العدالة الاجتماعية
(١) العدالة الاجتماعية
في برنامج اليسار الإسلامي تأتي العدالة الاجتماعية كمطلب ثالث بعد تحرير الأرض كمطلب أول، وحرية المواطن كمطلب ثانٍ نظرًا للتفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء قبل الطفرة النفطية وبعدها. فأفقر فقراء العالم من المسلمين، وأغنى أغنياء العالم منهم أيضًا. تموت الملايين جوعًا وقحطًا وعريًّا في الصحراء في جنوب السودان والصومال ومالي وتشاد وبنجلادش، وتتراكم التريليونات والمليارات من عوائد النفط، وهو ما يتنافى مع وحدة الأمة.
وتكثر الآيات والأحاديث والأقوال والمأثورات التي تعطي الفقراء حقهم في أموال الأغنياء، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. قلنا يا رسول الله، أفي المال حق غير الزكاة؟ قال: نعم، في المال حق غير الزكاة. الزكاة هي الحد الأدنى لدوران رأس المال في المجتمع وليس الحد الأعلى الذي تحدده حاجات الاستثمار لصالح الجميع. كما وردت أقوال ضد الفقر كما قال عمر: «والله لو كان الفقر رجلًا لقتلته». وما ورد عن أبي ذر والأفغاني «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه ولا يخرج للناس شاهرًا سيفه!» وهو نقيض ما تتجه إليه الثقافة الشعبية كما يتضح في الأمثال العامية مثل «الفقر حشمة، والعز بهدلة».
يكفي تحليل لفظ «مال» في القرآن الكريم لمعرفة قدر المشاركة في الأموال بين الناس وتحريم أن ينحصر في حفنة من الأغنياء، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ. فقد ذُكر اللفظ ستًّا وثمانين مرة مما يدل على أهمية الموضوع. ولا يضاف إلى الضمائر أكثر مما يضاف إليها مما يدل على أن المال ليس موضوعًا للملكية. وأكثر الضمائر إضافة للمال هو الغائب الجمع في صيغة «أموالهم» وهم الغائبون، جمهور الفقراء. ولا يضاف إلى ضمير المتكلم إلا مرة واحدة وبمعنًى سلبي، هلاك المال، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ. بل إن اللفظ نفسه لفظ مركب من حرف الصلة «ما» وحرف الجر «ل» مما يدل على أنه إضافة ونسبة، وليس جوهرًا وشيئًا. المال وظيفة وليس ملكية. هي أموال الناس وأموال اليتيم واليتامى والفقراء والمحتاجين ومن لا عائل لهم. المال مال الله لا يملكه أحد من البشر. للإنسان حق الانتفاع والاستثمار والصرف، وليس له حق الاحتكار والاستغلال والاكتناز؛ لذلك حرم الربا لأن المال لا يولِّد المال من تلقاء نفسه بل عن طريق الجهد والعمل والإنتاج. المال دون نفع مجرد زينة وتفاخر مثل البنين والأولاد. اللفظ يأتي مجرورًا لأنه نسبة وإضافة، ومنصوبًا لأنه مناط الجهد والإنفاق.
المال مال الله يورثه لمن يشاء من عباده الصالحين. ليس وراثة أو نهبًا أو تهريبًا أو احتكارًا. المال وديعة للصرف وليس قيمة مختزنة في حد ذاتها. المال مشاركة بين الناس، وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ. وليس استحواذًا أو اكتنازًا وتراكمًا، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا. وشرط الإيمان الصدق في المعاملة وعدم أكل أموال الناس بالباطل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ. المال مال اليتامى، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا. ولا تترك الأموال بأيدي السفهاء للتبذير والاستهلاك، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ. وخلاص الإنسان بالعمل الصالح وليس بما يملك من أموال، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا. المال فانٍ والعمل الصالح ثابت. يتركه الإنسان وراءه ولا يأخذ معه إلا العمل الصالح.
تؤكد استعمالات لفظ المال إذن على معانٍ ثلاثة: الأول، المال حق الله، وحق الآخر، وواجب استقلال الشعور الذاتي عنه. المال مال الله وليس ملكًا لأحد. وللإنسان حق التصرف والانتفاع والاستثمار. فإذا ما استغل أو احتكر أو اكتنز من حق السلطة الشرعية استرداد الوديعة بالتأميم والمصادرة للصالح العام. المال حركة اجتماعية وسيولة بين أفراد الجماعة لا يجوز اكتنازه أو احتكاره أو الاحتفاظ به. ومن حق السلطة الشرعية مصادرته لتدويره للصالح العام. فالملكية ليست حقًّا طبيعيًّا بل أمانة ووديعة واستخلاف، وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ.
وفي النظم الإسلامية ما تعم به البلوى لا يجوز امتلاكه ملكية فردية مثل الماء والهواء والزرع طبقًا لحديث «الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار» أي الزراعة والصناعة. وهما أهم قطاعات الإنتاج. وما يوجد في باطن الأرض مثل المعادن لا يجوز أيضًا امتلاكه على نحو فردي لأن شرط الملكية التحرك في السوق. عرف القدماء الذهب والفضة والنحاس والحديد وعرفنا نحن النفط. والإقطاع هي مراعي الدولة المشاع التي يحق لكل إنسان الرعي فيها دون امتلاكها مثل القطاع العام.
طريق التنمية للأمة ولتحقيق العدالة الاجتماعية ليس هو الطريق الرأسمالي، والاقتصاد الحر، «دعه يكسب، دعه يمر» بل هو طريق التخطيط والتوجيه والملكية العامة لوسائل الإنتاج. والشائع عند الناس بل ولدى الحركات الإسلامية المعاصرة أن النظام الاقتصادي الإسلامي نظام رأسمالي يقوم على حرية التجارة والكسب الحلال. فالرزق من الله، والتسعير من الله. والطبقات الاجتماعية طبيعية، وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وليس في العلم والفضيلة وحدهما. وكل كسب حلال بصرف النظر عن مصدره. والرزق مقسوم ومقدر من قبل. لا يمكن تغييره زيادة أو نقصًا «يا متعوس يا متعوس غير رزقك ما تحوش». وما دامت زكاة المال تؤدى، ٢٫٥٪، فالباقي ٩٧٫٥٪ حلال، وهو ما يتفق مع بعض الأمثال العامية «التجارة شطارة»، بالرغم من نقد ابن خلدون أخلاق التجار، واعتبار التجارة خدمة لا سلعة، غير منتجة عكس الزراعة والصناعة.
