العمل
(١) الإصلاح
تتعدد المواقف بالنسبة لعلاقة الدين بالدولة أو الدين بالمجتمع أو الدين بالحياة، وهي ثلاثة: الموقف السلفي التقليدي الذي كان سائدًا في الدولة العثمانية أثناء فترة ضعف الخلافة. ويمثله أبو الهدى الصيادي شيخ الإسلام في حلب، وكان يدعو إلى استمرار الخلافة بحسنها وقبحها كمسألة مبدأ وعقيدة، رمزًا لوحدة الأمة، ودفاعًا عنها ضد الطامعين فيها لتقطيع أوصالها، والتهامها جزءًا جزءًا من الدول الكبرى في ذلك الوقت، وهو ما حدث بالفعل بعد خسارتها في الحرب العالمية الأولى. والثاني الموقف العلماني الذي كان يمثله حزب «الاتحاد والترقي» أو «تركيا الفتاة»، وكان يمثل القومية الطورانية، وإلغاء الخلافة، والعودة إلى الحدود الطبيعية التركية، وتبني النموذج الغربي بحذافيره مثل الفصل بين الدين والدولة، وتغيير الحروف العربية إلى حروف لاتينية، وتقليد الغربيين في أساليب حياتهم، لباسهم وطعامهم وعمارتهم وفنونهم، وهو الموقف الذي قاده مصطفى كمال الذي نجح في طرد الجيش اليوناني الذي كان على أبواب أنقرة في قلب هضبة الأناضول، والثالث الموقف الإصلاحي الذي قاده جمال الدين الأفغاني «لوثر الشرق» وتلاميذه. كان يبغي تحديث الخلافة دون القضاء عليها، والقضاء على الفساد فيها دون هدمها، والدعوة إلى اللامركزية للتخفيف من بطش السلطنة، ورعاية مصالح الأقاليم. وشاركه في ذلك شبلي شميل «حكيم الشرق» من العلمانيين العلميين، للدعوة إلى تأسيس الدستور والبرلمان للمراجعة على قرارات السلطان، وتقييد سلطته المطلقة، وهو التيار الذي لم ينجح في عصره بالرغم من محاولات التحديث في «التنظيمات»، وربما يحن حزب العدالة والتنمية الآن إلى الموقف الإصلاحي من جديد بعد تأزُّم الموقف العلماني وظهور حدوده، وهو الموقف الذي يعود من جديد في الثورة الإسلامية في إيران عند الرئيس خاتمي والإصلاحيين، وفي المغرب في حزب العدالة والتنمية وسط الاستقطاب الشديد بين السلفيين والعلمانيين في مصر وليبيا وتونس والجزائر وسوريا والسودان.
ويتضمن الإصلاح التغير التدريجي للمجتمعات الإسلامية ابتداءً من القضاء على الفساد، فدرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح بالوسائل السلمية، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة، والحسبة، وخطب المساجد، والدروس الدينية، واللجوء إلى القضاء إذا لزم الأمر. وإن لم تنجح هذه الوسائل واستمر الفساد والظلم من الأئمة فالخروج على الحاكم الظالم واجب شرعي، ولا يكون الخروج بالضرورة بالسلاح بل يمكن بالعصيان المدني، والمظاهرات الشعبية، وضغط الرأي العام، وتجنيد الناس.
وهو ما يتفق مع معاني لفظ «الإصلاح» في القرآن الكريم. فهو لفظ شائع يتكرر. ذُكر حوالي مائة وثمانين مرة، أسماءً أكثر، حوالي مائة وخمسين مرة، وأفعالًا أقل، ثلاثين مرة. فلا إصلاح بلا صالح وصالحين وصالحات ومصلح ومصلحين وإصلاح. يعني الإصلاح بين الناس والصلح بين الأزواج، والصلاح في الأعمال.
