلك الإسلام دين «علماني» في جوهره. إنما جاء الخلط بين العلمانية «الغربية» والعلمانية «الإسلامية» وإسقاط ظروف الأولى على الثانية. فقد نشأت العلمانية الغربية بمعنى الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، أي بين الكنيسة والدولة نظرًا لنشأة المآسي والمذابح من الجمع بينهما في شخص البابا رئيس الكنيسة والدولة أو في شخص الإمبراطور رئيس الدولة والكنيسة. وكان صراعًا على المصالح والأرض في عصر الإقطاع. وكان الحل الوحيد الباقي هو الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية وإن تعايشا معًا كما هو الحال في دولة الفاتيكان في روما عاصمة الجمهورية الإيطالية. وانتقل كلاهما إلى العمل في الخارج وليس في الداخل، في التبشير والاستعمار خارج أوروبا وليس في الصراع على السلطة والحدود داخلها.
وبدأت العلمانية الغربية بوضع أسس معرفية جديدة، البداية بالعالم وليس بالنص، والاعتماد على العقل وليس الإيمان، والاتجاه نحو الطبيعة بعيدًا عن ما بعد الطبيعة، والتحول من التمركز نحو الله إلى التمركز نحو الإنسان، والتفكير في البدن وليس في النفس، والاتجاه نحو الجديد وليس القديم، والاستعداد للمستقبل على هذه الأرض وليس نكوصًا نحو الماضي خارجها. العقل تجاه الطبيعة ينتج العلوم الطبيعية، ومع المجتمع ينتج العلوم الإنسانية. وانتهت سلطة القدماء، أرسطو وبطليموس والكنيسة إلى سلطة المحدثين، جاليليو وكبلر ونيوتن في العلم، وبيكون وديكارت في الفلسفة، ولوثر وكالفن في الدين. وخرجت الثقافة الغربية خارج حدودها بعد سقوط غرناطة في ١٤٩٢م، وتصدر أوروبا مركز العالم بدلًا من العالم الإسلامي. انتهى العصر الوسيط كما انتهى العصر القديم اليوناني الروماني من قبل، والعصر الإسلامي من بعد. وبدأ العصر الحديث وشعار الحداثة التي تُدمر الآن فيما بعد الحداثة.
وهي ظروف مختلفة عن ظروف العالم الإسلامي. فالإسلام ليس به سلطة دينية إلهية مثل الكنيسة أو البابا. وليس به سلطة سياسية تقوم على الاختيار الإلهي «الثيوقراطية» أو على الوراثة كما هو الحال في النظام الملكي. السلطة في الإسلام للعلم والعلماء وعلوم الدنيا. والعلماء هم أهل الاختصاص، علماء الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلاقات الدولية، «أنتم أعلم بشئون دنياكم». التمييز إذن بين رجال الدين ورجال السياسية تمييز في ظروف نشأة العلمانية الغربية وليس في ظروف نشأة الإسلام. بل إن الإسلام مثل البروتستانتية فيما بعد بدأ ضد رجال الدين من اليهود والنصارى، الأحبار والرهبان، الذين استغلوا الدين للمصالح الشخصية ولتبرير السلطة السياسية للملوك والأباطرة. الإسلام دين إصلاحي. تعلم من التجارب السابقة، من تجربة موسى وداود وسليمان في اليهودية، ومن الصراع بين النصرانية والإمبراطورية الرومانية في المسيحية.
الإسلام دين يقوم على العقل والواقع ومصالح الناس والقاسم المشترك للبشر جميعًا. مُثُل التنوير التي يعتز بها، العقل والعلم والطبيعة والإنسان والحرية والإخاء والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم جزء منه، وأسس يقوم عليها كما قررت الحركات الإصلاحية المعاصرة.
التوحيد ليس عقيدة تتجاوز العقل مثل التثليث، بل هو توحيد الذات الإنسانية وطاقاتها الداخلية والخارجية ضد مظاهر الازدواجية مثل النفاق والرياء وانفصام القول عن العمل، وتوحيد المجتمع ضد التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وتوحيد البشرية ضد مظاهر العنصرية والتمييز بين الأقوياء والضعفاء وسياسة الأقطاب، والتفرقة بين المراكز والمحيط. والشريعة لها مقاصد خمسة، ضروريات للحياة الإنسانية: الحياة والعقل والقيمة (الدين)، والكرامة (العرض)، والثروة (المال). وهي أسس «علمانية خالصة. والشريعة الإسلامية وضعية تقوم على أسس في العالم، ومكونات السلوك البشري. والأحكام الشرعية لها أسباب وعلل وشروط. والاجتهاد مصدر رئيسي للتشريع بعد الإجماع لتجديد فهمها طبقًا لظروف كل عصر، «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». والمصلحة أساس التشريع، «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن».
