الدين والمنفعة
(١) هل المنفعة ضد الدين؟
يظن الناس خطأً أن المنفعة ضد الدين، وأنها مرتبطة بالمادية والأنانية والطمع في الدنيا. وهذا غير صحيح، فقد ميز الفلاسفة بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة. الأولى أقرب إلى الأثرة، والثانية أقرب إلى الإيثار. الأولى في حالة إعطائها الأولية على الثانية رذيلة. والثانية في حالة إعطائها الأولوية على الأولى فضيلة.
وقد ذُكر لفظ «المنفعة» ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي خمسين مرة. فهو موضوع رئيسي. وتدور كل الآيات حول ثلاثة محاور: أن المنفعة أساس الدين، وأنها مقياس صحة الإيمان، وأن الدين هو الحفاظ على منافع للناس في حياتهم وفي دنياهم. ويتجلى المحور الأول في سبعة معانٍ:
-
(١)
«المنفعة أساس الدين، وكل إيمان ينفع صاحبه، وكل إيمان لا ينفع ليس إيمانًا»، فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ. والإيمان في الدنيا قبل الآخرة حتى يمكن الانتفاع به. إذ لا ينفع إيمان بعد انقضاء الزمن ونهاية العمر وفوات الأوان، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا. ولا ينفع إيمان في الآخرة بعد كفر في الدنيا، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ. ولا ينفع الإيمان السطحي القائم على الخوف، فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا، بل الإيمان عن صدق واقتناع وتجربة.
-
(٢)
«والذكرى للنفع» فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى. الذكرى نافعة إذا ما غاب الإيمان وتوارى أمام أهواء البشر، وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، ولا يوجد ضمان للذكرى، فقد يكون القلب قاسيًا، والمصلحة طاغية، والبصيرة عمياء، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى. وقد لا يفيد النصح كما لا تفيد الذكرى، وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ.
-
(٣)
«ولا تنفع الشفاعة إلا بإذن الله وقبل التوبة»، يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا. فلا شفاعة إلا بعد حسن النية وطيب القول. ولا تنفع الشفاعة مع الإصرار على الذنوب واستمرار المعاصي، وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. لا تنفع شفاعة الشافعين لمن لا يستحقون الشفاعة، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، فالشفاعة ليست ضد الاستحقاق بل الاستحقاق شرطها.
-
(٤)
«ولا ينفع الظلم في الدنيا ولا في الآخرة». فالظلم سلب الناس حقوقهم والاستيلاء عليها بغير وجه حق، فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ. يرفع الظلم عن المظلومين أولًا في الدنيا حتى ينفع الاعتذار والعتاب في الآخرة، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. فالظلم لا عذر عنه، وبالتالي لا عفو عنه. وينال الظالم جزاءه، وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ، فالدنيا أساس الآخرة، والعمل في الدنيا معيار الجزاء في الآخرة، مقدمة ونتيجة، علة ومعلول، سبب ومسبَّب.
-
(٥)
«والصدق في الدنيا نافع في الآخرة»، قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ، فالصدق تطابق المقدمات مع النتائج، والأقوال مع الأفعال، بعيدًا عن النفاق وازدواجية الشخصية. الصدق هو تطابق الإنسان مع ذاته تأكيدًا لوحدة شخصيته وتصديق الناس له.
-
(٦)
«والموت حق، ولا ينفع الفرار منه»، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ. المنفعة عمل عاقل وليست خوفًا من الضروري. المنفعة ثقة بالنفس وثبات ويقين وليست هروبًا من الواقع. المنفعة مواجهة وقبول ورفض، تحدٍّ واستجابة، تقدم وتقهقر، سبق واستباق.
-
(٧)
«ولا ينفع مال ولا بنون في الآخرة»، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ. فالمسئولية فردية والجزاء فردي. ولا ينفع الأولاد ولا الأقارب لأن الأفعال فردية ونتائجها على من يقوم بها، لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ويستوي الآباء والأبناء في عدم نفعهم في الآخرة، آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا. فالأب ابن لأبيه كما أن الابن ابن لأبيه. الأولاد ذو نفع في الدنيا وليس في الآخرة. لذلك استبقى فرعون موسى الطفل لعله ينفعه في ملكه، أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا. ولم يأمر بقتله بالرغم من نبوءة ضرورة التخلص من كل الأطفال حفاظًا على ملكه من الانقلاب عليه، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا.
المنفعة إذن شيء إيجابي بهذه المعاني السبعة. ليست موضع اتهام إلا إذا لم تتوافر فيها شروطها. ويسرع في الحكم من يظن أن المنفعة هي بالضرورة الأنانية كما يروج لها المثاليون السذج وأصحاب ما ينبغي أن يكون ضد ما هو كائن. النافع هو الذي يمكث في الأرض، وما دونه يذهب جفاء، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ.