النبوة إصلاح في الأرض، بل إن صالح اسم نبي، والعمل الصالح دليل على نبوته، إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ، فلا يوجد صاحب دعوة للإفساد، الإصلاح اتجاه نحو الكمال، وتحرك نحو المثال، ومهمة الوحي الإصلاح في الأرض، وهو دور الإنسان. فإصلاح الأرض أمر طبيعي ضد الإفساد فيها، وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا، وفرق بين الإصلاح والإفساد، وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، دور الإنسان إعمار الأرض وتحويلها من أرض صفراء إلى أرض خضراء، ومن أرض قاحلة إلى أرض عامرة. الإصلاح الذاتي أولًا قبل إصلاح الغير، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا، والإصلاح للأفراد، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ، وبين الأزواج، فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، والصلح بينهما يلغي الطلاق، ويرد الزوجة إلى زوجها، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا، إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا. الإصلاح جمع وليس فرقًا، توحيد وليس تفريقًا، تآلف وليس نفورًا. لذلك لا يجوز الخصام بين الناس. وخصام الأخ لأخيه لا يتجاوز ثلاثة أيام، فما بال خصام الأحزاب والشعوب فيما بينها عقودًا من الزمان أو أكثر خاصة لو كانوا من دول الجوار مثل المغرب والجزائر، العراق والكويت، اليمن والسعودية، مصر والسودان، الصومال والحبشة … إلخ.
ومنها الإصلاح بين الناس، فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ، داخل الأسرة وخارجها، أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، فالإصلاح مظهر من مظاهر البر والتقوى، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وهو إصلاح بين المسلمين المتقاتلين، وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، هو إصلاح بين الإخوة، وجميع المؤمنين إخوة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، الصلح خير وسلام وأمن وطمأنينة، ودليل على كرم النفس، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ. رعاية اليتامى إصلاح لهم، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، فالإصلاح بين البشر قبل أن يكون في الأرض، فالبشر هم سادة الأرض.
والإصلاح بعد التوبة من الظلم، فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، الإصلاح تكفير عن الذنب، وتحول من الظلم إلى العدل، ومن التكبر إلى التواضع، الإصلاح عود إلى الطريق المستقيم، طريق الطبيعة المتجهة نحو الكمال، وتصحيح للانحراف الذي يدمر الطبيعة ويرجع مسارها إلى الوراء.
وجزاء الصلاح جنات عدن، فالعمل الصالح هو الطريق إلى الآخرة، الصالحون والصالحات على حد سواء، بل إن الصالحات أكثر استعمالًا من الصالحين حوالي الضعف، وكلاهما أصحاب وصاحبات الأعمال الصالحة؛ لذلك قرن الإيمان بالعمل الصالح بصرف النظر عن الإيمان بماذا والصلاح لمن، وقد جعل المعتزلة من مبادئهم رعاية الصلاح والأصلح كأحد الواجبات العقلية من الله وعلى الإنسان، والمصالح العامة المصدر الأول للتشريع والقادر على إحكام اشتباه النصوص.
الإصلاح هو سبب بقاء الشعوب في التاريخ والإفساد سبب انهيارها، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ، فالتاريخ مسار نحو التقدم، والإصلاح فاعله الرئيسي، والمحافظ عليه. الإصلاح هو السبيل إلى نهضة الأمم، والإفساد سبب تأخرها، فالصالحون لهم وراثة الأرض، أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، والمفسدون يندثرون ولا يبقون.
(٢) الفساد
الفساد يقابل الإصلاح. غياب الإصلاح فساد، وغياب الفساد إصلاح. وهما مثل التقدم والتأخر. التقدم إصلاح، والتأخر فساد. والمقابل اللغوي للإصلاح هو الإفساد، الفعل الرباعي. ومع ذلك فالغالب في الإفساد هو الفعل الثلاثي «فسد» أكثر من الفعل الرباعي «أفسد»، في حين أنه في الإصلاح الأغلب هو الفعل الرباعي «أصلح» أكثر من الفعل الثلاثي «صلح».
وإذا كانت النبوة إصلاحًا فإن التكذيب بها إفساد، فمقياس التصديق بالوحي أو التكذيب به مقياس الإصلاح أو الإفساد في الأرض. فالوحي ليس فقط معرفة بل هو سلوك، ليس فقط نظرًا بل هو عمل، ليس فقط إيمانًا أو اعتقادًا بل هو تغيير وتطوير إلى الأفضل.
وقد ورد لفظ «فساد» ومشتقاته حوالي خمسين مرة أقل من لفظ «صلح»، الثلث تقريبًا مما يدل على أهمية الإصلاح وأنه من طبائع الأمور أكثر من الإفساد. محاربة الفساد مجرد مقدمة من أجل تحقيق الإصلاح، فالسلب مقدم على الإيجاب، والنفي سابق للإثبات.