إن الطريق الرأسمالي للتنمية في البلاد النامية مرتبط أشد الارتباط بتراثها القديم وبثقافتها الوطنية، وهو قادر على إقامة نظام اقتصادي يرعى مصالح الأغلبية. لذلك ظهرت دعوات «اشتراكية الإسلام» أو «الإسلام والاشتراكية» من بعض المفكرين الإسلاميين الاشتراكيين، مثل مصطفى السباعي في سوريا وسيد قطب وعبد الرحمن الشرقاوي في مصر، للتأكيد على الطابع الاشتراكي للإسلام، وهو ما يستأنفه اليسار الإسلامي، ويعيد تأكيده لحل قضية التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء في الأمة. «ليس منا من بات شبعان وجاره طاوٍ».
لا يعني انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية وفي آسيا أي خلل في النظام الاشتراكي وفي قيم العدالة الاجتماعية بل في طرق التطبيق الآلي التسلطي المادي لها. فالاشتراكية قيمة إنسانية وروحية عالية. تعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن كلهم لآدم وآدم من تراب. وتلك الدلالة العامة للإحرام في الحج، إمحاء الفردية لصالح الجماعية. لباس واحد، طبقة اجتماعية واحدة، قبلة واحدة، أمة واحدة، وإله واحد.
(٢) الظلم
يبرز اليسار الإسلامي المفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في القرآن الكريم كرد فعل على تركيز اليمين الإسلامي على الشعائر الصورية والعقائد الإيمانية الشيئية. والغاية إعادة توجيه المسلمين نحو العالم بعد أن فقدوا السيطرة عليه لصالح الأمم الأخرى التي استعبدتهم واحتلتهم ونهبت ثرواتهم.
ومن ذلك مفهوم «الظلم» في القرآن الكريم، وهو مفهوم رئيسي أهم من العدل. فقد ذُكر مائتين وتسعًا وثمانين مرة في حين ذكر «العدل» ثمانيًا وعشرين مرة أي حوالي عشرة أضعاف. فمن يحارب الظلم يحقق العدل. ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في القواعد الفقهية القديمة.
ومعظم استعمالات اللفظ أفعال وصفات وليست أسماء. فالظلم فعل بشري، وسلوك إنساني، وليس جوهرًا ثابتًا. فلم يذكر الظلم كاسم إلا عشرين مرة والأفعال والصفات حوالي خمسة عشر ضعفًا من الاسم. والظالمون هم الناس والبشر. وهي الصفة الأكثر استعمالًا حوالي نصف الاستعمالات. ولم يذكر المبني للمجهول «مظلوم» إلا مرة واحدة لأنه لا أحد يقبل أن يكون مظلومًا، في الحياة أو في الممات. والمظلوم هو المقتول، وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا. والإنسان ظلوم، إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ. وحمل الرسالة والأمانة لتحقيق كلمة الله على الأرض، كلمة العدل والصدق لأنه ظلوم جهول، إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.
والظلم اشتقاق من نفس الكلمة التي تعني الظلام. فالظلم ظلام، والظلام ظلم للناس، وهو ما يحدث من انقطاع التيار الكهربائي في غزة. وظلمة القلب أشد لأنها تمنع من الرؤية.
ومن مظاهر الظلم عبادة غير الله، يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ، أي عبادة الأهواء والمصالح والقوة والثروة بلا قانون. فالله نموذج العمل الصالح ومعيار الفضيلة. ومن مظاهره تبديل قول الله وآياته، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا، أي تبديل الحق باطلًا والباطل حقًّا كما تفعل أمريكا في العراق وأفغانستان، وكما تفعل إسرائيل في فلسطين، وكتم الشهادة ظلم كما تفعل أوروبا بالنسبة لحقوق الفلسطينيين والعدوان الإسرائيلي، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ.
والظلم أنواع. أولها ظلم النفس وهو الأكثر استعمالًا، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. فالظلم ظلم للنفس قبل أن يكون ظلمًا للناس. هو تخلي الإنسان عن قيمه ومبادئه ومُثله وفضائله ومنها العدل. ظلم النفس يحوِّل الإنسان إلى ظالم لنفسه ولغيره، وهو ليس من الله. فالله لا يظلم أحدًا. لذلك يُستعمل في حقه صيغ المبالغة، وَمَا رَبُّكُ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ. الله هو المقسط، والقائم بالقسط، وهو من صفاته. والله لا يخاطب الظالمين، وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، لأن الظلم كفر به. وإنكار لشريعته، والتحول من الإنسانية إلى الحيوانية. والظلم للناس بعد الظلم للنفس، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ، الظلم في المجتمع وفي العالم، ضد الأفراد والجماعات والطبيعة، في الاستغلال والاحتكار وتلوث البيئة.
ومن مظاهر الظلم الجشع في الدنيا والطبع والرغبة في الاستيلاء على كل شيء وحرمان الآخرين، قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ، وضم نعجة الآخر إلى التسع وتسعين نعجة التي له. فرأس المال لا سقف له، وزيادة الثروة لا حدود لها، وتراكمها بلا نهاية. والظلم فتنة وشقاق وخلاف واتباع للأهواء كما يحدث الآن في لبنان بين الموالاة والمعارضة، وفي فلسطين بين فتح وحماس لأنه تغليب للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وللسلطة على الوطن، وللرئاسة على التجرد، وللدنيا على الآخرة. والربا من مظاهر الظلم وجميع أنواع الربح غير المشروع، وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ. فالربا استغلال لحاجات الناس، وتوليد المال للمال بلا جهد، وأكل أموال الناس بالباطل ظلم، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا، وهو حوب كبير.
واليهود نموذج الشعب الظالم لنفسه ولغيره. لذلك حرَّم الله عليهم ما سألوا عنه، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. طالما أغار على باقي القبائل السامية واستولى على أراضيها وثرواتها كما فعلوا مع الكنعانيين. والظالمون لا أنصار لهم على عكس ما يحدث الآن من مناصرة الولايات المتحدة لإسرائيل وتأييدها العدوان والاحتلال بدعوى الدفاع عن النفس، وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. والظالمون بعضهم أولياء بعض كما هو الحال في تأييد أمريكا لإسرائيل. فأمريكا ظالمة لشعوب العالم احتلالًا وغزوًا أو نهبًا للثروات، وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.
لذلك قامت الشريعة على العدل. وتعديها ظلم، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ، للتخفيف من ظلم البشر بعضهم لبعض وإيجاد ميزان عدل يحكم بينهم.
والظلم يمكن محو آثاره بالتوبة والاستغفار لأنه فعل طارئ على الإنسان. فالإنسان خيِّر بطبعه، والعدل ضمن الخير، إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. وشرط ذلك تغيير الظلم إلى عدل، بالرجوع عن الظلم، وإرجاع الحق إلى المظلوم، وذلك يتطلب يقظة الضمير وسماع صوت الحق. فإن لم تتم التوبة والاستغفار عن الظلم، وظل الظلم على غيِّه وانتهى العمر وأتى وقت الحساب فإنه ينال جزاءَه من العذاب، ولا يمكن أن يفتدي نفسه حتى ولو جاء بمثل هذه الأرض ذهبًا. ويوم الحساب يقوم على العدل المطلق، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
والظلم إيذان بخراب العمران كما لاحظ ابن خلدون من قبل، الظلم ضعف والقوة للعدل. الظلم ريح عاتية تهب على الناس ولا تبقي، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا. لا يبقى الظالمون ويهلكون، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا. تهلك الشعوب والأقوام بالظلم، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا. هذا هو قانون التاريخ. تندثر الأمم بالظلم. وتبقى بالعدل. والظلم مهما طال ينقلب على الظالمين، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. لم يبقَ شعب ظالم. وانتهى فرعون وقومه، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ.