(٢) المنفعة مقياس صحة الإيمان
ليست المنفعة فقط أساس الدين بل هي مقياس صحة الإيمان، فالإيمان النظري المجرد لا نفع منه، ليس إيمانًا، مثل العلم الذي لا ينفع «أعوذ بالله من علم لا ينفع». ليست صحة الإيمان نظرية بل عملية «والله لو آمن أحدكم بهذا الحجر أن ينفعه لنفعه»، الإيمان ليس أقوالًا بل أفعالًا. ليس تصورات ونظريات بل عمليات وتحقيقات. ليست له صحة نظرية في ذاته بل صحته عملية «الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل».
وثلث آيات القرآن عن المنفعة تصب في هذا المعنى في خمسة أبعاد:
-
(١)
«لا يكون الدعاء إلا لمن يجلب المنفعة ويدفع الضرر»، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ. ويستهجن القرآن من يفعل ذلك لأنه خبل وجنون، قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا، وهو مناقض للعقل والحس السليم، يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ. وكيف يدعو الإنسان ما لا يسمع مثل الأصنام وهي لا تنفع ولا تضر، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، وتزداد البلية ويعظم الكرب إذا دعا الإنسان ما يضره ولا ينفعه، يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ.
-
(٢)
«ولا تكون العبادة إلا لمن يمتلك المنفعة أو الضرر»، أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ، وكيف يعبد الوعي الذاتي الشيء المصمت الخالي من الوعي؟ العبادة تراسل وحوار، تساؤل واستجابة ولا تكون بين وعيين، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. ومرة تبدأ الآية بالضرر قبل النفع طبقًا للمبدأ الأصولي «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». ومرة تبدأ بالنفع قبل الضرر، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ. ويتأكد نفس المعنى بملك النفع والضرر أي القدرة عليهما وليس مجرد النفع والضرر العرضيين، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا.
-
(٣)
«ومع الدعاء والعبادة يأتي العلم، فمن مقتضياته عبادة من ينفع أو يضر». ومن الجهل عبادة من لا ينفع ولا يضر. والأخطر تعلم ما يضر وما لا ينفع، وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ، وهو الجهل المزدوج، العلم بإضرار النفس وليس بنفعها. فالعلم أساس الإيمان، والإيمان يقوم على العلم، وكلاهما يتفقان على استحالة عبادة من لا ينفع أو يضر، وبالأولى من يضر دون أن ينفع.
-
(٤)
«وكيف يعبد الإنسان ما لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، حجرًا أصم؟» قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا. كيف يعبد الإنسان ما لا يستجيب له ولا يرد عليه سؤاله ولا يملك له ضرًّا ولا نفعًا، أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا. ولو اجتمعت الأصنام كلها فإنها لا تملك لأنفسها ضرًّا ولا نفعًا، وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا طبقًا لقياس الأولى. كيف بمن لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا أن يضير أو ينفع غيره؟
-
(٥)
«الله وحده هو الذي يملك النفع والضرر لخلقه وليس الإنسان»، قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللهُ. وتتكرر الآية مرة أخرى لتأكيد المعنى، ولا يملك الناس — حتى ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا — لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا، ويسأل القرآن إن كان هناك أحد يملك للبشر نفعًا أو ضرًّا، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا.
فإذا كانت المنفعة مقياس صحة الإيمان فإن الضرر مقياس بطلانه. الإيمان إذن ليس خطابًا في قنوات الفضاء، وليس دعوة نظرية وقولًا بليغًا مغلقًا على ذاته عند الدعاة الجدد. صحته في منفعته. وبطلانه في ضرره. وكم من إيمان ضار عند المسلمين. وكم من إيمان نافع عند غيرهم.
(٣) الدين ومنافع الناس
أتى الدين لتحقيق المصالح العامة بتعبير الأصوليين الفقهاء، ومنافع الناس بتعبير القرآن الكريم. وقد ورد لفظ «منافع» في القرآن ثماني مرات بسبعة معانٍ:
-
(١)
تتداخل المنافع والمضار، فلا ضرر إلا وبه منفعة، ولا منفعة إلا وبها ضرر، والقضية هي النسبة والكم، هل الضرر أكثر من المنفعة وبالتالي يكون مكروهًا، أو هل المنفعة أكثر من الضرر وبالتالي يكون مندوبًا، ففي إحدى مراحل تحريم الخمر يأتي الحكم على أن بها إثمًا كبيرًا ومنافع للناس، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس، ثم التنبيه على أن المضار أكثر من المنافع، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا. المنافع الكسب والتجارة وبعض الانتشاء والطرب عند الندماء والشعراء والظرفاء، والمضار في الصحة وذهاب العقل حين السكر وفقدان القدرة على التحكم في الأفعال، وإيذاء الآخرين، وضياع المال، والإدمان. وقد حرَّمها بعض الأتقياء على نفسه. وجعل المكروه حرامًا قبل أن يأتي حكم الاجتناب في القرآن، والتحريم في السنة.