وقد ورد اللفظ اسمًا (حوالي اثنتين وثلاثين مرة)، ويعني في معظمها الفساد في الأرض، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، والفساد لا يأتي بعد الإصلاح لأنه ضد طبائع الأشياء بل الإصلاح هو الذي يأتي بعد الفساد، وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا، وإفساد الأرض بإفساد الحرث والنسل أي الثروتين الزراعية والحيوانية، لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ. الإفساد هو الخراب والقحط والمجاعة والموت كما يحدث في كثير من بلاد المسلمين في السودان والصومال وتشاد ومالي بالعجز عن السيطرة على الطبيعة وبالنزاعات الداخلية، وكما يحدث في فلسطين بتجريف الأراضي ونزع الأشجار. الفساد هو القضاء على مقومات الحياة العضوية في النبات والحيوان.
والفساد في البر والبحر، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فالبحر مثل البر، تدفن فيه النفايات، ويصيبه التلوث. ويحدث في القرية أي في المجتمع، إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وهو فساد النظام الاجتماعي والسياسي. ويظهر الفساد في البلاد أي في الأوطان، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ. وينخر في الدول ويقضي عليها.
والعلو والاستكبار في الأرض مظهر من مظاهر الفساد، نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا، وهو الفساد السياسي بمعنى القهر والتسلط والطغيان. ويقع الفساد في السماء والأرض باتباع الأهواء، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، فالفساد يصل من الأرض إلى السماء إذا تابع الإنسان أهواءه وترك الحق، فالسماء رمز القيم والمبادئ، كما أن الأرض رمز الوقائع والأوضاع. هو الفساد الشامل في كل طبقات المجتمع، الخاصة والعامة، النخبة والجماهير، فساد الأغنياء لمزيد من الإثراء. وفساد الفقراء من أجل القدرة على التعايش وحفظ البقاء. ومقاومة الفساد في الأرض تطلب «الدفع» أي الصراع البشري والجهد والكد والسعي والمقاومة، وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ. الفساد لا يمكن اتباعه والرضوخ له، بل مقاومته والتصدي له وكشفه وفضحه أمام الرأي العام. وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ.
والتولي عن النبوة فساد في الأرض. فالوحي هو طريق الإصلاح، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ. النبوة إصلاح في الأرض وتوجيه للطبيعة نحو الكمال، وتقدم التاريخ. الفساد عصيان، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ. وإنكار الحق وتكذيب النبوة، وهو فتنة في الأرض، إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ. كما أن الفتنة فساد في الأرض لأن الصلاح لا يأتي إلا بالمصالحة والتعاون. وإذا أفسد الإنسان في الأرض أحيانًا فلكي يتعلم الإصلاح ويحققه دائمًا.
وإبخاس الناس أشياءهم مظهر من مظاهر الفساد، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ. وعدم تقدير جهد العاملين حتى تصاب أنفسهم بالإحباط، وذلك مثل إعطاء العامل أقل مما يستحق، وإعطاء الفلاح أقل من جهده. والإفساد في الأرض قطع ما أمر الله به أن يوصل، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ، في حين أن الإصلاح وصل واتصال، وربط ورباط. الفساد هو ضرب الناس بعضهم ببعض، وإيقاع الشقاق بين الأحزاب والقوى السياسية حتى يقوى الحاكم إذا ما تفرَّق الخصوم.
وإيقاف النسل، ذبح الذكور واستحياء الإناث، فساد في الأرض، يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، فالحياة تكاثر ونماء وخصوبة. والإفساد في بقعة من الأرض هو إفساد في الأرض جميعًا كما أن قتل نفس واحدة هو قتل للناس جميعًا. الفساد يستشري في الأرض إذا بدأ ولا يتوقف، بل هو عدوى سريعة الانتشار. وتنهار الأمم بالإفساد في الأرض وتنهض بالإصلاح فيها، فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ. الفساد هدم والإصلاح بناء. الفساد هزيمة للإرادة، والإصلاح نصر لها. والنصر في النهاية للإصلاح والهزيمة للإفساد، قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ.
وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، والوحي هو كلمة الله وتحقيقها في الأرض بالجهد الإنساني. وإذا كانت صفات الله وأسماؤه نموذجًا للسلوك الإنساني والله لا يحب الفساد فإن الإنسان أيضًا لا يحب الفساد.
والتوحيد لمنع الفساد في الأرض، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا، فوحدانية الله تنعكس في وحدانية الطبيعة والمجتمع والإنسانية. يحكمها مبدأ واحد، يتساوى أمامه الجميع دون ازدواجية المعايير كما يحدث في القرارات الدولية ومواقف الدول الكبرى. والفساد في الأرض من كسب الناس وليس من فعل الله، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ. ولا يمكن الاعتذار بالقدر المسبق أو بالعلم الإلهي لارتكاب الفساد، فالإنسان مسئول في العالم عن الإصلاح والإفساد على حد سواء. وأخيرًا جزاء الفساد في الأرض العذاب في الآخرة، زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ، فالفساد في الأرض ليس مجرد أثر في الدنيا بل له تبعاته في الآخرة مما يخيف الناس من الفساد ويبعدهم عنه.
اليسار الإسلامي رؤية في تغيير الواقع أكثر منه تصورات نظرية، ومن وسائل تغيير الواقع التحول من الإفساد إلى الإصلاح، وبالتالي يلتقي مع كل الاتجاهات الاجتماعية التي تشارك في نفس الهدف، وهذا هو معنى شمول الإسلام وعالميته أي قدرته على احتواء باقي العقائد والقيم في رؤية واحدة لتحقيق هدف واحد، وهو في النهاية إحدى تجليات التوحيد.
(٣) الذكر والأنثى
كثرت الشبهات حول وضع المرأة في الإسلام، وأنها ليست مساوية للرجل سواء في قانون الأحوال الشخصية مثل الطلاق بيد الرجل، وتعدد الزوجات حق للرجل وإن كان مشروطًا بالعدل المستحيل، والميراث، والقوامة. وقامت حركات حقوق المرأة المتأثرة بالتراث الغربي لتنادي بمساواة المرأة بالرجل في الإسلام، وطبقًا للمواثيق الدولية. كما قامت حركات الإصلاح في مصر وتونس بإجراء بعض الإصلاحات على قوانين الأحوال الشخصية مثل الطلاق أمام القاضي وتعدد الزوجات بشرط موافقة الزوجة الأولى وإلا كان لها الحق في طلب الطلاق.
فما هي صورة الذكر والأنثى في القرآن الكريم؟ ذُكر في القرآن ثماني عشرة مرة، نصفها للمساواة مع الأنثى ونصفها الآخر لعدم المساواة، المساواة في الخلق وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى للتكامل بينهما عضويًّا ونفسيًّا حتى تستأنف الحياة من خلال الذرية فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، كل منهما مكمل للآخر، ولا تستقيم الحياة بطرف دون آخر. والتفاوت بينهما في العمل والأداء وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى المساواة في الخلق والاختلاف في السعي، والاختلاف في السعي جزاؤه العمل الصالح طبقًا لقانون واحد يطبق على الاثنين وهو قانون الاستحقاق فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى يتساويان في الإيمان والعمل وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يحيا كلاهما في الدنيا حياة طيبة وفي الآخرة لهما الجنة مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. أما الاختلاف بينهما فمن أجل التعدد والوحدة، التفرق والتعارف يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى. أما عدم المساواة فإنها ترد طبقًا للعقلية العربية البدوية في تفضيل الذكر على الأنثى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى، وتصور الله أنثى وليس ذكرًا أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى. كما يرد في إطار الميراث، وأن الأنثى لها نصف ما للذكر في مجتمع لم يكن فيه للأنثى أي حق، بل ليس لها أي حق في الحياة وفي الوجود يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بالرغم من أن بعض العالمين بقانون الميراث وبالمعادلات الرياضية يقولون إنه في بعض الحالات يكون للأنثى نصيب أعلى من الذكر. ولما كانت الوحدة هي الأسرة وليس الفرد يكون لها نصيب ونصف، ذكرًا وأنثى.
