الأرض
(١) الأرض
للألفاظ أيضًا فقه الأولويات. وما زالت الألفاظ المستعملة في خطابنا الديني يغلب عليها الألفاظ التقليدية الموروثة التي لا صلة لها بالواقع المعاش ولا ظروف العصر. تعتمد في معظمها على النقل دون العقل، من عالم الغيب وليست من عالم الشهادة، موضوع للتصديق الإيماني دون برهان عقلي ومِن ثَم هي أقرب إلى الظن منها إلى اليقين طبقًا للأشاعرة لأنها تعتمد على النقل وحده دون العقل.
ومنها ألفاظ المعاد، ما يحدث بعد الموت ابتداءً من عذاب القبر ونعيمه وكل أهوال القيامة ومناظر الحشر من صراط وميزان وشفاعة وحوض وأوصاف الجنة والنار. وكلها من الخبر وليست من المعاينة. أوَّلها المعتزلة والفلاسفة. الحياة بعد الموت هي الرغبة في الخلود، والميزان هو العدل والاستحقاق، والجنة والنار هما الرضا عن النفس أو تأنيب الضمير، النعيم المعنوي والعذاب المعنوي.
وقد تأتي الألفاظ من العقائد الأشعرية مثل الإيمان والكفر، والكبائر والصغائر. وقد تأتي من الفقه مثل الحلال والحرام والأمر والنهي. وقد تأتي من التصوف مثل الصبر والتوكل والخوف والخشية والرضا والتسليم والفناء والمحو والفقد. ولا نستعمل ألفاظًا نحن في أمسِّ الحاجة إليها تجذب الشباب نحو العلمانية والغرب مثل الحرية والديمقراطية والتعددية والرأي والرأي الآخر. وتمتلئ القنوات الفضائية والإذاعات وصفحات الفكر الديني بهذه الألفاظ التقليدية حتى أصبح الدين عالمًا مغلقًا منفصلًا عن الحياة، له رجاله، بضاعة رائجة في وقت يتمسك الناس فيه بالموروث كطوق نجاة من أزمة العصر واضطراباته. وتمتلئ البرامج الدينية بهذه الألفاظ مثل «نور على نور». وإن تغير بعضها مثل «العلم والإيمان»، «الشريعة والحياة» فإنها تدور أيضًا حول المفاهيم التقليدية واستعمال الجديد لتأصيل القديم. ويصل الأمر إلى كتب التربية الدينية في المدارس في دروس هامشية ليس بها نجاح ورسوب، ولا تضاف إلى المجموع، يفصل فيها بين المواطنين طبقًا لدياناتهم، الإسلام للمسلمين، والنصرانية للنصارى. فتكرس القسمة الطائفية في التربية والتعليم. وبمجرد ما يعي الطالب، مبكرًا في الثانوية أو متأخرًا في الجامعة، يترك الدين الذي لم يشده إلى الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، ليبرالية واشتراكية وماركسية وقومية ليشبع بها فكره السياسي ويساعده على ممارسة مواطنته والتزامه الاجتماعي. وقد يهاجر إلى الخارج بحثًا عن الرزق والحلول الشخصية للمشاكل العامة. وقد ينضم إلى الحركات السرية التي تعده بكل شيء في المستقبل كرد فعل على لا شيء في الحاضر. وقد يظل حائرًا بين هذا وذاك، يندب حظه، وينعي نفسه وينتظر الفرج فلا يأتي فيموت.
وفي نفس الوقت نحن أمام عدو يتحدث عن «أرض إسرائيل» ويقصد بها فلسطين. ويدعو يهود العالم إلى الهجرة إليها والاستيطان فيها، من «الدياسبورا» إلى «العاليا»، من «الشتات» إلى «العودة». وقد بدأت حركة الاستيطان منذ أوائل القرن التاسع عشر بعد عدة محاولات من المفكرين اليهود مثل مارتين بوبر بتغيير القيم اليهودية الموروثة من قراءة التوراة كأعظم فعل فاضل وأول أمر إلهي إلى الهجرة إلى فلسطين والاستيطان في الأرض، والتحول من بدو إلى مزارعين، ومن رُحَّل إلى مستوطنين، فزرعوا الأرض، وبحثوا عن مصادر للحياة، وبنوا المستوطنات، المزارع الجماعية، الموشاف. وكلما زادت الهجرة تم طرد الفلسطينيين وإحلال المهاجرين اليهود محلهم. وما زال التوسع كل يوم قائمًا. فالأرض هي الأرض المقدسة، وعدهم الله بها في العهد القديم، عهد نوح الذي جدده إبراهيم والذي قننه موسى. فاليهودي لا يستطيع أن يعيش إلا في هذه الأرض، أرض الميعاد، وإلا في هذه المدينة، القدس، المدينة المقدسة. ولا يستطيع أن يعبد الله إلا في هذا المعبد، هيكل سليمان الذي لا بد من إعادة بنائه حتى تصح العقائد اليهودية، ويستطيع اليهود ممارسة شعائرهم. وإذا مات اليهودي خارج الأرض المقدسة فإنه يدفن حيث مات ويضع تحت رأسه كيسًا فيه حفنة من تراب فلسطين وكأنه دفن هناك. وغزت إسرائيل كل الجامعات الغربية، الأوروبية والأمريكية، وكل أقسام الدين وتاريخ الدين والفلسفة فيها بموضوع «الله والشعب والأرض» كفرع من «اللاهوت الجديد». فلا يمكن تصور الله بدون الشعب المختار. ولا يمكن تصور الشعب المختار دون أرض المعاد، أرض الآباء والأجداد. فالشعب والأرض جزء من الألوهية. أما نحن المسلمين فالأرض ليست جزءًا من العقيدة، الله لا زمان له ولا مكان، ولم يختر شعبًا بعينه فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. الله منزه، قائم بذاته، قديم باقٍ وواحد. لا الأرض ولا الشعب ولا المدينة ولا المعبد من صفاته أو أوصافه أو أسمائه أو أفعاله. فلسطين والقدس والمعبد بالنسبة لليهود جزء من العقيدة اليهودية في حين أنها ليست جزءًا من العقيدة الإسلامية. هي وقف إسلامي أي جزء من الفقه والشريعة. والفقه متغير، أحكام بشرية تتغير بتغير العصور. وقد تغير العصر وعانى اليهود من المحرقة في ألمانيا ومن كافة صنوف الاضطهاد والتطهير العرقي في روسيا وأوروبا الشرقية بل والغرب بعد حادثة داريفوس ونشأة اللاسامية. وقد آن الأوان لإعطاء أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض.
أمام هذا الوضع ماذا يفعل المفكر العربي؟ فالمعركة بيننا وبين الكيان الإسرائيلي ليست فقط بالسلاح، مرة لك ومرة عليك، وليست فقط بالانتفاضة سلمية أو مسلحة، وهو تكليف ما لا يطاق. وليست فقط بالموقف العربي الموحد وراء فلسطين وهو صعب المنال. وليست فقط بالتعاطف الدولي الذي لا يتعدى الأقوال إلى الأفعال. وليست مؤجلة إلى أجيال قادمة قادرة على النصر وتحرير فلسطين والأقصى، فالأجيال الحالية تريد الهجرة خارج الأوطان كما يحدث الآن في العراق من تفريغه من شعبه كما حدث في فلسطين في ١٩٤٨م، نكبة ثانية بعد النكبة الأولى.
معركة المفكر العربي هي إعادة بناء الموروث القديم، وتحويل الأرض من ثقافة شعبية إلى ثقافة سياسية. صحيح، هناك يوم الأرض، وفرقة الأرض، وفيلم الأرض، وأغاني الأرض، وشعر الأرض. «آه، يا جرحي المكابر. أنا لست المسافر، ووطني ليس حقيبة. إنني العاشق والأرض حبيبة.» لا يكفي أن يقبل الأسير الفلسطيني العائد إلى فلسطين تقبيل الأرض بل أن تتحول الأرض إلى جزء من عقيدة الأمة.