والظلم لا يخيف. ويمكن مواجهته، إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي. فالإنسان ظلوم ولكنه خليفة الله في الأرض. يحقق كلمته، ويطبق شريعته.
وتكون المواجهة بالقول والفعل، بالجهر وبالجهاد، لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ، والساكت عن الحق شيطان أخرس. وأُذن بالقتال للذين ظلموا، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. والهجرة المؤقتة من ديار الظالمين من أجل العودة إليها. فلا هجرة بعد الفتح، وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا. حينئذٍ يكون الظلم شاملًا فتنهار الدول. ولا يجد الظالم من يظلمه إذا غادره الناس، وقاطعوه، وأداروا له ظهورهم.
العدل أساس العمران، والظلم خراب. وإمام كافر عادل خير عند الله من إمام مسلم ظالم.
(٣) العدل
مقاومة الظلم، ظلم النفس وظلم الآخر، هو اقتراب من العدل سلبًا. فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح طبقًا للقاعدة الشهيرة.
وقد ذُكر لفظ العدل ثمانيًا وعشرين مرة، نصفها أسماء، والنصف الآخر أفعال، مما يدل على أن العدل فعل ذاتي وعمل إنساني من ناحية، وقانون موضوعي تقوم عليه المجتمعات بل والسموات والأرض من ناحية أخرى. واشتقاقًا يعني الاستواء والاستقامة والاعتدال. فقد خلق الله الإنسان في أحسن صورة، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ.
وهو لفظ متشابه. يعني معنيين متضادين. العدل «في» وهو توخي الحق. والعدل «عن» وهو الانحراف عن الحق ومجانبة الصواب، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ. والشرك عدول عن الحق، أَإِلَهٌ معَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ.
واصطلاحًا هو كلام الله، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ. فالعدل يتحقق في الأرض، وهو نوع من التصديق التجريبي بصدق الوحي. هو أمر إلهي، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، ومقرون بالإحسان ورعاية الأقرباء. فكلمة السماء تتحقق في الأرض.
والعدل ضد أهواء النفس وظلمها، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا. العدل ثابت، والأهواء متغيرة. العدل موضوعي عقلي، والأهواء ذاتية انفعالية.
ولا يمنع أحد من تحقيق العدل مهما بلغ مقامه وشأنه، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا. فالعدل أقوى من الأهواء والمصالح، وهو أقوى من جماعات الضغط والطبقات الاجتماعية العليا.
العدل والظلم نقيضان لا يستويان، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. الظلم طريق معوج، والعدل صراط مستقيم. بينهما صراع لا حل له إلا بنفي العدل للظلم وقضاء عليه وتعويض له.
والعدل لا يعرف القرابة ولا المصلحة ولا الشفاعة، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى. العدل لا يعرف المصالح الشخصية ولا الشفاعة والتشفع لأحد. هو حكم موضوعي حتى ولو على النفس. ليس تحيزًا لأحد ولا تشفعًا في أحد.
العدل قيمة إنسانية أخلاقية عامة للمؤمن وللكافر على حد سواء. بل إنها تسبق الإيمان والكفر. وحاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم. الأفضل بطبيعة الحال ربط الإيمان بالعدل. وإذا خُيِّر الإنسان بينهما فإنه يختار العدل. العدل قيمة إنسانية عامة، والإيمان قيمة جماعية خاصة.
ولا يتطلب الإيمان بالآخرة. فالعدل قيمة في الدنيا. به تقوم مصالح الناس. والأفضل الإيمان بالآخرة والعدل. فإن خُيِّر الإنسان بينهما فإن إقامة العدل لها الأولوية على الإيمان بالآخرة. بل إن وظيفة الآخرة هو الإيمان بالعدل المطلق إن لم يتحقق على الأرض في هذه الدنيا. فالآخرة تمثل عالم العدل المطلق.
والشرك ظلم والتوحيد عدل لأن الشرك إيمان بمبدأين وهو ظلم. في حين أن الإيمان إيمان بمبدأ واحد وهو عدل. العدل وحدانية النظر والعمل، لا فرق بين الظاهر والباطن. في حين أن الشرك تردد بين مبدأين قد يؤدي إلى النفاق وازدواجية القول والعمل.
والكفارة عدل أي تعويض عن ذنب وتصحيح لخطأ، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ. فالظلم للنفس والظلم للآخر يمكن التعويض عنهما بالكفارة حتى يعيش الإنسان في عالم يحكمه العدل.
العدل مظهر من مظاهر التقوى، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. هو تعبير عن الإيمان الباطني والرضا عن النفس، والإحساس بالمساواة بين الناس، تعبيرًا عن العدل. هو رؤية قبل أن يكون شيئًا، حكم من النفس قبل أن يكون تصديقًا على الأشياء.
والله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى. فالعدل أمر إلهي وقرينه الإحسان أي العدل عن طريق الكرم والمحبة وليس بدافع الغضب والانتقام. ومحبة الناس من محبة الله. والعدل مع الناس عدل مع الله. ومراعاة الأقرباء والجيران جزء من العدل. فالقرابة ليست فقط في الدم بل في المكان وفي الإخوة.
والهدف من النبوة إقامة العدل بين الناس، وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ. فالنبوة قضاء، والقضاء عدل. والشريعة الإسلامية وضعية. لها أسسها في حياة الناس وواقع البشر. وكان اليهود والنصارى يلجئون إلى القضاء الإسلامي لأنه عادل وليس إلى قضاء مللهم.
ويقام العدل بين الأزواج ولو أنه مستحيل مهما كان الزوج حريصًا عليه، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ. والأقرب إلى العدل الزوجة الواحدة، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً. تعدد الأزواج استثناء، والزوجة الواحدة هي القاعدة. والاستثناء اضطرار في حالة السفر والبعد عن الزوج أو الحرب واستشهاد الرجال وزيادة عدد النساء على الرجال أو مرض الزوج أو عقرها. والضرورات تبيح المحظورات.
والعدل أيضًا هو مصالحة بين فئتين متنازعتين، فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا، في حالة رجوع إحداهما إلى الحق. فلا تقتتل الفئات العادلة فيما بينها بل تقتتل الفئات الظالمة أو فئة عادلة مع فئة ظالمة عندما يثوب الرشد، وتصحو النفس، ويستيقظ الضمير.