أما لفظ الأنثى فقد ذكر ثلاثين مرة، أكثر من الذكر، نصفها مفردًا «أنثى» وربعها مثنى «أنثيين» والربع الأخير جمعًا «إناث». والمعنى الغالب على الاستعمال المفرد هو المساواة في الجزاء طبقًا لقانون الاستحقاق أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وينال كل منهما الحياة على السواء مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ. وكلاهما له نفس الجزاء وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وهناك المساواة في الخلق وفي الطبيعة وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وخُلق كلاهما من مَنِي واحد فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. والله يعلم ما في الأرحام وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ. إن الله هو الذي يصور في الأرحام الذكور والإناث يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ وبزواج الإناث والذكور ينشأ الخلق العظيم أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ. أما عدم المساواة في الميراث لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ في مجتمع لم يكن للمرأة فيه حق للميراث، والأغلب أن يأتي ذكر عدم المساواة تهكمًا على العقلية البدوية التي تجعل للذكر قيمة أعلى من الأنثى منذ الميلاد فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى. وهي العادة التي جعلت وجه العربي يسود إذا بُشر بأن المولود أنثى وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. وطبقًا لهذه العادة لا يمكن تصور الله أنثى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا. ويتهكم القرآن على من أعطى لنفسه الذكور ووهب الله إناثًا من الملائكة أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا كما يتهكم على الذين يجعلون الملائكة إناثًا من خلق الله والملائكة ليس لهم جنس أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ والملائكة عباد الرحمن وليسوا إناثًا ولا ذكورًا وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا. وإذا تغيرت العقلية البدوية تغيرت التصورات. وإذا كانت ما زالت مستمرة لدى الطبقات الشعبية فإنها بدأت في التغير لدى النخبة المثقفة التي اختارت المساواة. ولقد فضل الله مريم على نساء العالمين. وبرَّأ عائشة من حديث الإفك. وكان لخديجة وعائشة وفاطمة في حياة الرسول فضل كبير.
(٤) القوة
يدور سؤال رئيسي بيننا، نحن العرب، عن أسباب ضعفنا وكيف يمكن التحول من ضعف إلى قوة. فالقوة مطلب رئيسي في عالم لا يعترف إلا بالقوي، وأمام عدو لا يعتمد إلا على القوة دون الشرعية. حدوده ما يستطيع جيش الدفاع الإسرائيلي الوصول إليه.
وقد ذُكر لفظ «قوة» في القرآن اثنتين وأربعين مرة أي إنه موضوع مهم في أربعة محاور:
- الأول: قوة الإنسان والجماعة حوالي عشرين مرة. كلها تدور حول جهاد الأعداء، والاستعداد لهم، وعدم التراخي في التسليح. فإذا كان لدى العدو السلاح النووي فعلى المسلمين أيضًا امتلاكه، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ. فالعدو صاحب قوة، قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ. وفي مقابله يمتلك المسلمون كل أسباب القوة التي تفوق قوة العدو، وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ. وهذه القوة ليست ثابتة، تزيد وتنقص. فلا العدو يظل قويًّا إلى الأبد، ولا المسلمين يظلون ضعفاء إلى الأبد. فطالما هزمت أقوام كانوا أشد قوة من المسلمين، كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا. فكل قوي هناك من هو أقوى منه، قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ، وطالما هلكت شعوب ظنت أن قوتها دائمة، أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا. فالتعلم من التاريخ واجب، من الصليبيين والمغول والتتار والاستعمار الغربي الحديث، كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً. وكلما ازدادت القوة لقوم كانت نذيرًا عليهم بالهلاك، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ. وكلما ازدادت القوة زاد الغرور كما حدث في إسرائيل بعد هزيمة العرب في يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً. وطالما هلك من كان أشد منهم قوة في الأرض، الرومان قديمًا، والنازية حديثًا، كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ. القوة تزيد وتنقص. تشتد وتضعف. فضعف المسلمين ليس إلى الأبد بل يزداد قوة من السماء وعلى الأرض، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ، فالضعف مؤقت والقوة من الجماعة ومن تدبر النفس، قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. والقوة من الجماعة بناء على الحق والعدل والخير، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ. الضعيف ليس دائمًا بل يتحول إلى قوة كما حدث من هزيمة ١٩٦٧م إلى نصر أكتوبر (تشرين الأول) ١٩٧٣م، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً. والقوي أيضًا لا يظل قويًّا. فالقوة دون الحق والعدل والخير. تدمر نفسها بنفسها، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا. فهو قانون تاريخي. الضعيف يصبح قويًّا، والقوي يصبح ضعيفًا، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً. والدولة الفتية تهزم. وهذا القانون تذكرة ومتاع للمجاهدين الذين يحولون ضعفهم إلى قوة، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ.