لقد ظل الصليبيون قرنين ونصفًا في أوطاننا. وإسرائيل مزروعة في الأرض منذ ستة عقود. وقد بدأ صلاح الدين في معركة القدس بالقضاء على الصوفية أنصار التوكل والصبر والرضا والخوف والخشية والمحبة، والقضاء على المهدية التي تريد الخلاص في المستقبل. إعداد الأمة بالثقافة السياسية جزء من الإعداد للمعركة، ليس عن طريق حماسيات إدارات التوجيه المعنوي بل بإعادة تأسيس العقيدة على الأرض. فالأرض جزء من الألوهية رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ.
على هذا النحو يستطيع المفكر العربي أن يساهم في صمود سوريا وحزب الله وإيران، ليس فقط بالجهاد المسلح المتهم بالعنف والإرهاب، بل عن طريق إعادة بناء الموروث القديم، وجعل الأرض محور العقيدة وبؤرة الثقافة السياسية، والدخول في حوار الأديان، وحوار الحضارات، وحوار الثقافات، والأرض في الأذهان والشعب في القلوب.
(٢) الله والأرض
ذُكرت الأرض في القرآن عدة مرات (٤٦١ مرة). فهي أحد الموضوعات الرئيسية فيه وليست موضوعًا هامشيًّا. وذُكرت معرَّفة بالألف واللام في معظم الحالات؛ أي إنها ليست ملكًا لأحد أو تُنسب لقوم، ومعرَّفة بضمير الملكية (خمس مرات) وضمير المتكلم الجمع «أرضنا» (ثلاث مرات)، وضمير المتكلم المفرد «أرضي» (مرة واحدة)، وضمير الغائب الجمع «أرضهم» (مرة واحدة). فالأرض لنا، نحن المسلمين، ولي، الفلسطيني القابع فيها منذ آلاف السنين، ولهم، المطرودون الغائبون عنها تحت اسم اللاجئين. وذكر لفظ «الأرض» مجرورًا بالإضافة (٣٣١ مرة) أكثر منه منصوبًا أي مفعولًا به (٨٦ مرة) أي إنها مجال الفعل، والأقل هو الفاعل (٣٤ مرة)، فالأرض لا تفعل بنفسها بل تتلقى فعل الأفراد والجماعات عليها.
وقد ذكرت هذه الآيات المئات في ست مجموعات: خلق السموات والأرض ونهايتهما، ملك السموات والأرض وميراثهما، اتساع الأرض واستقبالها الفعل الإنساني، تسخير الأرض للإنسان، إعمار الأرض والاستقرار والسكن فيها، إحياء الأرض بما فيها من نبات وحيوان.
في القرآن الكريم الله إله السموات والأرض في عديد من الآيات مثل رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. فمن استولى على الأرض فقد استولى على السماء أيضًا لأنهما قرينان. ومن استولى على الأرض فقد استولى على نصف الألوهية لأن الألوهية في السماء والأرض. السموات والأرض كيان واحد قبل أن ينفصلا أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا. لذلك تحدث الصوفية عن الرتق والفتق الروحيين، في الضم والجمع والتوحيد.
والأرض والسموات مخلوقتان وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. مفطورتان أمام العين، مبسوطتان. وقد خلقت في ستة أيام دلالة على التدرج في الفعل، وإيحاءً بأهمية المراحل دون القفز فوقها. فكل شيء يحتاج إلى زمان لأن الخلق في الزمان.
والسماء والأرض قائمتان ولا تزولان إلا بأمره وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ. لا يستطيع أحد تدميرهما حتى ولو امتلك قوى القنابل الذرية وأشدها فتكًا إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا. والله يمسكهما معًا وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
وقد تم هذا الخلق بالحق. لذلك وحَّد الصوفية بين الحق والخلق. وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، فالأرض حق تخرج عن دائرة الباطل وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا. السكن فيها بالحق وليس بالعدوان. فالحق لا يتعامل إلا مع الحق وليس مع الباطل. لذلك ينزل عليها الوحي، إحقاقًا للحق واعترافًا به تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ. الوحي تكملة للخلق قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. الأرض مهبط الوحي وليس الزيف والبطلان والدعاوى الكاذبة والأساطير العنصرية العرقية بأحقية شعب معين بالسكن فيها والاستيطان عليها. لم تخلق الأرض عبثًا ولعبًا وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، بل لتحقيق هدف وغاية.
والله يعلم ما في السموات وما في الأرض وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. ولا سر في العلم أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. ومهما بلغ الإنسان من السرية في قوله وفعله فإن الله مطلع عليه، وعالم بالأهداف غير المعلنة. الله يغمر الأرض والسماء بنوره اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وتعكس الأرض هذا النور بفعل الإنسان وتحقيق رسالة الله في الأرض.
وقد خلقت السموات والأرض للتفكر فيهما وللاتعاظ بهما. فهما من الآيات أي الدلائل والمؤشرات أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا. والاعتبار يحتاج إلى لب وفؤاد وبصر وبصيرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ … لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. فإدراك الآيات في الأرض مشروط بالوعي الذاتي وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا. الأرض ليست فقط للاستيطان بل للتأمل والتفكر في المصير. ومع أن موضوع الاستدلال بديهي أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلا أنه يحتاج إلى الاستدلال ليطمئن القلب ويهدأ الفؤاد. فالقلب يعقل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا. يكفي السير في الأرض قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ. إنكار الحقائق البديهية مكابرة واستعلاء.
وفي مقابل ذلك تسبح الأرض والسماء بذكر الله. وبالتالي يستحيل أن تكون مسرحًا للفساد، للقتل والذبح والتدمير للنسل والزرع، للأطفال والنساء وللشباب والشيوخ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ. وتسبيح الأرض بتعميرها واخضرارها ونمائها وليس بتدميرها وتجريفها.
والله وحده هو الجدير بالعبادة في الأرض أَلَّا يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. والعبادة تحتاج إلى الصبر والاصطبار رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ. فهو الذي خلق الأرض لصالح الإنسان ليسكن فيها ويعمرها، وليست لعبادة القوة والطاغوت والثروة والسلطة والعبادة المزيفة. فهناك فرق بين الزائل والدائم.
ومع ذلك، هذه الأرض ليست ثابتة بسبب فعل الإنسان الذي يظن أنه قائم فيها أبدًا. فقد تُخسف الأرض بالمفاسد فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ. وقد تخسف بالماكرين والظالمين والعتاة والطغاة أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ. فلا أمان للمعتدين من الله أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ. ومهما توسع الكيان الاستيطاني عرضًا فإن الله قادر على أن ينقص الأرض من أطرافها أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، وهو ما حدث للاستعمار الذي انتشر فوق أطراف الأرض ثم بدأت حركات التحرر الوطني بتقليص أطرافه حتى ردته إلى حدوده الطبيعية في الدول الأوروبية التي خرج منها، وهو ما يحدث للكيان الصهيوني الآن. مهما توسع في الأطراف وزرع المستوطنات في الضفة الغربية والجولان فإن المقاومة اللبنانية دحرته في طرفه الشمالي، وحرب أكتوبر ١٩٧٣م قلصته في طرفه الجنوبي.