والعدل قانون تجارى ضد خسارة طرف أو كسب طرف آخر بغير وجه حق، وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ. وقد تكون الكتابة بين الطرفين المتعاقدين مباشرة أو بين طرف ووكيل، أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. فالعدل في الموازين قسط. والعدل في البيع والشراء إرضاء لنفوس الطرفين. فالتجارة تبادل منافع وليست تغلب طرف على طرف أو استغلال القوي للضعيف أو كسب غير مشروع واستغلال.
والعدل هو أساس الحكم بين الناس في أوجه الحياة العامة وليس في التجارة وحدها، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. هو العدل في النظم السياسية والمساواة بين الناس في تطبيق القوانين، وعدم محاباة حزب على حزب آخر أو إيثار طبقة اجتماعية على طبقة أخرى أو ميل لمعسكر على حساب معسكر آخر. فالعدل أساس الملك.
والعدل هو أساس القضاء والحكم في المنازعات، فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ. ويتطلب العدل قاضيين، اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ. العدل شهادة، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلهِ، وهو مفهوم قضائي بالأساس. والقضاء سلطة مستقلة تحتكم إليها السلطتان الأخريان، التشريعية والتنفيذية. والقضاء في الإسلام وقيامه على العدل مشهود له في التاريخ.
والعدل شيم الأمم والشعوب. فأمة موسى أولى بالعدل بما خصها الله بالأنبياء والشرائع، وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. وليس كل أمة موسى بل نخبة منهم، البقية الصالحة. ليس الصهاينة منهم وهم يمارسون أبشع أنواع الظلم على الفلسطينيين. فالوصايا العشر نموذج للعدل القانوني. والموعظة على الجبل في أمة عيسى نموذج للعدل الأخلاقي. والشريعة الإسلامية نموذج للعدل الاجتماعي والإنساني في أمة محمد، وهو نقيض الواقع الحالي؛ إذ إن أمة موسى نموذج العدوان على الآخرين. وأمة عيسى نموذج الاستغلال والهيمنة. وأمة محمد نموذج ظلم الأقوياء للضعفاء، والأغنياء للفقراء.
ولا تعدم البشرية أمة تكون حارسة على إقامة العدل، وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. قد تكون أمة الإسلام أو أي أمة غيرها تقيم العدل. فخير أمة أخرجت للناس هي التي تطبق العدل. هي أمة سلوك وأفعال، وليست أمة أسماء وأقوال.
ورمز الميزان منذ الدين المصري القديم حتى الإسلام هو رمز العدل. فقد وضعت الموازين بالقسط. وعليها قامت السموات والأرض ويوم الحساب.
العدل قيمة تتحقق في الدنيا قبل الآخرة. وإن عاش الإنسان ظالمًا في دنياه وطلب أن يكون عادلًا في الآخرة يكون الوقت انتهى، والعمر قد انقضى. ولا ينفع عدل ولا شفاعة، وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا. فالعدل ابن وقته حتى تسير أمور الناس. فإذا ما انقضى الزمن وانتهى العمر فلا شفاعة في ظالم، وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ. وقد تسبق الشفاعة العدل، وقد يسبق العدل الشفاعة، وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ. وفي كلتا الحالتين يطبق قانون العدل على الجميع. من حققه في الدنيا نجا. ومن حاد عنه هلك.
(٤) الفقر، رذيلة أم فضيلة؟
الفقر قضية رئيسية في الوطن العربي وفي العالم الإسلامي. وكثير من العرب والمسلمين يعيشون تحت خط الفقر. بل إن الملايين يموتون جوعًا في مالي وتشاد والصومال وإريتريا وجنوب السودان. تطعمهم الكنائس والمنظمات العالمية وهيئات الإغاثة الدولية. وفي نفس الوقت تتراكم الثروات من عوائد النفط، وتتضاعف عدة مرات في السنوات الأخيرة. فأصبح في الأمة أفقر فقراء العالم وأغنى أغنياء العالم في آنٍ واحد. ومِن ثَم يصعب الحديث عن «العدالة الاجتماعية في الإسلام» أو «الاشتراكية في الإسلام» بالرغم من ذكر عشرات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنص على الاستخلاف بدلًا من الاستحواذ، والملكية العامة بديلًا عن الملكية الخاصة، الشركة في الماء والكلأ والنار أي الزراعة والصناعة، أهم قطاعين للإنتاج لأن التجارة والسياحة خدمات، والقطاع العام ممثلًا في الإقطاع أي المراعي العامة ملك الدولة والتي للجميع حق الانتفاع بها، والركاز وهي المعادن في باطن الأرض التي لا يجوز للأفراد امتلاكها بل تظل ملكًا للأمة لأن الملكية الفردية للمنقول وليس للثابت. فالواقع أبلغ من النص.
وقد تعرض القرآن الكريم لقضية الفقر في اثنتي عشرة آية في خمسة معانٍ:
-
(١)
ليس الفقر فضيلة بل رذيلة، وليس قيمة بل حِطة. مصدرها الشيطان وليس الله. ويؤدي إلى الفحشاء مثل التسول والذل والسرقة والاحتيال من أجل إقامة أود العيش والحفاظ على الحياة، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ. ومِن ثَم كل ما يقوله الصوفية في فضيلة الفقر وقيمة الفقر ومقام الفقر كله كان رد فعل على تيار البذخ والترف والغنى. فهو نوع من المقاومة السلبية للغني، دون دعوة إيجابية لإعادة توزيع الدخل بما يحقق العدالة الاجتماعية في الإسلام. وفي الأمثال العامية «الفقر حشمة، والعز بهدلة». في حين يروى عن عمر بن الخطاب: «والله لو كان الفقر رجلًا لقتلته».
-
(٢)
ليس الفقر صفة الله كما تصور اليهود لأن الله غني، لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وهو إسقاط من تصور اليهود لله على أنه لا يعطيهم بما فيه الكفاية. ويرد القرآن على هذا التصور اليهودي لله بأن الله هو الغني وأنهم هم الفقراء ويخاطب الناس جميعًا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. ويرد الله عن نفسه تهمة الفقر. ويصف نفسه بالغنى، وأن البخل والفقر من شيم الإنسان، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ. وأن الإنسان فقير لما نزل به الله من خير، فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. والكل فقير إلى الله.