النظام الإسلامي نظام مدني خالص. والدولة الإسلامية دولة علمانية بهذا المعنى الإسلامي. نظامها السياسي يقوم على البيعة العامة، اختيار الناس للرئيس «الإمامة عقد وبيعة واختيار». والرئيس ليس نائبًا عن الله أو ابنًا لملك بل هو نائب عن الشعب. ونظامها الاقتصادي يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج الزراعي والصناعي وليس الخدمات، «الناس شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار». ونظامها الاجتماعي يقوم على تذويب الفوارق بين الطبقات وعلى إقامة مجتمع العدل والمساواة «ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ». ونظامها الإعلامي يقوم على حرية الرأي وضرورة الرقابة على جهاز الدولة. فالحسبة هي الوظيفة الرئيسية للحكومة. الدين النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل عالم قادر.
فأين الخلاف بين الإسلام والعلمانية؟ إنه مجرد صراع على السلطة بين تيارين رئيسيين وقوتين سياسيتين وجناحين متصارعين في الدولة، أيهما يخلف النظام القائم، نظام التبعية للخارج، والفساد والقهر في الداخل، والدولة سعيدة بها وتؤججه، تضرب هذا الفريق بالفريق الآخر مرة ثم تضرب هذا الفريق الآخر بالفريق مرة أخرى حتى يضعف الجناحان، ويبقى القلب، وتفتت المعارضة، ويقوى الحزب الحاكم لغياب البديل.
اليسار الإسلامي يسار علماني. ويعلن ذلك على الملأ نظرًا وعملًا ضد الكهنوت الديني والتسلط السياسي، وهو ليس مثالًا بعيد المنال أو رؤية طوباوية أو هدفًا صعب التحقيق. فالتجربة التركية والتجربة الماليزية ماثلتان للأذهان. اليسار الإسلامي هو الطريق الثالث بين السلفيين والعلمانيين، بين المحافظين والمجددين، بين القدماء والمحدثين. ولقد اقتربت بعض التيارات الإسلامية من ذلك بالبرامج السياسية الجديدة التي قدمها الإخوان في مصر والأردن وسوريا ولبنان واليمن. فالإسلام دولة مدنية تقوم على التعددية السياسية. فهل يستطيع العلمانيون تغيير أنفسهم وتخفيف عدائهم لبعض الأجنحة الليبرالية في التيار الإسلامي لإنقاذ أنفسهم من تلميع نظم الحكم والتعاون معها على مواجهة الإسلاميين كهدف مشترك بدلًا من التعاون والحوار معهم في جبهة وطنية واحدة ضد نظم الفساد والتبعية والطغيان؟
(١٥) اليسار الإسلامي، اعتراضات وردود
وبالرغم من هذه المداخل الواضحة لليسار الإسلامي وعرض أوجهه المختلفة إلا أن تجربة ربع قرن من محاولات تأسيسه لم تمنع من توجيه بعض الاعتراضات الرئيسية عليه. وهي شبهات تثار من الأحزاب السياسية الدينية والعلمانية، المحافظة والتقدمية، ومن الدولة ومؤسساتها الدينية، ومن الأفكار الشائعة نتيجة للإعلام المزيف وما تعوَّد عليه الناس من تقليد لما هو سائد دون التفكير الأصيل. إذ يقال على اليسار الإسلامي:
-
(١)
«ليس في الإسلام يسار ويمين.» الإسلام دين واحد، جوهره واحد، وعقائده ثابتة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، خيره وشره. كبائره معروفة وصغائره محصاة. لا تختلف العبادات من قطر إلى قطر، ولا من قارة إلى قارة، ولا من شعب إلى شعب، ولا من ثقافة إلى ثقافة. شهادة أن لا إله إلا الله على كل لسان. ينطقها المسلم ليعلن انتماءه وانتسابه إلى الأمة. وهذا صحيح نظرًا، ولكن عملًا تتعدد القراءات والممارسات الإسلامية خاصة في المعاملات والعادات. يشير اليسار الإسلامي إلى إحدى القوى الاجتماعية الموجودة في المجتمع، الفقراء والمحرومين والمساكين والطبقات الدنيا في مقابل إسلام الأغنياء وشركات توظيف الأموال ورجال الأعمال وموائد الرحمن وبيوت الزي الإسلامي. ففي كل مجتمع هناك يسار ويمين، فقراء وأغنياء، طبقة دنيا وطبقة عليا. اليسار الإسلامي سياق اجتماعي سياسي تاريخي للإسلام في مرحلة تاريخية معينة وفي عصر معين ولدى شعب معين، في مرحلة تفاوت الدخول في عصر النفط. وكما أن هناك تمايزًا بين المذاهب الفقهية الأربعة والاتجاهات الفلسفية والفرق الكلامية والطرق الصوفية هناك تمايز أيضًا في تفسير الإسلام طبقًا لحاجات الناس وطبقاتهم الاجتماعية التي تتغير بتغير الزمان والمكان، وكما فعل الشافعي بين العراق ومصر.