وكما خلق الله الأرض يرجعها إليه من جديد. وبعد أن يمتحن الإنسان عليها ويختبره فيها تظهر النتيجة في النهاية بعد أن تنتهي حياة الإنسان على الأرض، وهو يوم لا يأتي إلا بغتة. علامته انتهاء الاختبار. حينئذٍ تبدل الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء. فالأرض جميعًا في قبضته يوم القيامة. وتشرق بنور ربها. ويسمى ذلك اليوم: القيامة، الزلزلة إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، الراجفة يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وعشرات من الأسماء الأخرى رصدها المتكلمون والصوفية. يخرج الناس من القبور، وتخرج الأرض أثقالها، وتنشق الأرض عن البشر سراعًا. ترتج الأرض وتدك، وتسيَّر الجبال. فالأرض ليست دائمة. والاستيلاء عليها مؤقت. فكما خلقها الله تعود إليه. وكما سكنها قوم ظلمًا وعدوانًا فإنهم يخرجون منها.
(٣) لله ملك الأرض وميراثها
ليس الله فقط رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. لذلك لا يجوز لأحد، لفرد مثل فرعون أو لقوم مثل إسرائيل التأله فيها، ولكن الله أيضًا مالك السموات والأرض وله ميراث السموات والأرض.
فالأرض لها صاحب ومالك وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يجوز لأحد غيره ادعاء ملكيتها. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. والكل يعرف هذه الحقيقة. والسؤال عنها بديهي قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلهِ، وهو اعتراف إنساني بناءً على تجربة إنسانية الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. الملكية الإنسانية للاستعمال وليس للاستيلاء. الإنسان وجود وليس ملكية كما يقول الفلاسفة المعاصرون. يأتي إلى العالم لا يملك شيئًا، ويغادره لا يملك شيئًا.
لله ملك الأرض ومن عليها. وله خزائنها وَلِلهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ما فوق الأرض وما تحت الثرى، العمران والنفط، البنايات والهياكل على الأرض والمعادن الطبيعية تحتها، وهو ما سماه الفقهاء «الركاز». ولا أحد يملك ذرة في السماء أو في الأرض كما تدعي النظريات العنصرية والقومية العرقية، لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. بل إن بعض الدول أرادت امتلاك المحيطات والكواكب والنجوم والقمر وكل ما في الفضاء. فالملكية على هذا النحو مظهر من مظاهر القوة والعدوان.
وتتضمن ملكية الله للسموات والأرض ملكية مقاليد الأمور فيها، والسيطرة على قواها لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. فهي ملكية عالمة وليست ملكية جاهلة تنتهي إلى التلوث والتصحر.
وطاعة الكون لله طواعية واختيارًا أي اتفاقًا مع طبيعتها وقوانينها فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. هي ملكية طيعة حرة وليست قهرًا أو نهبًا أو تدميرًا.
وبهذه الملكية للسموات والأرض يتبارك الله ويتقدس اسمه وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا. فيتحقق السلام على الأرض. فالملكية البشرية أساس الشقاق والنزاع حول الأشياء. الإنسان مستخلف فيما بين يديه. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار، وليس له حق الإضرار بالغير أو الاحتكار أو الاستغلال.
والأرض لها وارث هو الله لِلهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. لا يجوز لأحد سواه ادعاء وراثتها، أبًا عن جد، وابنًا عن أب، وحفيدًا عن ابن. فالميراث نتيجة طبيعية للملكية، وليس إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق كما فعل وعد بلفور لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.
والله يورِّث الأرض لعباده الصالحين وليس للعصاة قتلة الأنبياء والشعوب أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، وهو مدون في الزبور وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. فالعهد القديم لا يعطي الأرض لشعب بلا شرط. مهما اعتدى وعصى وقتل الأبرياء. شرط الوراثة العمل الصالح الذي يفتح الأرض للجميع. تتوارثها الأجيال الصالحة جيلًا وراء جيل أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا، وليس عرقًا أو شعبًا دون غيره. يرثها من لهم الجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ. وليس الذين لعنهم الله في الدنيا والآخرة. فإذا عصى شعب مثل بني إسرائيل يرث الصالحون أرض العصاة وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا. فلا يبقى على الأرض إلا الصالح وفي نهاية الدنيا يرث إله هو الوارث الأول والأخير إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ. إليه يرجع الأمر كله.
والله وحده هو الذي يعلم غيب السموات والأرض إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ولا يخفى على علمه شيء. لا يأتي العلم من تزوير التاريخ وتحريف الوثائق كما تفعل إسرائيل في إثبات وجودها كأول شعب على أرض فلسطين، وإثبات إقامة المسجد الأقصى على أنقاض هيكل سليمان الذي يجب إعادة بنائه كما كان فوق أنقاض المسجد الأقصى، وهو الذي يعلم السر والعلن يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ. ولا يخفى التآمر والكذب من أي فرد أو شعب عليه. يعلم ما تحت الأرض وما فوقها وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وهو أعلم بالحفريات تحت المسجد الأقصى وليس مؤرخي الزيف والبهتان. لا يغيب عنه شيء وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور إِنَّ اللهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
ولا يستطيع أحد أن يعجز الله في الأرض. فالله قادر على إهلاك من يعتبرهم البشر آلهة إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. فكل إنسان على الأرض عبد لله إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا. ولا يستطيع شعب مهما أوتي من جبروت وأسلحة دمار أن يعجز الله وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. لا يستقوي أحد نفسه عليه وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. كل شيء من ظواهر الطبيعة مسيَّرة بأمره وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا. والله هو الذي يدبر الأمر في السموات والأرض وليس القوى الكبرى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ. ومن يعصي الله لا يعجزه وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ. والجنود لله في السموات والأرض وَلِلهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وليس جيش الرب في أوغندا أو جيش الدفاع الإسرائيلي في فلسطين المحتلة.
وما دام الله هو مالك الأرض ووارثها فله على الناس حق الطاعة وَلِلهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. وليس العصيان، قتل الأنبياء، وتشريد الشعوب خارج أوطانها واحتلال أراضيهم. له على الناس حق الإسلام له ليتحرروا من عبودية الأسياد من البشر وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. فالسجود علامة الطاعة أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. وليس الاستكبار والعلو في الأرض والتعالي على رءوس العباد.
وما دام الله هو مالك الأرض ومَن عليها وهو وارثها فإنه يملك الرزق للناس جميعًا ليس عن طريق العدوان وشفط المياه من الآبار، والاستيلاء على أشجار الزيتون، ومنع تصدير الموالح وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، مهما بلغت المعونات الأجنبية والاستيلاء على الثروات الطبيعية للشعوب. وما دامت له مقاليد السموات والأرض فإنه يبسط الرزق لمن يشاء لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ بشرط ألا يبغي الناس في الأرض وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ. غنى الظالم وفقر المظلوم وقتي. غنى المعتدي ليفجر، وفقر المعتدى عليه يشحذ الهمة ويقوي العزيمة لاسترداد الحقوق.
الله هو المثل الأعلى في السموات والأرض وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وهو القيمة الأولى والمعيار الأول للسلوك البشري. هو المبدأ العام الذي يتساوى أمامه الجميع بلا تفرقة في اللون أو القبيلة أو العشيرة أو الطبقة الاجتماعية. له الكبرياء والعلو والعزة في السماء والأرض وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ومَن يتكبر في الأرض فإنه يؤلِّه نفسه، وينصِّب نفسه إلهًا في الأرض.
ولله يسبح من في السموات والأرض سَبَّحَ لِلهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فهو الحافظ لحرية البشر والمساواة بينهم. هو أساس العدل والسلام. له الحمد والشكر في السموات والأرض فَلِلهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فالله ليس إله إسرائيل، إله الجيوش والعدوان، والتابوت والعهد كما يصور العهد القديم. هو إله الجميع. تنعكس وحدانيته في وحدة البشر جميعًا وليس في شعب مختار. له النصر والأرض والمدينة والمعبد مهما عصى واعتدى وظلم وطرد وشرد وجرف الأراضي وهدم المنازل ونزع أشجار الزيتون.