-
(٣)
الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها أي المسئولين عن استثمار أموال اليتامى وفي الرقاب أي الأسرى، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا. الصدقات للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ويجاهدون في سبيله، ويتفرغون لدعوته ولا يأخذون أجرًا كالمجاهدين والعلماء. فمداد العلماء مثل دماء الشهداء، لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وهم المجاهدون. والصدقات للمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مثل الفلسطينيين الذين أجبروا على ترك وطنهم ودورهم وأراضيهم وأموالهم. والعاملين على أموال اليتامى، فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ. فالبؤساء والفقراء لهم أيضًا حق في أموال اليتامى المستثمرة كما أن لهم حقًّا في أموال الأغنياء. ومن كان فقيرًا من الأوصياء فليأكل بالمعروف من أموال اليتامى، وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
-
(٤)
الصدقة ليست مِنَّة من الأغنياء بل هو حق الفقراء في أموال الأغنياء. فالمال مال الله، والإنسان مستخلف فيه. له حق الانتفاع والتصرف والاستثمار. وليس له حق الاستغلال أو الاحتكار أو الاكتناز. الله هو الغني، وهو الذي يوزع الرزق على العباد، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ. وتكون سرًّا من الغني إلى الفقير دون دعاية أو إعلان، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وليس عن طريق التبرعات العلنية عن طريق الإعلانات والجوائز وأوراق اليانصيب وكتابة أسماء المتبرعين على الألواح التذكارية.
-
(٥)
والفقراء والأغنياء عند الله سواء، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا. فالبشر سواء في الخلق. والطبقات الاجتماعية وضع طارئ متغير. الغني اليوم فقير غدًا. والفقير اليوم غني غدًا. لا نفرق بين البشر الذين يوحدهم الخلق. كرامة الإنسان من حيث هو إنسان في ذاته وليس من حيث غناه أو فقره. حقوق الإنسان حقوق طبيعية قبل وضعه الاجتماعي أو بعده. والمساواة في الحق تجب الوضع في المجتمع. لا فرق بين سكان القصور وسكان النجوع، بين المدن والقرى، بين أطفال المنازل وأطفال الشوارع.
(٥) الغنى، رذيلة أم فضيلة؟
في الثقافة الشعبية الغنى رذيلة؛ لأنه مرتبط في ذهن الناس بالبذخ والترف والسفاهة والملذات والفساد والفحشاء. وقد صورت الأعمال الفنية، الرواية والقصة والمسرح والسينما، حياة الأغنياء ومفاسد القصور، وهو ما لاحظه ابن خلدون أيضًا في مقدمته الشهيرة بأن الغنى والترف والبذخ وحياة المدن والاستقرار وما أطلق عليه الحضر في مقابل البدو أحد أسباب انهيار الحضارات.
وقد ذُكر لفظ الغنى في القرآن الكريم بالمعنى الحقيقي في مقابل الفقر أربعًا وعشرين مرة في أربعة معانٍ متمايزة:
-
(١)
«الغنى» صفة من صفات الله وليس الفقر. فالله هو الغني، قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ. فالله غني عن الولد والأب والأم، وهو الغني عن العالمين. لا يحتاج إلى مؤمنين أو كافرين بل هم الذين في حاجة إليه، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. وليس الله في حاجة إلى جهاد المجاهدين، وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ. بل إن الله غني عن الخلق جميعًا والكافرين منهم، إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ. والصفة الأكثر إضافة للغني هي الحميد، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (حوالي عشر مرات). فالمعنى يتضمن الحمد وليس الطمع في المزيد. كما أن الله هو الغني ذو الرحمة، وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ. فالغنى لا يورث القلب القسوة. والأنانية والأثرة بل يفيض على الآخرين. كما يتضمن الغنى الكرم، فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ، والحلم والصبر وحسن اللين والمعاشرة. وما فائدة صدقة يتبعها أذًى، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ. وإذا كان الله نموذجًا للحياة الكاملة كما يقول الصوفية فإن الغنى هو الاستقلال الذاتي، والتحرر من العالم، وهو الحمد والشكر، والرحمة والكرم. الغنى هو الطريق إلى الأخلاق الكريمة، وإلى الفضيلة وليس إلى الرذيلة. الغنى قيمة إذا استُحسن استثماره، ورذيلة إذا كان طمعًا وانكبابًا على الدنيا وأثرة قسوة على الفقراء وبخلًا على المحتاجين.
-
(٢)
والغنى غنى النفس. والفقير فقير بما له، غني بعزته وكرامته لا يسأل الناس إلحافًا. يحسبه الناس غنيًّا لعفته، يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ. أما الغني فإنه أيضًا يستعفف من زيادة الغنى وطلب المزيد من المال، وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ. الغنى غنى الروح والاستغناء عن العالم. المال وسيلة وليس غاية. ومن لديه الكفاية فإن مزيدًا من الغنى هو الطمع والجشع والاكتناز وتحويل الوسيلة إلى غاية.
-
(٣)
ولا يتركز الغنى في أيدى حفنة من الأغنياء، كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ لمنع احتكار الثروة وتحكم رأس المال، واستغلال الأغنياء للفقراء. بل يتم تداول رأس المال لدى أوسع شريحة اجتماعية. فالمال للاستخدام وليس للاكتناز. وتوزيع الثروة على أكبر قدر ممكن من الناس خير من تركيزها في أيدي قلة. الغنى رأس مال للتنمية الاجتماعية وللتصنيع ولإيجاد فرص للعمالة. يتحول إلى أصول منتجة وليس مجرد وسائل للإنفاق وأدوات للاستهلاك.
-
(٤)
ويتطلب الغنى الصرف على الدفاع عن البلاد وتجهيز المقاتلين. فلا يستأذن الغني في التخلف عن القتال حرصًا على ماله وثروته، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ. صحيح أن الدولة الحديثة الآن تقوم بالدفاع عن البلاد، وأن تجهيز الجيوش يتطلب أموالًا طائلة. ومع ذلك يستطيع الأغنياء إعداد الدفاع المدني، وإقامة المخابئ، وشراء عربات الإسعاف، وتجهيز المستشفيات. ويستطيعون إعداد المقاومة الشعبية إذا لزم الأمر بشراء الأسلحة الخفيفة وإقامة المتاريس، والستائر الرملية، والحوائط العازلة، وتنظيم المرور. وليس الاستفادة من العدو بالتجارة معه في الحديد والأسمنت والموز والمواد الاستهلاكية لمزيد من الإثراء كما كانت تفعل طبقة الأغنياء في كل عصر بالتعامل مع قوات الاحتلال.
مبادئ بسيطة يمكن استنباطها من تحليل لفظ «الغنى» في القرآن الكريم ولكنها موجهة لشئون البلاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وفي مقدمتها بناء الوعي الذاتي، دعامة كل شيء.
(٦) المساكين
الحديث عن المهمشين لا يخص الفلسفة المعاصرة وحدها خاصة عند فوكو، ونحن ننقل كلامنا عنها منه بل يكثر القرآن الحديث عنهم، عن المساكين والمحتاجين واليتامى وأبناء السبيل والفقراء، ويجعل لهم الحق في الطعام والمال والرحمة والقرابة، والعمل، ونزع عداوة الأغنياء لهم وليس فقط في الصدقة والكفارة، في الفعل الحسن أو التكفير عن الفعل السيئ.