-
(٢)
«اليسار الإسلامي نزعة توفيقية وأحيانًا تلفيقية بين نزعات عدة تجمع بين عدة متناقضات.» هو مشروع مستحيل مثل «الثلج المقلي»، يرفضه اليسار واليمين، فاليسار علماني لا ديني، واليمين ديني لا علماني. والحقيقة أن هذه الشبهة إنما تنتج من عقلية الاستقطاب بين مطلبين كلاهما صحيح، القديم والجديد، الماضي والحاضر، التراث والمعاصرة، الأصل والفرع، الآخرة والدنيا. وكل سمات اليسار الإسلامي مطالب فعلية للعصر. فهو إسلام مستنير لحاجة العصر إلى العقلانية والاستنارة كما عبر عن ذلك بعض المفكرين العرب المعاصرين مثل محمد عبده ومصطفى عبد الرازق وطه حسين، وهو إسلام ليبرالي لحاجة العصر إلى الحرية كما عبر عن ذلك الطهطاوي والعقاد والشرقاوي، وهو إسلام اشتراكي جماعي لحاجة العصر للعدالة الاجتماعية والمساواة كما عبر عن ذلك مصطفى السباعي في سوريا وسيد قطب في مصر، وهو إسلامي قومي كما هو الحال عند منير شفيق وخلف الله ومحمد عمارة نظرًا لمخاطر التجزئة والتفتيت للأقطار بعد أن قُضي على الخلافة لصالح القومية العربية في ١٩٢٣م ثم قُضي على القومية لصالح القطرية بعد حربي الخليج الأولى والثانية، ثم قُضي على القطرية لصالح الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية والقبلية بعد العدوان الأمريكي على العراق في ٢٠٠٣م، والحرب الأهلية في لبنان وإبراز قضية السودان شمالًا وجنوبًا في الجنوب، وشرقًا في دارفور. وهو إسلام إنساني كما عبر عن ذلك العقاد وغيره نظرًا لخرق حقوق الإنسان في عصرنا وتعذيب المعتقلين السياسيين بالآلاف، وهو إسلام تقدمي كما هو الحال في تونس نظرًا لتصنيف الشعوب العربية والإسلامية ضمن الدول المتخلفة أو النامية، وهو إسلام طبيعي يبدأ من العالم والناس نظرًا لغلبة العقائدية القطعية والنصية الحرفية مثل أحمد كمال أبو المجد وسليم العوا، وهو إسلام وطني مثل طارق البشري نظرًا للهويات الطائفية السائدة الآن وتواري الأوطان، وهو إسلام أممي مثل عادل حسين نظرًا لما فعلته الحدود الوطنية من تجزئة وتقسيم ومعارك حدودية ونزاعات بين القبائل على طرفي الحدود على الثروات الطبيعية، وهو إسلام علماني مثل أحزاب الوسط نظرًا لسيادة النزعات الدينية المعادية لقيم العقل والحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان وهي قيم إسلامية أصيلة تجلت في التراث الإسلامي، وهو إسلام عملي حركي مثل بعض الأجنحة المستنيرة في الحركة الإسلامية نظرًا لسيادة الخطاب الديني النظري الوعظي الذي يدخل في أذن ويخرج من الأذن الأخرى.
-
(٣)
«اليسار الإسلامي نزعة مادية وتيار ماركسي شيوعي إلحادي.» لا يهتم بالغيب ولا بالحياة بعد الموت إلى آخر ما هو معروف من أمور المعاد. والحقيقة أن هذه هي صورة نمطية للإسلام منذ العصر العثماني، تغليب الآخرة على الدنيا، والنفس على البدن، والله على العالم، وهو ما قاومته حركات الإصلاح الديني الحديثة. فالتراث الإسلامي قام على أساس الاهتمام بالعالم. يبدأ علم الكلام وهو علم العقائد بالعالم أولًا للاستدلال به على وجود الله. ويتحدث الفلاسفة عن الطبيعيات كمقدمة للإلهيات. ويدافع بعض الصوفية عن وحدة الوجود، الجمع بين الحق والخلق. ويقوم علم أصول الفقه على تعليل الأحكام الشرعية بالعلل المادية ليقيس عليها أحكام الوقائع الجديدة.