(٤) اتساع الأرض
وكما أن الله إله السموات والأرض، وله ملك السموات والأرض، وله ميراث السموات والأرض فإنه خلقها على الاتساع حتى تستوعب نشاط الإنسان وحركته. مد الأرض وأقام عليها الجبال لتثبيتها، وأنبت فيها من كل شيء بقدر موزون طبقًا لحاجات الإنسان وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. فالجبل والنهر، الارتفاع والعمق مظهران للأرض وللعمران، للسكن والري هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا، للحماية بالجبال وللزراعة بمياه الأنهار وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. وقد أقسم الله بامتداد الأرض وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. ودعا إلى النظر في الأرض كيف سطحت وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ. وأقسم بالأرض التي طحاها وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. الأرض رحبة فوق الأفق دون الاختناق في أماكن مغلقة يتقاتل عليها الناس. الأرض ليست نقطة بل سطحًا وليست مكانًا بل فضاءً، وليست سكونًا بل حركة. والغاية الانتشار فيها والكد عليها. اتساع الأرض مثل مساواة البشر لحمل الأمانة ونشر الرسالة؛ لذلك انتشر الإسلام في سهول آسيا الواسعة كسرعة البرق.
وكما مد الله الأرض مهدها وجعلها صالحة للسير والمشي والسعي. وجعل فيها شعابًا ومسالك وطرقًا الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا. وضع الله الأرض للأنام أي لسُكنى البشر وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ. وذللها لهم للسير في مناكبها هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا. خلق الله السماء ثم الأرض. فلا سماء بلا أرض، ولا رأس بلا قدمين وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. مدها كالبساط حتى يسير عليها الناس وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا. وفرشها بالخضرة والعشب كالبساط الأخضر الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا. فيستريح الناس في المشي بدلًا من السير على الحصى والرمال وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ. ووضع فيها ما يكفي لحاجة الناس ومتطلبات معيشتهم أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا. لا يتعثر أحد في مشيه عليها. لا يقع في حفر أو بالوعات. ولا يصطدم بحجارة أو مطبات صناعية. ولا يغوص في مياه الصرف الطافحة. «والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها يا عمر لماذا لم تمهد لها الطريق؟»
بل إن الجنة في نفس اتساع الأرض في الدنيا وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. الاتساع في الدنيا، والبراح في الآخرة. فالآخرة استمرار للدنيا في اتساع الأرض دون الضيق والحشر كما هو الحال في توزيع الخريطة السكانية في مصر، ثمانون مليونًا يقطنون في ٤٪ من مساحتها في وادى النيل وليس في الصحراء. الاكتظاظ السكاني في مكان، وترك باقي الأماكن خاوية خالية تضييقًا لمساحة الأرض. في مقابل عدو يزرع المستوطنات في قلب الصحراء لتوسيع رقعة الاستيطان والانتشار في الأرض. ويبقي الأرض على الاتساع «من الفرات إلى النيل»، ومن لبنان إلى اليمن. والبدو الرحل لا يعرفون الاستقرار في الأرض إلا إذا كانت واحة للاستقرار. يسيرون في الصحراء بحثًا عن الماء والكلأ. لا يعرفون الحدود الجغرافية. فالصحراء على الاتساع مثل الأرض. لا يعرفون إلا الله في السماء والعدل في الأرض.
فإذا ما ضاقت الأرض بما رحبت فأرض الله واسعة، والهجرة واجبة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا. فلا يجوز الفرار من الأرض. إذا ضاقت في مكان فإنها تتسع في مكان آخر وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. لذلك كانت الهجرة سنة الأنبياء، إبراهيم من العراق إلى الحجاز، وموسى ويوسف من فلسطين إلى مصر، ومحمد من مكة إلى المدينة، هجرات طويلة من مصر إلى فلسطين، من قطر إلى قطر أو قصيرة من مدينة إلى مدينة. تضيق الأرض في مكان، وتتسع في مكان آخر وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا بشرط أن تكون هجرة مؤقتة. فلا هجرة بعد الفتح. السياحة في أرض الله الواسعة أمر إلهي وضرورة بشرية فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وإن ضاقت عبادة الله في مكان فأرض الله واسعة يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ. فإذا كان الجسم له حدود فإن الروح بلا حدود.
الأرض كلها ميدان للجهاد في سبيل الله وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. يموت المجاهد في الأرض على الاتساع، ويدفن في الأرض على الاتساع، دون مقابر ومشاهد ومنازل عليها للسكنى وللاستقرار، لا فرق بين مقابر الأموات وسكن الأحياء. لذلك سوَّت الحركة الوهابية المقابر بالأرض، وحرم اتخاذ مقابر الأنبياء والأولياء والصالحين مزارات.
ومع ذلك، ليست الأرض إلهًا، ولا يمكن تأليهها عبادة أو وعدًا أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ. الأرض من خلق الله، والسير فيها طاعة له. والانتشار عليها تسبيح وحمد وشكر. ومِن ثَم تبطل دعوى الصهيونية بألوهية الأرض، قطعة من الأرض، وقدسية الأرض، بقعة من الأرض.
ووجود الإنسان في الأرض مؤقت. إليها يأتي، ومنها يخرج وإلى الله يعود وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وهو امتحان وبلاء واختبار بعد سعي وكد واجتهاد. الأرض ميدان للعمل والكفاح. تبقى الأرض ويغادرها الكادحون. وقد يكون هذا الوجود المؤقت في الأرض عن وعي أو عن لا وعي مثل أهل الكهف قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ وحال النائم. وفي حالة الوعي واليقظة يدرك الإنسان أن وجوده زماني، بين الحياة والموت في لحظات العمر. يخرج منها الناس يوم الفزع الأكبر وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ. يُبعثون منها كما يولدون فيها يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ، وهو أيضًا يوم النفخ في الصور وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وهو الانتباه عن طريق السمع والصوت. الأرض تصدع. وقد أقسم الله بها وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ. ولا يأتي العصيان إلا من العصاة أي من المستوطنين في الأرض والمعتدين على أصحابها. التقسيمات في الأرض ضد اتساعها. والجدار العنصري العازل ضد مدها. والمستوطنات المسلحة المغلقة بالأسوار ضد الانتشار فيها. ولن يمنع الخوف ولا السكنى في الحصون من انتشار الأرض وفتحها وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ. ولن تمنع البروج من موت المعتدين، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
(٥) خلافة الإنسان في الأرض
خلق الله الأرض، وهو مالكها ووارثها. وسطَّحها ليمشي عليها الإنسان ويكد فيها. فالإنسان خليفة الله في الأرض، مسئول عن تعميرها دون أن يؤدي ذلك إلى حكم سياسي إلهي «ثيوقراطي» باسم الحاكمية. خلافة الإنسان في الأرض خلافة عامة أي مسئولية وأمانة حملها الإنسان طواعية واختيارًا بعد أن عُرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، عدلًا إن وفَّى، وظلمًا إن تخلى.
الإنسان خليفة الله في الأرض إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. ليس الإنسان بمفرده بل بجماعته وأمته. فالخلافة فردية وجماعية هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، وهو استخلاف مشروط بإقامة العدل. فالظلم لا يبقى في الأرض قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ. فالاختيار ليس لإنسان بشخصه بل لأفعاله أو لشعب بعينه بل لتحقيقه كلمة الله كنظام مثالي للعالم، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمساواة بين البشر، وهو ما يسمى أيضًا بالتمكين، اللفظ الذي أصبح مشهورًا في علم الاجتماع بمعنى تمكين المرأة أي زيادة سلطتها ورفع المعوقات عنها وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ. وقد مكن الله للأنبياء. فالنبي هو النموذج الأولى للإنسان وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ.