- الأول: «الإعالة للمساكين حق في بيت المال». فمن واجب الدولة رعاية المساكين ورعاية المحتاجين. وإذا كان أحد مصادر بيت المال الغنائم فللمساكين حق فيه مثل حق الله والرسول واليتامى وذي القربى، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. ويكون ذلك الآن بعدة أشكال من الضمان الاجتماعي والتأمين الطبي والإعانة الاجتماعية للسكن والتعليم والدعم الغذائي. فالمسكين ابن الدولة وليس عالة على الصدقة.
- والثاني: «القرابة». فالمسكين مثل القريب، شأنه شأن ابن السبيل. له حق في بيت المال دون تبذير وإسراف، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. ودرجته في القرابة مثل اليتامى وكلاهما بمنزلة الوالدين ووجوب الإحسان لهم. وحسن معاملة الكل مظهر من مظاهر العبادة لله، لا تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. والإنفاق على الوالدين مثل الإنفاق على الأقرباء والمساكين، قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وبالرغم من حب الإنسان للمال إلا أن للمساكين واليتامى حقًّا فيه مثل ذوي القربى، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ. وهؤلاء هم أولو الفضل والسعة من الناس الذين يشعرون بالمساكين وأنهم بمنزلة الأقرباء منهم، وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ. فإذا زاد المال اتسعت المساحة الاجتماعية. وإذا تراكمت الثروة رأسيًّا عمت المساكين أفقيًّا، بل تصل مرتبة المسكين حد القسمة في الميراث مثل القريب، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ. وللوصي أن يتصرف في الثلث من أجل إدخال اليتامى والمساكين مع الأقرباء.
- والثالث: «الإطعام». فالمسكين لا يجوع. وحق الحياة جزء من حقوق الإنسان. والجوع سبة في تاريخ البشر. فمن الجرائم عدم إطعام المسكين مباشرة، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وعدم الحض على إطعام المسكين، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وعدم تذكير الناس بعضهم بعضًا بذلك، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. وإطعام المسكين كفارة لذنوب مما يدل على أن جوع المسكين ذنب في رقبة المجتمع، فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، وهو كفارة لمن لم يستطع الصوم، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وقد لا يتحدد العدد بعشرة أو ستين ويترك لفعل الإطعام الجماعي، أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا، وهو فدية لجرم، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ. وبالرغم من حب الإنسان للطعام إلا أن للمسكين واليتيم والأسير حقًّا فيه، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. فهو جزء من تربية الذات من الأثرة إلى الإيثار، ومن الأنانية إلى الغيرية.
- والرابع: «الصدقة». فالصدقة واجبة للمساكين على الأغنياء، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ. وجوبها على الفقراء والأسرى. والصدقة ليست تصدقًا بل هي حق الفقراء في أموال الأغنياء. وهي أقل المعاني ورودًا في استعمالات اللفظ.
- والخامس: «العمل». فللمسكين حق العمل حتى لا يعيش على الصدقة بل يكسب قوته بيده، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، وهو معنى المثل الشعبي الشهير أن تعلم الصيد أفضل من سمكة صدقة. وبالرغم من تفسير الصوفية لذلك تفسيرًا باطنيًّا في قصة موسى والخضر إلا أن المعنى الشرعي الظاهري هو المقصود.
- والسادس: «تكتل الأغنياء ضد المساكين ورفضهم الدخول في مدينتهم، والمشاركة في
أموالهم»، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ
مِسْكِينٌ. فالتآمر لا يكون من الفقراء والمساكين ضد الأغنياء على
ما هو معروف في الأدبيات الماركسية وثورة البروليتاريا، بل تآمر الأغنياء
على الفقراء، وحق الفقراء في الدفاع عن النفس ومطالبتهم بحقوقهم في بيت
المال وفي أموال الأغنياء. وعلى الإنسان أن يقتحم العقبة ومقاومة النفس
وتحرير العبد وإطعام الجائع واليتيم والمسكين، فَلا
اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ
* فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ.
ومن نفس الاشتقاق «المسكنة» بمعنى الذل والإذلال وهو أحد المعاني السلبية للمسكين، والمسكون والمساكن والسكن أي الإيواء وهو حق المسكين. والسكينة وهو ما ينزل على قلب المسكين من اطمئنان لوقوف المجتمع إلى جانبه، وسكين أي العنف الذي قد ينتج من ترك المهمشين مثل المساكين والفقراء واليتامى وأبناء السبيل والمحرومين هُمَّل في المجتمع وسط الأغنياء والمترفين.
(٧) اليتامى
وهم من ضمن المهمشين الذين وضعهم القرآن مع المساكين، اليتامى. فقد ورد لفظ «اليتيم» ثلاثًا وعشرين مرة، جمعًا أربع عشرة مرة، ومفردًا ثماني مرات، ومثنى مرة واحدة مما يدل على أن اليتيم أكثر من فرد بل مجموعة، أي فئة أو طبقة من الناس قبل أن يكونوا أفرادًا أو فردين.
- الأول: إكرام اليتيم، كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. ويتمثل إكرام اليتيم في عدم قهره ونهره وسوء معاملته، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وقهر اليتيم ونهره كفر بالدين وتكذيب به. فالدين ليس إيمانًا بعقائد نظرية بل سلوك فاضل وعمل صالح وحسن معاملة، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ. وإذا سئل عن اليتامى فالخير والإصلاح لهم، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ. ومن حق اليتيم المأوى والرعاية في كنف الأسرة، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى. وإذا كان ليتيمين جدار يحتميان به فلا يجوز تحطيمه، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ. حتى ولو كان ذلك حكم ظاهر الشرع دون باطنه، وحاضره دون مستقبله.
- والثاني: اليتيم في درجة القرابة، عضو في الأسرة. والوصي عليه حاميه وراعيه. ورعايته مثل البر بالوالدين والأقارب. وكلاهما مظهر من مظاهر عبادة الله، لا تَعْبُدُونَ إِلا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى. والإنفاق على الوالدين والأقربين يمتد إلى الإنفاق على اليتامى، قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. ولهم نصيب في الميراث عند القسمة، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ. والوصي مثل الأب يجعل لليتيم جزءًا من ميراثه مع أبنائه في وصيته، في الثلث الخاص به.
- والثالث: عدم الاقتراب من مال اليتيم والمحافظة عليه واستثماره وزيادته وأخذ الأجر المناسب على ذلك مكافأة على الجهد أو التنازل عنه، وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. فإذا بلغ اليتيم سن الرشد رد إليه أمواله، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ. فأخذ مال اليتيم ظلمًا وحوبًا كسب غير مشروع، والاستيلاء على أموال الغير بغير حق، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا. ولا فرق في ذلك بين اليتامى واليتيمات. بل إن اليتيمات أولى لأنهن أضعف جناحًا وأقل قدرة وخبرة في استثمار الأموال، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ، وكذلك المستضعفون من الولدان وضرورة إدارة أموالهم بالعدل والقسطاس، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ.