- والمحور الثاني: هو الله رمز الحق والعدل والخير، أي المبادئ العامة الثابتة في حياة البشر بالرغم من تحولهم من القوة إلى الضعف أو من الضعف إلى القوة. فمهما انتصر العدو وكانوا ظالمين فإن القوة الدائمة لله وحده، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعًا. ويدرك الظالم حين يأتي العقاب أن القوة لله، وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ. فالله الذي خلق العدو هو أشد منه قوة، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً. الله هو القوي المتين، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ، وهو الناصر، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ، وهو العزيز، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ، وهو الشديد العقاب، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
- والمحور الثالث: قوة الوحي الذي به قوة الرسول أي قوة التمسك بالفكر والهوية، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. فالوحي ليس فقط معرفة نظرية بل هو قوة عملية وحركة في التاريخ، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. فالرسول هو القوي الأمين على الوحي وتطبيقه في المجتمع ومساره في التاريخ، أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ. والرسول قبل الوحي وبعده في قوته وأمانته، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ.
والمسلمون أصحاب أمانة، الوحي في آخر مرحلة، ولكن تنقصهم القوة وإلا تخلوا عن الأمانة. والعدو صاحب القوة وتخلى عن الأمانة. فالتحدي الآن قائم بين المسلمين وأعدائهم، بين الأمانة دون قوة، والقوة دون أمانة. والقدس هي موطن هذا التحدي عند المسلمين أمانة بلا قوة، وعند إسرائيل قوة بلا أمانة. وجميع أراضي المسلمين وشعوبهم وثرواتهم ومصالحهم أمانة تنقصها القوة في فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال. ليست القوة فيما بينهم، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ. ولكن القوة في مواجهة أعدائهم حتى يرهبوهم ويمنعوهم من العدوان.
(٥) الضعف
وعادة ما يقرن الضعف بالقوة، والقوة بالضعف. فإذا كانت القوة ليست ثابتة بل هي في أيدي الناس تذهب وتأتي، تضعف وتشتد، فكذلك الضعف. فقد ورد اللفظ في القرآن الكريم إحدى وثلاثين مرة. نصفها تشجيع للمستضعفين ولوم عليهم أنهم بقوا على حالتهم دون تغييرها إلى قوة. فلا ضعف مع الحق، ولا قوة مع الباطل. وتدور معاني اللفظ حول ثلاثة محاور:
- الأول: الاستضعاف والمستضعفين أي الإحساس وهما بالضعف وقبوله وعدم البحث عن وسائل القوة والاستقواء. هو قبول الضيم والظلم والقهر والعبودية من المستقوين. فالاستضعاف سنة الخلق. إذا قويت طائفة استضعفت الطوائف الأخرى كما حدث في الغزو والاستعمار، وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ. فالاستضعاف والاستقواء قانون طبيعي بين الشعوب التي تعتمد على القوة دون العدل. وحجة المستضعفين هي قوة المستكبرين. وهي حجة ضعيفة. ترمي بالمسئولية في ملعب غيرها. فالعيب في الذات وليس في الآخر، يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ. فالإيمان فعل ذاتي، لا يتعلق بقوة الآخر أو ضعفه. وهي حجة يعلم المستكبرون ضعفها ويردون عليها، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ. وحجة التقليد لا تجوز للضعفاء. فالتقليد تبعية، فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا. ويحتج المستضعفون بأنه مكر الزمن ومأساة التاريخ وسوء الحظ إلقاءً للتبعة على القدر وليس على النفس، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. بل إن الأنبياء أنفسهم في لحظة ضعف يشعرون بأنهم ضعفاء أمام أقوامهم الأقوياء الذين لا يصدقون بهم، إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي. فيستغرب الأعداء كيف يشعر الرسول بقوة وهم يرونه فيهم ضعيفًا، مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا. فدليل النبوة حسن الفهم والقدرة على الفعل أي القدرة النظرية والعملية. ويسأل الأقوياء الضعفاء إذا كانوا على ثقة من أن النبي قد أُرسل من ربه ليعرفوا مدى إمكانية قوتهم في المستقبل، قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ. والمستضعفون اليوم هم الأقوياء غدًا. ولم يسمهم القرآن الضعفاء بل المستضعفين؛ لأن الضعف ليس جوهريًّا فيهم بل طارئًا عليهم، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وقد كان شعار الثورة الإسلامية في إيران وشعار «اليسار الإسلامي». فالمستضعفون اليوم هم وارثو الأرض ومن عليها غدًا، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا، فمصير المستضعفين القوة؛ إذ لا يبقى الاستضعاف على حال دائم، وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ. والقتال في سبيلهم واجب، وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ. الاستضعاف ليس حجة للاستكانة والخنوع والاستسلام، فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ، فالمستضعفون لهم حقوق في الاستقواء، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ، ولهم حجتهم في عدم الاستطاعة الهجرة، إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ.