وتعني الخلافة أيضًا تعمير الأرض وليس تدميرها، زرعها وليس جرفها، ريها وليس حجب الماء عنها. فالإنسان نشأ في الأرض وفيها يقيم، وعليها يموت هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا. ولا يعني الاستعمار هنا احتلال أراضي الغير والعدوان عليها وطرد شعبها منها، فالإعمار ليس ظلمًا لأحد وليس عدوانًا من أحد كما فعل المستعمرون والمستوطنون في الوطن العربي والعالم الإسلامي.
والإنسان أمين على خزائن الأرض مسئول عن زراعتها وتعميرها وإطعام الناس وعدم تجويعهم أو حصارهم أو منع المياه والطاقة عنهم قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.
وكل شيءٍ في الأرض مسخرٌ لصالح خلافة الإنسان في الأرض وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لهبوط المطر طبقًا لحركة الريح. فالطبيعة طيِّعة للإنسان، وقوانينها خاضعة لإرادته مثل إقامة السدود والخزانات وطواحين الهواء وتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية ومساقط المياه وحركة الأمواج.
وهو خليفة قوي في الأرض، والخلفاء فيها ليسوا ضعفاء أو مستضعفين. والمؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف. فالضعف وهم، وتضييع للخلافة، وتخلٍّ عن الأمانة قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. ويثبت التاريخ أن المستضعفين في الأرض الذين على حق يتحول ضعفهم قوة. فقد خلقت الأرض للمستضعفين، ووراثتها للمستضعفين وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ. وقد نشأت كل أمة مستضعفة كما حدث للإسلام في أول عهده وللنصارى في بداية النصرانية ثم تحولوا إلى قوة وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ.
والاستضعاف وقتي في زمان ومكان معينين. والأرض واسعة. إن استضعف قوم في بقعة تكون الهجرة إلى أرض فسيحة رحبة واجبة كما حدث في هجرة الرسول، وهجرة موسى، وهجرة إبراهيم، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا. فكل عسر بعده يسر كما أن كل يسر بعده عسر. وتلك هي هشاشة البشر. لا تضيق الأرض على أحد. فرحمة الله واسعة ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ.
والضرب في الأرض أي الجهاد فيها والكد عليها ضروري. والموت شهادة قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا. ومن لا يجد ما يجاهد به يجاهد بالعلم أو بخدمة المحاربين ومداواتهم في الصفوف الخلفية لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. والجهاد في سبيل الله يبيح التقصير في الصلاة تطبيقًا لواقعية الشريعة وقواعد الضرورة وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا.
وبالرغم من خلافة الإنسان في الأرض إلا أن ذلك لا يستدعي منه الكبر والخيلاء سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ. فالله وحده هو الذي له الكبرياء في الأرض. فالإنسان بالرغم من عظمته لوعيه بنفسه وبالناس وبالعالم إلا أن الأرض والجبال أقوى منه إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا. وقد علا فرعون في الأرض. تكبَّر، وتجبَّر، وتألَّه. والمسرف في تعظيم قدرته وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ. الكبرياء في الأرض أي الاعتزاز بالنفس للأنبياء وللمؤمنين وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ.
ومن يتولى عن الخلافة أو يعمل على نقيضها فإنه يفقد دوره في الأرض. وبدلًا من أن يسير عليها، ويجاهد ويكبر فإنه يتوه فيها كما حدث لبنى إسرائيل قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ. ومن يثَّاقل إلى الأرض، ويجاهد مرغمًا غير مؤمن به يكون نوعًا من النفاق مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ. ومن يخلد إلى الأرض دون أن يسعى فيها لا ينال أي رفعة أو عزة عليها، لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ. ولا يستطيع الإنسان في الأرض أن يعجز الله ويعمل ضد إرادته فهناك حدود لقدرة الإنسان تثبت عجزه إذا ما تجاوز الحد أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. ومن يعجز الله فإنه يبوء بالخيبة مَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ. ومهما شق نفقًا في الأرض أو شيد سلمًا إلى السماء فإنه لن يستطيع إعجاز الله فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ. فقد وقع في الغواية واستهوته الدنيا كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ. فغواية الشيطان الإنسان ثأر من خلافته في الأرض قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا.
والجهاد في الأرض فعل حر طبيعي تلقائي إلا أنه أحيانًا يتطلب المقاومة في حالة العدوان. فالصراع جزء من حياة البشر، مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ. ومع ذلك حرية الإيمان مكفولة للجميع. فلا إكراه في الدين وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا.
وبالرغم من خلافة الإنسان في الأرض إلا أن الأرض وما فيها عرض زائل لا يبقى. حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا. ما يبقى هو فعل الإنسان فيها ويخلد به عليها خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. وذلك ما يثبته التاريخ. تم تمكين الناس من الأرض ثم ضاعت منهم لأنهم لم يتبعوا قانون العدل أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ. وفي ذلك فلينافس المتنافسون، في العمل الصالح والسبق نحوه عن جميع الأمم وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ. لذلك كان التأمل في التاريخ والعبرة بالآثار وسيلة للاعتبار، والتمييز بين ما هو جوهري، العمل الصالح، وما هو عرضي، زينة الدنيا قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ. فالتاريخ هو خير شاهد، والتجربة أفضل تصديق قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.
ولن يستطيع الخليفة في الأرض إن تخلى عن مسئولياته أن يعوض خسارته حتى ولو أتى بملء ما في الأرض ذهبًا ليفتدي نفسه. فقد انتهى وقت العمل في الحياة وجاء يوم الحساب فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى. ولا يستطيع أن يكفِّر عن نفسه أو يفتديها بكل ما في الأرض إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ. فساعة الحساب لا تنفع فيها الفدية وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ. انتهت الدنيا، وقت العمل والكفاح، وجاءت الآخرة لإعلان النتيجة. حينئذٍ لا ينفع الندم أو الفداء وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
(٦) الاستقرار في الأرض
ليست الأرض فقط ملكًا لله وهو وارثها ولكنها أيضًا مستودع ومقر للإنسان. يستقر عليها ويتشبث بها، ويقاوم إخراجه منها. ينتشر عليها، ويعمل فيها ويأكل منها، وينفق على غيره من رزقه. وعليها يؤسس المدينة ويقيم العمران.
الأرض للسكن وليست للهجرة. وللتمسك بها إعلاءً لكلمة الله فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ. السكن في الأرض أمر إلهي للمتقين وليس للعصاة وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ. فشرط السكن في الأرض التقوى والطاعة وليس الجحود والعصيان اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا. السكن في الأرض نتيجة وليس مقدمة، استحقاق وليس حقًّا وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي. هو نتيجة لجهد الإنسان وكسبه وليس حقًّا مكتسبًا من وعد إلهي لشعب خاص كما هو الحال في الصهيونية.
والإخراج من الأرض غاية العصاة وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا. وقد هلك فرعون لأنه أراد إخراج جزء من شعبه من الأرض فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا. الإخراج من الأرض جريمة يثور ضدها الضحايا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ. وهي تهمة العصاه للأنبياء قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ كما اتهم فرعون موسى. والحقيقة أن الوحي تحرر للبشر من ربقة الطغاة. ليس الوحي سحرًا يخرج الناس من أرضهم بل هو حق يجهر بنفسه لتحرير الأرض كلها من نظم البغي والطغيان يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ. وعلى الإنسان الاختيار إما التحرر من الطغاة والهجرة المؤقتة حتى العودة والفتح أو الاستسلام لهم لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا. واتباع الهدى واختيار التحرر قد يؤدي إلى الطرد من الأرض والإبعاد منها والنفي والتشريد فيصبح أهل البلاد شعبًا من اللاجئين وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا. كل شعب يعيش حيث استقر. لا يترك أرضه إلى أرض غيره بدعوى الأحقية. عاش اليهود في مصر منذ هجرة يوسف والذى أصبح وزيرًا على خزائن الأرض، حفيظًا عليمًا. ولاؤه لمصر اعترافًا بالنعمة وإكرام المثوى من والديه اللذين تبنياه. والخروج منها إلى فلسطين وإخراج الكنعانيين عدوان لا يقره الأنبياء، ولا كان هدف موسى. هو ما فعل يوشع من بعده، استيلاء على أرض الغير والاستقرار من بدو رُحَّل في أرض خضراء لإيجاد أرض لليهود بعد التيه يستقرون عليها حربًا وليس سلمًا، عدوانًا وليس جوارًا، طردًا وليس كرمًا، عنصرية وليس أخوة، استيطانًا وليس مشاركة، إرهابًا وليس إكرامًا للضيف.