- والرابع: إعالة اليتامى من بيت المال إن لم يكن لديهم أموال، فهم مثل المساكين لهم حق في بيت مال الأمة. وواجب الجماعة إعالة الأفراد. لهم حق في الخمس طبقًا لقسمة الغنائم، وهي أحد المصادر الرئيسية لبيت المال، فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى، وهو جزء من حقوق الله. فحقوق البشر من حقوق الله.
- والخامس: الإطعام مثل المساكين. فالجوع سبة في وجه الأمة وخرق لحقوق الإنسان، حق الحياة، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ. وما أكثر حالات التصحر والجفاف في بلاد المسلمين. وما أكثر الجوعى في الأمة الذين يصلون بالملايين في الصومال والسودان وتشاد ومالي والحبشة وغينيا وفي بنجلادش وكثير من البلدان الأفريقية والآسيوية. ومقياس الإيمان هو إطعام اليتامى مع المساكين والأسرى ومقاومة هوى النفس والرغبة في الترف، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا.
- والسادس: الزواج من اليتيمات بدلًا من حجزهن لدى الوصي طمعًا في أموالهن، وهو أحد أسباب تعدد الزوجات. فإذا ما كبرت اليتيمة وظهر جمالها رفض الوصي تزويجها للاحتفاظ بمالها. فأخف الضررين زواجها مع الاحتفاظ بمالها وهو ما قد يصعب أحيانًا لأن الوصي بمثابة الأب، واليتيمة بمثابة الابنة، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ. فالوصي وصي حتى إذا بلغت اليتيمة سن النكاح فإنه يتخلى عنها وعن مالها لزوجها أو يتزوجها هو نفسه، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.
وقد كان الرسول يتيم الأب ثم يتيم الأم ثم يتيم الخال حتى كفله عمه. وأعطته أسرته الرعاية والحماية ودافعوا عنه مثل الأبناء المباشرين. فالأسرة والمجتمع والدولة والأمة دوائر متدرجة لرعاية اليتامى والمساكين والمحرومين والمحتاجين والفقراء، بداية من الأسرة والقرابة ونهاية بالدولة والأمة. أما اشتراك الدولة والأمة في حصار المرضى والجوعى والمساكين والمحرومين والسائلين كما يحدث في غزة الآن فإنه ضد الإسلام ومنافٍ للشريعة، وإيثار للدنيا على الدين، وتضحية بمصالح الأمة بلا ثمن إلا التبعية والخوف، والصمت والتواطؤ، والذلة والمسكنة، والرضا بالدنية في الدين. وفي الأمة الإسلامية اليوم تتراكم الثروات عند الأقلية ويعم الفقر واليتم والجوع والعطش لدى الأغلبية. والأمة واحدة، تعبد إلهًا واحدًا، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، ولكنها لا تتقيه، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ.
(٨) ابن السبيل
ومن ضمن المهمشين مع المساكين واليتامى والمحرومين والسائلين والمحتاجين والجوعى والعطشى والفقراء ابن السبيل. وقد ذُكر اللفظ في القرآن ثماني مرات في صيغة المفرد وحده. فالعابر والمسافر والغريب عادة ما يكون فردًا. وقد ورد بأربعة معانٍ: القريب، والجار، ومن يستحق الصدقة وتخفيف العبادات.
- الأول: «القرابة»، فابن السبيل مثل المسكين واليتيم له حق في بيت المال، وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. لذلك بنى القدماء ينابيع للشرب لابن السبيل له ولدوابه. كما بنى الخلفاء المسافر خانة لعابري السبيل تجارًا وعلماء للتبادل التجاري أشبه بالغرف التجارية الصورية اليوم للعقود وليس للإقامة والتبادل التجاري الفعلي، وهو حق وليس مجرد صدقة، وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. فالتبذير إسراف وسفه وإنفاق المال على الكماليات لفرد واحد في حين تنقص فردًا آخر الضروريات والحاجات الأساسية. والإنفاق يكون على الوالدين والأقرباء واليتامى والمساكين وأبناء السبيل، درجة واحدة من القرابة وفي نفس درجة الترابط الاجتماعي، قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. ويكون الإنفاق عن طواعية بالرغم من حب المال، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.
- والثاني: «الجوار أو الجيرة بلغة العصر»، فابن السبيل جار، ذو جنب بمصطلح القرآن، يجاور الناس وإن كان جوارًا عابرًا غير مستقر، دائمًا وثابتًا، وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا. فالعناية بالجار جزء من الإيمان بالله مثل رعاية الوالدين. والجار قد يكون جارًا في السكن وقد يكون جارًا في الطريق. وابن السبيل في نفس الدرجة، جار في المكان وفي الطريق، وما ملكت الأيمان وهو ما لم يعد له وجود بعد نهاية الرق وتحرير العبيد.
- والثالث: «الصدقة»، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ. فالصدقة استحقاق لمجموعة من المهمشين بما فيهم ابن السبيل مثل الفقراء والمساكين والموظفين والأقليات والأسرى والمدينين والصالح العام. وهي ليست تصدقًا بل واجبًا دينيًّا أخلاقيًّا، وحقًّا، حق الفقراء في أموال الأغنياء لإعادة توزيع الدخل القومي بما يحقق أكبر قدر ممكن من العدالة والمساواة.
- والرابع: «تخفيف العبادات وشروطها على عابر السبيل»، وهو تعبير آخر مثل ابن السبيل. الفرق في الحركة. فعابر السبيل متحرك دائمًا، مسافر من مكان إلى مكان. في حين أن ابن السبيل قد يكون قد استقر في موطن للاستراحة. فيُعفى عابر السبيل من الاغتسال من الجنابة نظرًا لصعوبة توافر المياه، وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا. فالضرورات تبيح المحظورات طبقًا للقاعدة الفقهية.
أما اليوم، وفي هذا العصر فقد ضاعت القرابة، وانفكت الأواصر الأسرية. فالابن يقتل والديه من أجل الحصول على شقتهما أو أموالهما. وقد يقتل أخاه أو أخته لنفس السبب. والجار قد يقتل جاره لخلاف على حائط أو ماء أو زرع أو شجار بين الأولاد. وفي الأسرة الواحدة يوجد الفقراء والأغنياء، المستقرون والمهاجرون عابرو السبيل. وكل فريق خائف من الفريق الآخر. وفي المنزل الواحد يسيء صاحبه معاملة الخادم أو الحارس أو البواب مع أنه جاره الذي يحرص على راحته ويعمل على حمايته. وفي الشارع الواحد العمارات الشاهقة والأبنية العالية بجوار الأكواخ وبيوت الإيواء.