-
(٢)
ما ينفع الناس هو ما يمكث في الأرض وما دونه يذهب جفاء، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ. فالمنافع هي الباقية، وكل ما في الأرض منفعة للناس. المنافع هي الأصل، والأضرار هي الفرع. المنافع هي الثابت، والأضرار هي المتحول. وهي نفس العلاقة بين الخير والشر، بين الحسن والقبيح، بين الصدق والكذب، بين الإيمان والنفاق.
-
(٣)
المنافع قضاء لحاجات البشر وما تتطلب الدوافع والبواعث البشرية، وإلا أصبح الإنسان فريسة الكبت والحرمان، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ. المنافع تحقيق للوجود الإنساني وتثبيت لدعائمه في الأرض. هي علاقة بالطبيعة وبالعالم. هي التي تدفعه إلى العمل والإنتاج. المنافع إثبات الذات، وتحقيق مطالب البدن. وقد تحدث علماء النفس عن «الحاجات الأساسية» التي يجب توافرها للبشر. وهي معيار الرفاهية وما يسميه علماء الاقتصاد «خط الفقر». وهي حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب والكساء والإيواء والعلاج والتعليم.
-
(٤)
والمنافع أصل العبادات، مثال ذلك الحج، فيه منافع للناس في التجارة والتبادل والتعارف بالإضافة إلى ذكر الله، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ، وقد كان الرسول يقابل الناس وقت الحج ليبلغهم دعوته. وكانت أسواق للتجارة والشعر قبل الذهاب إلى البيت العتيق، لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ويمكن أن يقال نفس الشيء على باقي أركان الإسلام، فالشهادة صدق وشجاعة وشهادة على العصر، واعتراف بأن ضمير الإنسان حر لا يخضع لآلهة العصر المزيفة من مال وجاه وشهرة وسلطة «لا إله». ولا ينتمى إلا إلى المبدأ الواحد الذي يتساوى أمامه الجميع «إلا الله»، سلب وإيجاب، نفي وإثبات. والصلاة حفاظ على الأعمال في أوقاتها، ونظافة في الوضوء، ورياضة في الركوع والسجود، وتذكير بالله خلال النهار حرصًا على الفضيلة، ومنعًا من السوء. والصيام صحة للبدن، ومشاركة للفقراء. والزكاة حق الفقراء في أموال الأغنياء، وتداول رأس المال واستثماره لصالح الجماعة.
-
(٥)
المنافع في الأرض للطعام والشراب، وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ. تنبت الأرض الخضرة والفواكه. ومنها تتفجر العيون عليها وتجري الأنهار، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.
-
(٦)
والحيوان جزء من الأرض، به منافع الإنسان في الطعام والانتقال والادثار، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وهو ما يسمى في الاقتصاد بالثروة الحيوانية. وقد كانت المصدر الأول لثروة العرب، الجمال والخيل والضأن والماعز. وطالما تغنى بها الشعراء ورسمها الرسامون، جمل الصحراء والحصان العربي.
-
(٧)
والحديد أيضًا به منافع للناس، فمنه تُبنى المنازل، وتقام الطرق، وتُشيَّد الجسور، وتُصنَع الأدوات المنزلية. ومنه أيضًا يصنع السلاح للدفاع عن النفس، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فالحديد للسلم والحرب، للبناء وللدمار، للعمران وللخراب، للراحة وللتعب، للنعيم وللعذاب. استعمله ذو القرنين للدفاع عن الحق. ويستعمله هامان وفرعون لتشييد القصور والقلاع والاستعلاء على رقاب الناس.
الدين إذن ليس كلامًا ودعوة وموعظة وبلاغًا وبيانًا وقولًا وخطابًا فقط بل هو تحقيق المصالح العامة ومنافع الناس.
(٤) الإيمان ينفع ولا يضر
يظن البعض خطأً أن جلب المنفعة ودفع الضرر مجرد نفعية لا تصح في الإيمان، فالإيمان أعلى وأنقى وأطهر من هذا المعيار. الإيمان خالص لوجه الله. والغرب وحده هو الذي جعل جلب المنفعة ودفع الضرر مقياس الحقيقة على ما هو معروف في البرجماتية أو الذرائعية الأمريكية، فالحقيقي هو النافع والباطل هو الضار.