-
(٤)
اليسار الإسلامي تيار غربي يقلد «لاهوت التحرير» في المسيحية خاصة. والحقيقة أن اليسار الإسلامي استئناف لحركات الإصلاح التي أسسها الأفغاني وإقبال، وتطويرها كي تصبح أكثر جذرية وقدرة على التأثير في العالم وإصلاح المجتمعات وتأسيس نهضة الشعوب. وقد سبقت الديانات الأخرى مثل المسيحية والبوذية الإسلام في وضع أسس «لاهوت التحرير» المعاصر في تحقيق المشاريع القومية في الحرية والعدالة، والاستقلال والتنمية ابتداءً من تراثها. كان القدماء منتصرون على الأرض فصاغوا العقائد النظرية. ونحن منكسرون على الأرض في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير، وكلها تحت الاحتلال المباشر، وما زلنا نتحدث عن عذاب القبر ونعيمه، ومنكر ونكير، ونواقض الوضوء وحلق عانة الميت، وإرضاع الكبير. كما أن هذا الشبهة تعطي النفس أقل مما تستحق، وتعطى الغرب أكثر مما يستحق. وترجع كل تقدم وإبداع عند الأنا إلى منابعه ومصادره عند الآخر وكأن الأنا أصبح عقيمًا رضي بأن يكون تلميذًا إلى الأبد، والآخر هو المبدع والمعلم. ولقد استطاع الإسلام في الماضي القيام بنهضة من الداخل وتأصيله في إبراهيم ولم يرَ غضاضة في التعامل مع الحضارات المجاورة، يونانية ورومانية غربًا، وفارسية وهندية شرقًا، والآن أوروبية شمالًا، وأفريقية جنوبًا.
-
(٥)
«اليسار الإسلامي خلط بين الدين والسياسة، يرغب في الوصول إلى الحكم.» هو مجرد توزيع أدوار داخل الحركة الإسلامية التي ما زالت تسعى للوصول إلى السلطة. اليسار الإسلامي مجرد واجهة إعلامية مستنيرة تقوم بدور الغطاء النظري للحركات الإسلامية المحافظة التي تمارس العنف بل والإرهاب. والحقيقة أن الإسلام لا يفرق بين الدين والسياسة كما يفعل الغرب نظرًا لظروف الكنيسة في صراعها مع الدولة. الإسلام يطبق المثال في الواقع، وملكوت السموات الذي عرفته المسيحية في ملكوت الأرض الذي عرفته اليهودية. يحول النظر إلى عمل، والفكر إلى ممارسة. هدفه تحقيق التقدم والتغير الاجتماعي من خلال التواصل وليس من خلال الانقطاع حتى لا يحدث رد فعل إلى القديم من جديد كما حدث في الغرب. الإسلام هو اللحظة الثالثة في تطور العلاقة بين الدين والسياسة بعد اللحظة الأولى تغليب السياسة على الدين في اليهودية، واللحظة الثانية، الفصل بين الدين والسياسة في المسيحية. اليسار الإسلامي تيار معارض. ينقد النظم السياسية القائمة على التبعية للخارج، والقهر والفساد في الداخل. وينقد المؤسسة الدينية التابعة للدولة والمبررة لقراراتها في الحرب والسلم، في الاشتراكية والرأسمالية بنفس الرجال ونفس الفتاوى. الإسلام دين ليس به رجال دين أو كنيسة أو سلطة دينية إلا سلطة العلم. يفك الحصار عن المعارضة العلمانية بأنها ضد الدين. ويخفف من عداء الحركات المحافظة للأيديولوجيات العلمانية، ليبرالية وقومية واشتراكية وماركسية وإسلامية مستنيرة، كما هو الحال في تركيا وماليزيا. وينقد نفاق الإعلام الرسمي واستخدام الدين لصالح الحزب الحاكم.
-
(٦)
«التيار الإسلامي يرفضه الناس لأنه يمس عقائدهم الشعبية.» هو تيار نخبوي يسهل حصاره من اليمين واليسار والدولة. هو عند اليمين الديني شيوعية وإلحاد مقنعان. وعند التيار العلماني إسلامي مقنع، وفي أجهزة الدولة الأمنية اليساريون الإسلاميون «إخوانيون شيوعيون» كما اتهم الشاه من قبل فصائل الثورة الإسلامية مثل «مجاهدي خلق». هو غير مؤثر، أقلية معزولة أمام الأغلبية الطاغية للحزب الحاكم. والحقيقة أن الاتصال المباشر بين اليسار الإسلامي والجماهير يدل على قدرته على التعبير عن الأغلبية الصامتة، عن الوسط بين الجناحين السلفي والعلماني. يريد المحافظة على الشرعيتين في نفس الوقت، الإسلام والعالم، الدين والثورة. ليس حريصًا على السلطة والحكم بل هو للحفاظ على وحدة الأمة في مسارها التاريخي، «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».