ولا يوجد إسكان دائم لشعب معين في أرض بلا شروط، وعلى نحو مجاني، وبلا مقابل من تقوى وطاعة وعمل صالح يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ باعتبارهم جماعة من المؤمنين يعيشون مع غيرهم في أمن وسلام. فلسطين أرض مقدسة لأنها مهبط الأنبياء. وهي مقدسة في ذاتها لأنها وسط العالم وليست عند شعب بعينه. القتل والعدوان فيها ضد التقديس. الحياة عليها مقدسة مثلها. وقد تزوج موسى من إحدى ابنتي شيخ مدين وعمل مع قوم مدين مزارعًا، وهو القوي الأمين. ثم انقلب اليهود على مدين وقتلوا أبناءهم وسبوا نساءهم غدرًا بالليل.
وبعد الاستقرار يأتي الانتشار في الأرض والرحلة فيها والسعي عليها فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فالأرض مكان للاستقرار والحركة، للزراعة والفتح، للسكن والهجرة، للغرس والانتشار. الإنسان حامل أمانة، ومبلغ رسالة. ينشر التوحيد في كل مكان. وتتحرر به الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها. فالأرض لله والحكم لله. والتوحيد لا يعرف حدودًا ولا قسمة. الأرض واحدة مثل أن الله واحد، والإنسانية واحدة، والحقيقة واحدة.
والاستقرار في الأرض للعمل. فإذا ما انتهى وقت العمل انتهى السكن في الأرض وجاء قوم آخرون. السكن في الأرض امتحان واختبار لآدم وبنيه بعد أن كان في السماء. وبإرادته الحرة وعمله هبط إلى الأرض قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. الإنسان مارٌّ عليها والأرض باقية. خلوده في آثاره التي يتركها في الأرض. فالأرض جغرافيا وتاريخ. والعمل الصالح يتراكم في الأرض جيلًا وراء جيل، مسئولية فردية وجماعية. وإلى الله يرجع كل شيء.
والأرض قابلة للفعل الإنساني طيعة له، مطيعة لإرادته، مادة خام يشكِّلها الإنسان أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا. وفيها الأنهار لزراعة الأرض والانتقال والشرب وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا. يشق الإنسان الجبال، وينحت فيها بيوتًا، ويسير بالفلك عبر البحار، ويرغب في الطير في السماء. وهنا تنشأ المدنية أي قدرة الإنسان على التعامل مع الطبيعة لتسخيرها لصالحه. الإنسان من الأنس وليس من النسيان. والأنس اقتران بالآخر، والعيش مع الجماعة. لا يعيش الإنسان منعزلًا في ركن من الأرض بل في جماعة في أفق الأرض الفسيح بلا حدود.
والأرض مصدر الرزق والكسب مما يهبط عليها من الأمطار فتخضر، ومما يُستخرج من معادن. فالرزق من السماء ومن الأرض بفعل الطبيعة المسخرة لصالح الإنسان قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فلا يوجد كسب سريع عن طريق العمولات والوساطات بل بالإنتاج. العمل وحده مصدر القيمة. والأرض مصدر للطعام الحلال والكسب المشروع يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا، وليست للنهب والهدر والتبذير كما يفعل السفهاء. الأرض مثل الجنة في السماء، جنات من أعناب وزرع، يأكل منها الناس وليست أرضًا قاحلة يموت فيها الزرع والضرع كما يشاهد الآن في السودان وتشاد والصومال وإثيوبيا وبنجلاديش وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ. نبت الإنسان في الأرض مثل النبات. فالإنسان زرع الأرض، والنبات زرع الإنسان وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا. لذلك صاغ إقبال فلسفة النماء والنشوء والارتقاء باعتبارها روح الإسلام.
وهذا الرزق للإنفاق، وليس للاحتكار أو الاستغلال أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ. لا يُمنع من رزقها إنسان ولا حيوان وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ. وقد عذبت امرأة في هرة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ففي الأرض رزق للجميع. لكل ذي كبد رطب إنسانًا أو حيوانًا وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا. فلا تتراكم الثروات عند قوم ولا تموت الملايين جوعًا وقحطًا، مسلمين أو غير مسلمين.
وعلى الأرض تقوم المدنية ويتأسس العمران. إن تأسست على القوة والثروة وحدهما يكون عمرها قصيرًا، كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا. وإن تأسست المدنية والعمران على التقوى والطاعة يطول عمرها وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا. فالفضيلة قانون التاريخ وليس القوة أو الثروة.
لا تقوم الحضارة على التخريب والتدمير وتجريف الأراضي واقتلاع أشجار الزيتون وهدم المباني وشفط المياه من الآبار أو تسميمها وطرد أهلها. ومن يفعل ذلك يكون مصيره كعاد وثمود. الحياة على الأرض اختبار للإنسان. خلقها الله له ليستقر فيها ويعيد خلقها وتشكيلها بعقله وإرادته. فالإنسان يشارك في صنع الحياة فيها ويحولها من حياة عضوية إلى حياة عمرانية. الله خالق الأرض والحياة والإنسان صانع الحضارة والتاريخ.
(٧) الأرض الخضراء
إن تصوير القرآن للأرض الخضراء التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج هو إيحاء للعرب بالتوجه نحو الأرض لزراعتها وريها. فصورة الأرض الخضراء في الذهن الإلهي هي صورتها أيضًا في الذهن الإنساني. فالقرآن موجه للسلوك الإنساني وواقع على العمل في الأرض وبناء العمران. القرآن به كل شيء وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ، مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ. ليس بمعنى الحلول ولكن بمعنى به كل التوجه والإرشاد والرؤية والمنظور. وما زلنا نستمد رؤانا للعالم من القدماء الذين عاشوا في عصر مضى وفي مرحلة تاريخية ولَّت، ونحن نعيش في عصر آخر وفي مرحلة تاريخية جديدة، من الانتصار إلى الانكسار، ومن الوفرة إلى الندرة، أو ننقلها من المحدثين فلا تنجح خططنا التنموية إذ تنقصها المشاركة الشعبية والدافع الداخلي من الثقافة الوطنية.
لذلك يقوم اليسار الإسلامي على تجربة أخرى، التوجه نحو الأرض ليس فقط للتحرير والعمران بل أيضًا للزراعة حتى نأكل ما ننتجه، ونحصد ما نزرعه لتحرير الإرادة الوطنية من المعونات الخارجية والتهديد بقطعها ومنع توريد القمح والغذاء. فالهند شبه القارة التي يقطنها فوق المليار نسمة تأكل ما تنتج، ولا تستورد قمحًا. ونحن ما يقرب من المليار والنصف من المسلمين يعم أراضينا القحط والجفاف من جانب، والغرق والفيضان في جانب آخر. فما هي صورة الأرض في القرآن؟
الأرض للإنبات وليست الأرض القاحلة الجافة. يهرع إليها الناس فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا. الأرض تنبت بفعل إنزال الماء عليها كما يفعل المطر درسًا للإنسان لحفر الآبار وإقامة السدود والبحث عن مصادر المياه سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ. يختلط الماء بنبات الأرض فيتحول إلى عشب وأشجار كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ. فندرة المياه أسطورة تبرر اندلاع الحرب القادمة في فلسطين حول المياه التي سلبها المستوطنون لري حدائقهم، وفي نفس الوقت تسميم آبار الفلسطينيين حتى يموتوا جوعًا وعطشًا فيهجروا الأرض طوعًا أو كراهية.