والحقيقة أن جلب المنفعة ودفع الضرر تجربة إنسانية طبيعية وأحد مقاييس الحقيقة سواء كانت الإيمان بالله أو الدفاع عن النفس أو العلم أو تجاوز الله في هذا المقياس باعتباره متعاليًا يمثل الخالص، فالمنفعة والضرر ينطبقان على الحياة الإنسانية والعلاقات الاجتماعية أي على علاقة الإنسان بنفسه وبالآخرين وليس علاقة الإنسان بالله.
- الأول: أن دفع الضرر أحد مقاييس الإيمان. فالإنسان لا يعبد ما لا ينفعه ولا يضره، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ، ويتكرر نفس المعنى عدة مرات، ومن يفعل ذلك يكن موضعًا للسخرية، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ بداية بدفع الضرر، وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ بداية بجلب المنفعة؛ لذلك رفض إبراهيم عبادة الأصنام لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تستجيب لدعاء، هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون. لا يعبد الإنسان الأصم والأبكم، ما لا ينفع ولا يضر، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّك في صيغة المخاطب والسؤال، قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا في صيغة استهجان من موقف النفس لدعاء من لا ينفع ولا يضر.
- والمعنى الثاني: هو أن الإيمان يعود بالنفع على الإنسان وليس على الله، ويمنع الضرر عن الإنسان وليس عن الله، فمن ينقلب على عقبيه لن يضر الله شيئًا، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا، وإذا انهار مجتمع لعدم اتباعه التقوى وقواعد الأخلاق فإن مجتمعًا آخر يحل محله، ولن يضر ذلك الله في شيء، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا، ويأتي قوم آخرون يتبعون الفضيلة ويؤمنون بالله، ولن يضر هذا الاستبدال الله في شيء، وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا. ومهما عصى قوم وتركوا الإيمان فإن ذلك لن يضر الله شيئًا، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا، وهؤلاء الذين استبدلوا الكفر بالإيمان، والباطل بالحق، والرذيلة بالفضيلة، والشر بالخير أيضًا لن يضروا الله شيئًا، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا. ومن عصى الرسول بعد ما تبين له الحق لن يضر إلا نفسه ولن يضر الله في شيء، وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا.
- والمعنى الثالث: أن عدم الإيمان لن يضر إلا غير المؤمن، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم، فالمؤمن لا ينفع إلا نفسه، ولا يضره ضلال الآخرين. وإن صبر المؤمنين وتقواهم تمنعهم من إضرار كيد الآخرين لهم، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، أو أذاهم لأنهم جبناء في القتال يولون الأدبار حين اللقاء، لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَار، ولا يضرون الرسول في شيء فما على الرسول إلا البلاغ، وإن أعرض عنهم فهم الخاسرون، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا، فالمؤمن لا ينفع إلا نفسه، والمهتدي يمنع الضرر عن نفسه. والضال لا يلحق الضرر بالرسول إنما يضر نفسه، وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء.
- والمعنى الرابع: أن الضرر في حد ذاته لا تقبله النفس بصرف النظر عن الإيمان أو عدم الإيمان، فلا تضار والدة بولدها ولا مولود بولده، لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ، الوالدة في الرضاعة حولين كاملين لا أكثر، والوالد في الرزق والكسب والإنفاق، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وكذلك لا تضار النساء بضيق المسكن، وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ولا في الإنفاق. وفي البيع والشراء الشهادة واجبة حتى لا يضار بائع أو مشترٍ أو كاتب أو شهيد، وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، فالتدوين حفظ للحقوق في الزواج وفي البيع والشراء، فالذاكرة تخون، والنفس أمَّارة بالسوء، فكل شيء شهادة، الإيمان، وسماع القرآن وتدوين الحديث وإصدار الفتوى وممارسة الجهاد، فالشهادة بالقلب وباللسان وباليد بتدوين شروط العقود.
- والمعنى الخامس: أن العلم هو العلم النافع، وهو ما يؤكده حديث «أعوذ بالله من علم لا ينفع»، وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُم، فالعلم ليس نظريًّا فحسب، معرفة من أجل المعرفة، بل هو علم من أجل منفعة الناس في الدنيا، وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُم. العلم هو العلم النافع كنظرية عامة في العلم بصرف النظر عن الإيمان أو عدم الإيمان، العلم هو ما يفيد الناس، وما يحقق لهم مصالحهم دون أن تكون المنفعة هي الحقيقة كما هو الحال في المذهب النفعي أو البرجماتية. الحقيقة تحقق المنفعة دون أن تكون المنفعة هي الحقيقة.