ويعاني المهاجرون من نفس الوطن من سوء المعاملة مثل هجرة أهل جنوب الوادي إلى الشمال، والصعايدة إلى البحاروة، وأهل البدو إلى أهل الحضر، وأهل الريف إلى أهل المدن. ينشأ الصراع إلى درجة القتال بين المهاجرين والمستقرين. ويعاني المهاجرون الفلسطينيون والعراقيون والسودانيون والصوماليون وكلهم عرب مسلمون من الأوطان التي يهاجرون إليها في الإقامة والسكن والحصول على وظائف أو إعانات مالية أو تسهيلات وحلول للمشاكل الحاصلة. لا أوراق هوية، ولا بطاقات شخصية ولا إقامة شرعية، ومهددون بالترحيل في أي وقت إن نشطوا سياسيًّا أو اعترضوا على أوضاعهم. وتغلق الحدود بين الدول المتجاورة بسبب ما بينها من حدود مصطنعة، والشعب واحد، واللغة واحدة، والثقافة واحدة دون رعاية للجوار. بل ينشب القتال بين دولتين جارتين مثل المغرب والجزائر أو تقطع العلاقات بين مصر وإيران أو يحاصر شعب غزة وهو جار مصر. وتهدم المنازل والأكواخ لإقامة البنايات الشاهقة و«المولات». وتوضع السياجات وتشيد الحوائط حول المنتجعات والمدن الجديدة التي يقطنها الأغنياء الجدد والتي لا تحمي من الاعتداء عليها من المهمشين. ويحدث نفس الشيء في العلاقات بين الدول التي تغلق حدودها في وجه المهاجرين فيغرقون بحرًا، ويقبض عليهم أرضًا، وتقام لهم معسكرات الاعتقال للترحيل إلى بلادهم. والهجرة شرعية وقانون طبيعي، إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا. فابن السبيل ضاقت به الأرض، وعز لديه الاستقرار. ولا مكان له إلا قلوب المسلمين وأوطانهم.
(٩) المحرومون والسائلون
- الأول: حق المحروم في أموال الأغنياء، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. فالأمة واحدة. وما بين أيديها مستخلفة فيه. للإنسان حق الانتفاع والتصرف والاستثمار، وليس له حق الاستغلال والاحتكار والاكتناز. وجود أغنياء وفقراء في المجتمع الواحد شرك بالله لأنه إيمان بحقيقتين ومجتمعين.
- والثاني: الفقد. فتحطيم الزرع فقد للثروة، وضياع للأصول، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ إثر الكوارث الطبيعية وعدم أخذ الحذر من أن ما ينتجه الإنسان هش، عرضة للضياع.
- والثالث: الضلال، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ عندما يظن الناس أن ما ينتجون من زرع ليس عرضة للتلف، وأنه من الأفضل إعطاء المسكين والمحتاجين منها بدلًا من منعهم عنها فيأتيها الخراب من السيول أو الجفاف، بالغرق أو الحرق.
وقد أتى لفظ «حرام» من نفس الاشتقاق. فالحرام منع النفس عن الهوى والضرر. كما أن المحروم ممنوع من حاجاته. الحرام الأول إيجابي لأنه حماية للنفس، والحرمان الثاني سلبي لأنه نقص في الحاجات. وفي سلوكنا اليوم طغى المعنى السلبي على الإيجابي بالإكثار من الحرام وعدم رعاية المحروم. وفي الأعمال الفنية هناك فيلم «الحرام» ولا يوجد فيلم عن «المحروم». وقد يقترف المحروم أحيانًا الحرام كي يقيم أوده. والضرورات تبيح المحظورات.
- الأول: «حق السائل في أموال الغني»، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أسوة بالمحروم. وبالرغم من أن السؤال طلب ولكن الحق يُعطى دون طلب تعففًا من السؤال. ويتكرر نفس المعنى في آية أخرى، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ في قضية خبرية وليست إنشائية إقرارًا لواقع، وليس تمنيًا لواجب.
- والثاني: «تكريم السائل وحسن معاملته وعدم نهره»، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. فالسائل صاحب حق، والمسئول عليه واجب. السؤال اتجاهٌ نحو الآخر، والمسئول اتجاهٌ مقابلٌ نحو السائل تأكيدًا للتضامن الاجتماعي ولوحدة الأمة الإسلامية.
- والثالث: «مقاومة هوى النفس وشحها من أجل الكرم مع السائل». فالنفس مجبولة على الأثرة وفي حاجة إلى جهد من أجل تحولها إلى الإيثار، وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ. فالسائلون مثل الأقرباء واليتامى والمساكين وابن السبيل والأسرى.
- والرابع: «المساواة في معاملة السائلين وفي العطاء لهم وإطعامهم دون تفضيل واحد
على آخر». أسوياء في السؤال وأسوياء في العطاء، وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً
لِلسَّائِلِينَ. هكذا فعل الله عندما خلق الأرض وجعل فيها رواسي
وبارك فيها الرزق والقوت، وخلق البشر وجعلهم فيها سواءً.
ومن نفس الاشتقاق يأتي «السؤال» و«التساؤل» و«المسئول». والسؤال معرفي للعارف. والتساؤل مطلب ذاتي. والمسئول هو الذي يتحمل المسئولية والوفاء بالعهد وبالوعد وبالشهادة وبتحقيقها.
ويكثر عدد الشحاذين يومًا عن يوم في البلاد الإسلامية الفقيرة. يقفون في الشوارع وعلى نواصي الطرقات، في البرد والعراء، وفي الصيف والقيظ. تتركهم الدولة بلا رعاية أو تقبض عليهم باعتبارهم مجرمين يسيئون لسمعة مصر، ويشوهون صورتها أمام السياح الأجانب. ويتفننون في أساليب الشحاذة واللبس والماكياج والعرج والعمى والسير استنادًا على الابن أو البنت أو الجلوس على كرسي متحرك، وعصب العينين، وربط الرأس والتلعثم في النطق لإثارة الشفقة لسائقي العربات الفارهة وهم يتنقلون بينها في إشارات المرور. وكُتبت الأعمال الأدبية لتصوير أحوالهم، مثل «شحاذون ونبلاء»، تبين الجوانب الإنسانية الإيجابية فيهم بالرغم من ظروفهم الاجتماعية السيئة. ومثل «الشحاذ» عن السائل عن معنى الحياة وليس فقط السائل مثل «فريديانا» الذين يتحولون إلى أسياد، ويحاولون سلوك الأسياد، ولكن الطبع يغلب التطبع، والأصل على الفرع.
وقد نقد محمد إقبال من قبل فلسفة السؤال ويعني الشحاذة، من يسير في الطرقات مادًّا يديه إلى السماء حتى يرزقه الله من حيث لا يحتسب دون أن يعمل بيديه في الأرض ليأكل من عملها وإنتاجها. ويريد توجيه أعين السائل من السماء إلى الأرض، من الخالق إلى المخلوق، ومن السائل إلى المسئول.