يهبط الماء من السماء مطرًا ويتفجر من الأرض عيونًا وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وتفجير الينابيع من الأرض دليل على النبوة كما فعل موسى عندما ضرب الحجر بعصاه فانفجرت منه العيون وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. ليست الصحراء العربية قاحلة. بها عيون وآبار للمياه وعيون أخرى وآبار للنفط، الماء للزراعة، والنفط للصناعة. إن الصحراء التي خرج منها الأنبياء يعبرون عن آفاقها اللانهائية باسم التوحيد لا يمكن أن تكون فقيرة والله غني.
وقد نشأت العيون من مياه الأمطار المتراكمة فوق الأرض فتنفذ في مسامها وتختزن تحت ثراها حين الحاجة وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ. يسلك الماء في ينابيع الأرض لحين الحاجة أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ. العطش في السودان ومالي والصومال والحبشة والمياه بالجوار يتحول إلى فيضانات في الهند وبنجلادش سوء تخطيط من البشر وعجز من المسلمين على التعامل مع الطبيعة وتسخير قوانينها لصالح العمران.
الأرض هي الأرض الحية وليست الميتة. يعيش عليها الأحياء ولا يدفن فقط فيها الأموات وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا. لذلك يشار إلى أراضي المسلمين في أفريقيا وآسيا بأنها أراضي الجوع والعطش، وبلاد القحط والجفاف. وهي مملوءة بالمياه والزرع. وكانت هدف المستعمر الغربي باستمرار. مياه وزرع فوق الأرض، ومعادن وثروات تحت الأرض. بل لقد امتد العطش إلى دلتا النيل لعدم العناية بالشعب بينما تتوفر المياه في القرى السياحية في الساحل الشمالي وعلى سواحل البحر الأحمر للأغنياء والميسورين. والطريق قادم إلى خصخصة المياه وبيعها للقادرين لأن الماء أصبح سلعة وليس خدمة، تجارة وليس حقًّا، من الكماليات وليس من الضروريات. وقد حث الشرع على أن تكون المياه عامة للناس ولابن السبيل. والحديث مشهور «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». وكان «السبيل» من جوانب العمارة الإسلامية حتى حنفيات البلدية العامة في الأحياء التي لم تدخلها المياه بعد إلى عهد قريب.
الماء له فعل في الصخر، وقوته في الأرض القاحلة. فالحياة أقوى من الجماد. والنماء أقوى من الموت أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا. مصادره مياه الأمطار والعيون والآبار. ومهمة الإنسان تخزين مياه الأمطار للانتفاع بها على مدى العام، وتفجير العيون وحفر الآبار للاستفادة من المياه المختزنة في باطن الأرض. الجنة بها أنهار وليست صحراء قاحلة. وفجر الله مياه زمزم حتى لا يهلك أولاد إبراهيم من العطش، وأصبحت مزارًا وحجًّا للمسلمين. وهي المياه المباركة النظيفة وليست المياه الآسنة من البرك الراكدة التي تحمل الأمراض للشاربين منها، اختيارًا بين الحياة مرضًا والهلاك عطشًا. ولا حاجة لجر جبال الجليد من الشمال إلى الجنوب حيث يضيع نصفها من الذوبان في مياه البحار أو تحلية مياه البحار والمياه الطبيعية موفورة فوق الأرض وتحتها. وهي ليست صالحة للشرب ولا للزراعة.
ينزل الماء على الأرض فتخضر أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً وليست هشيمًا أصفر تذروه الرياح. ويستعمل القرآن جماليات الألوان، الأصفر رمزًا للقحط والعطش والجفاف من أجل الحث على الزراعة، والأحمر رمزًا للنار والحديد من أجل الدفع نحو الصناعة، والأسود رمزًا للعتمة واليأس والذنب، والأبيض رمزًا للصفا والنقاء والأمل.
الخضرة حياة الأرض. والماء يحوِّل الجماد إلى حياة، والأرض إلى نبات وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا. وقد كانت أعلام معظم الدول العربية الإسلامية خضراء رمزًا لاخضرار الأرض. ثم أصبح اللون الأخضر رمزًا للسلام في المسيرة الخضراء أو الاستقلال الأيديولوجي كما هو الحال في «الكتاب الأخضر». بل أصبح رمزًا إلى الطرق الصوفية، العمامة الخضراء، والبيارق الخضراء، والأردية الخضراء رمزًا للنماء وثراء الروح وإن كانوا من الزهاد والفقراء.
الأرض ثابتة هامدة ساكنة. فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت، تحركت وحيت وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. فالحياة نماء وحركة، طاقة وتطور حتى لا يُتهم المسلمون بالثبات والجمود والخمول والتخلف عن مسار التطور. وإذا كان الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الإسلام والارتقاء في المقامات والأحوال لدى الصوفية دليلين على التطور والنماء في الفكر فإن حركة الأرض عن طريق الماء والخضرة هو القرين للفكر.
(٨) إصلاح الأرض
والأرض موطن للإصلاح وليس للإفساد، للتعمير وليس للخراب. ولما كان الإفساد هو الشائع فقط استُعمل لفظ الإفساد في الأرض أكثر من لفظ الإصلاح لأن الإفساد هو الأخطر، وهو القاضي على العمران. واستُعمل الإصلاح أكثر في إصلاح ذات البين، والإصلاح بين الزوجين، والإصلاح بين الناس.
والفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هو جزء من الفساد في الأرض. فلا يعني الفساد في الأرض فقط ما تفعله إسرائيل بتدمير مظاهر الحياة على الأرض الفلسطينية وكما فعلت أمريكا في فيتنام، قتل كل شيء يتحرك. وعادة ما يكون الفساد من المستعمر والمحتل والمعتدي، ولكنه أيضًا الإفساد الداخلي من الحكام من أهل البلاد مثل تزوير الانتخابات، واعتقال المعارضين، وحبس رؤساء تحرير الصحف، وتهريب الأموال، واحتكار تجارة الحديد والأسمنت، وتراكم رءوس الأموال في أيدي القلة، والرشاوى والعمولات، والتهرب الضريبي. بل أصبحت ظاهرة الفساد من أهم ظواهر مرحلة ما بعد الاستعمار وقيام الدول الوطنية.
الإفساد في الأرض اتباع للأهواء، وبالتالي الإصلاح فيها هو الحق، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. بل ويمتد الفساد من الأرض إلى السماء. إذا فسدت السماء، أي أسس الفعل، فسدت الأرض، أي نتائج الفعل. الإفساد تغليب للمصلحة الشخصية على المصلحة العامة، وإيثار الأنانية على الغيرة، والمحسوبية على الحق.
ومن مظاهر الفساد في الأرض قتل الأبرياء وإزهاق الأرواح، مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وهو ما يحدث في السجون والمعتقلات في الداخل كما تفعل كثير من نظم الحكم، والعدوان من الخارج كما تفعل إسرائيل في فلسطين. يعادل الإفساد في الأرض قتل النفس وهو جزاء الإفساد، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. ليس منع الفساد بالضرورة عن طريق القصاص بل الإبعاد عن الأرض موطن الفساد.
الإفساد في الأرض إبخاس الناس أشياءهم والنيل من حقوقهم، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ. وعدم المساواة في الحقوق والواجبات، وتقديم المفضول على الأفضل عن طريق الوساطة والرشوة.
ومن مظاهر عصيان الأنبياء اتهامهم بالإفساد في الأرض، أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ. فالإفساد والإصلاح رؤى وأحكام قبل أن يكونا أفعالًا وأعمالًا. ومع ذلك الإفساد والإصلاح لهما مقاييس موضوعية مثل إحياء النفس أو قتلها، إعمار الأرض أو تخريبها. فلا تتحول الرؤى الذاتية إلى تضحية بالمعايير الموضوعية.
الأنبياء والأخيار لا يفسدون في الأرض، قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ. فالنبي مصلح، والنبوة إصلاح، والوحي تغيير نحو الأفضل ورقي اجتماعي. فقد ساهم الوحي في استقلال الوعي الإنساني وحريته وفي تحقيق مبادئ العدالة والمساواة في المجتمع.
والإفساد في الأرض من شيم بني إسرائيل، وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ، وهو ما تفعله إسرائيل حاليًّا في فلسطين بتجريف الأراضي الزراعية، وتدمير أشجار الزيتون، وهدم المنازل، وقتل الأبرياء، الأطفال والنساء والشيوخ، واغتيال المقاومة، وزرع المستوطنات، وإقامة الجدار العنصري العازل، وهو نتيجة للعنصرية الإسرائيلية، الحياة لهم والموت لغيرهم، البناء لهم والعدم لهم، الإعمار لهم والخراب لغيرهم. كذلك القوى الكبرى مفسدة في الأرض بالحروب وأسلحة الدمار الشامل يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. فهي تبغي السيطرة على العالم كله بدلًا من الله، والعالم لا يحكمه إلا إله واحد. والنخبة الحاكمة والطبقة العليا تفسد في الأرض وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. وهم الأقلية ضد الأغلبية، والأغنياء ضد الفقراء. لذلك لا يجوز احتكار الثروة والسلطة بين يدي القلة دون توزيعها على الأغلبية.
والانقلابيون على الثورات يفسدون ما أصلحوا، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، كما حدث في تاريخ مصر من الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثانية، وهو أسوأ من الإفساد المبدئي. فالإفساد بعد الإصلاح جريمة مزدوجة لأنه تم بعد معرفة الإصلاح وإتمامه ثم تدميره وإفساده.
ويستحيل الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، لأن الإصلاح هو الثابت والفساد هو المتحول. الإصلاح هو الباقي والإفساد هو الطارئ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا. فالإصلاح طمع في الإعمار، والإفساد نتيجة عدم الخوف من الله أي من القانون والدولة والمحاسبة وأجهزة الرقابة والعقوبة في السماء وفي الأرض. ليس الإصلاح كالإفساد، ولا الإفساد كالإصلاح الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ. فالتمييز العقلي والمشاهدة العيانية قادران على الحكم.
والإصلاح في الأرض فعل مقاومة في جدل الإصلاح والإفساد، وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. فالإصلاح جهاد. يواجه معارضة الفساد ومقاومة المفسدين.
ومنع الفساد في الأرض أمر إلهي، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. وذكر نعم الله تمنع من الفساد في الأرض، واذكروا نعم الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين، وهو أمر بشري أيضًا من المصلحين فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ.
ومن مظاهر الإفساد في الأرض قطع الموصول، مثل قطع الأرحام وتفكك المجتمع والفرقة في الجماعة، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. الفساد فرقة، والإصلاح قوة.
وكيف يفسد الإنسان في الأرض والله لا يحب الفساد ولا المفسدين، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. ذكر الله إذن هو الطريق إلى الإصلاح. المصلح في علاقة حسنة مع الله بعكس المفسد. الإصلاح يضع الإنسان في علاقة مع الله. في حين أن الإفساد يقطع كل علاقة مع الله. الإصلاح هو الضمير الحي. والإفساد غياب كلي للضمير.
(٩) فساد في الأرض
أوصاف بني إسرائيل في القرآن الكريم تدل على سلوكهم اليوم. فهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وجوهر الرسالات السماوية الإصلاح، وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ. فالإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني بالطرد خارج أرضه والقتل والسجن والاستيطان والعدوان الأخير على غزة، كل ذلك فساد في الأرض. لا يسمعون لحق أو عدل أو يطيعون قانونًا أو يراعون عهدًا أو ميثاقًا ولا يحافظون على معاهدة، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ. ولكنهم تركوا الحق وعبدوا الشيطان واتجهوا إلى الدنيا وحاربوا القبائل واستولوا على أراضيهم وثرواتهم. ولم تنفعهم ذكرى الرسل، لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا. ونجاهم الله من فرعون وجنوده، وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ. ويغالون في التمسك بأشكالها. ومع ذلك يأكلون الربا، ويبدلون كلام الله طبقًا لرغبات الملوك. ويستكبرون في الأرض لأنهم أبناء الله وأحباؤه كما يدَّعون. العالم معهم، أوروبا وأمريكا خاصة إحساسًا بالذنب تجاههم لما اقترفوه في حقهم من جرائم واضطهاد لعنصريتهم ورفضهم الاندماج في القوميات التي يعيشون فيها في ألمانيا أو فرنسا أو روسيا أو ألمانيا الشرقية، وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ. وكفروا بكل آية أو بينة ولم يسمعوا لأي دليل حتى علماؤهم، أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وتكررت الآيات ولكنهم لا يؤمنون، سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ. وتوالت الرسل، وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. عصوا الأنبياء بالرغم مما آتوهم من بينات، وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ. آمنت الأقلية، وكفرت الأغلبية، فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ. جحدوا النعم. فقد عاشوا بين العرب والمسلمين في مصر والعراق والغرب العربي كله. وعاشوا عصرهم الذهبي في العلم والثقافة والحرية في الأندلس. ولم يروا الاضطهاد إلا بعد خروج المسلمين منها على أيدى النصارى ومحاكم التفتيش، فنزحوا منها إلى المغرب حيث يحكم المسلمون. وآوتهم الدولة العثمانية وحمتهم من الاضطهاد الأوروبي الحديث بعد حادثة درايفوس في فرنسا واستوطنوا في أراضيها في كل مكان، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ. لم يتعظوا من إنجاء الله لهم، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ. ونجاهم من العذاب المهين، وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ.
وحرم الله عليهم القتل وشرع لهم القصاص، السن بالسن، والعين بالعين، والنفس بالنفس، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. وقد قتلت إسرائيل في غزة وجرحت الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ، وهدمت المنازل على رءوس المدنيين الآمنين. ينافقون في تطبيق الشريعة ويتشددون في أحكامها. فقد كان كل الطعام حلًّا لهم إلا ما حرموه هم على أنفسهم، كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؛ لذلك لعنهم الأنبياء. فكتب الأنبياء كلها تبدأ بآية «اللعنة عليكم يا بنى إسرائيل»، لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُوا يَعْتَدُونَ. تاريخهم مع الأنبياء تاريخ العصيان وليس تاريخ الطاعة. لم يهتدوا بالنبوة ولم يؤمنوا بالكتاب، وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. ورث بنو إسرائيل النبوة، نبيًّا وراء نبي، ولكنهم عصوهم أو قتلوهم، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ. ويكشف القرآن تاريخ عصيان بني إسرائيل، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. قطع الله معهم الميثاق لأنهم عصوه وبدله بميثاق آخر فردي روحي أخلاقي شامل عرضه السيد المسيح عليهم، ولكنهم كذَّبوه أيضًا وتآمروا عليه وسلموه للرومان بتهمة أنه لا يعترف بإمبراطوريتهم. والمسيح يتحدث عن ملكوت السموات وليس ملكوت الأرض، ملكوت الروح وليس ملكوت البدن. ففي الثقافة العربية الإسلامية ما يكفي لحماية الأمة من الاستسلام والتنازل والمساومة على الحقوق. فهم لا يراعون عهدًا ولا يحافظون على معاهدة ولا يعترفون إلا بالقوة والمصلحة. خُلق العالم كله لهم. فهم أسياد البشر.