- والمحور الثاني: هو الضعف كجزء من النسيج البشري، يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا. كواقع ولكن يمكن تخفيفه وتحمله، اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً؛ لذلك لا يجوز في الشريعة تكليف ما لا يطاق. هناك صلاة القاعد والمسافر والمريض وهناك صيام المسافر والمريض، الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا. والحق أقوى من الباطل، والإنسان أقوى من الشيطان، فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا. وفي حالة الضعف العقلي أو البدني يكون للإنسان ولي يستعين به، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ. وليس على الضعفاء حرج، ولا على المرضى، ولا على الذين يريدون الجهاد ولكن لا يجدون ما يجهزون به أنفسهم، لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ. وإذا أراد الإنسان أن يخلق ذبابًا أو أن يسلبه الذباب شيئًا ما استطاع، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
- والمحور الثالث: هي المسئولية الشخصية عن الذرية أي عن التاريخ، ألا تترك الأجيال القادمة ضعافًا، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ. فالذرية هنا ليس فقط الأبناء والأحفاد بل القوم والشعب، فالكل من ذرية آدم وإبراهيم. يعمل الإنسان على تقوية نفسه عند الكبر وعدم ترك ذرية ضعافًا حتى تظل الجماعة قوية، لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ. والحياة امتحان واختبار. وليس النصر بالضرورة مع القوة، وليست الهزيمة دائمًا للضعفاء. قد تكون القوة كمًّا وليست كيفًا. ويثبت التاريخ أن الكم لا ينتصر على الكيف، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا. فقد ينتصر العدد القليل على العدد الكثير كما حدث في بدر، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا. والضعف المؤقت في حاجة إلى صبر وإعداد، وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
(٦) الكدح
«الكدح» لفظ قرآني. لم يُذكر إلا مرتين. الأولى اسم فاعل «كادح»، والثانية اسم فعل «كدح» في نفس الآية، يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ للتأكيد على أن الإنسان في هذا العالم فاعل وعامل وكادح، وأن الفعل والعمل والكدح هو وضع الإنسان في العالم، وهو ما يتفق مع كثير من الأمثال العامية على أن الحياة كفاح مثل «اعمل يا عبد وأنا أعينك»، وهو ما أكده الشعراء أيضًا من أن الحياة عقيدة وجهاد.
وهو ضد القيم الصوفية الموروثة، ما يُسمى بالمقامات والأحوال التي ذاعت في الثقافة الشعبية خاصة في المغرب العربي وفي مصر والسودان وفي البلاد الإسلامية والأفريقية والآسيوية في الهند وأواسط آسيا، وفي إيران التاريخية قبل الثورة الإسلامية. وهي القيم التي تعتمد على الصبر والتوكل والتواكل والخوف والخشية والرضا والاستسلام والقدرية، وأولوية الجوع على الشبع، والعطش على الري، والعري على الكساء، والعراء على الإيواء، والفقر على الغنى. فلا يُعرف الله إلا ببطن جائع وبدن عارٍ.
وهو ضد السلوك الشعبي الشائع عن المسلمين مثل الكسل وقلة العمل، والعجز وعدم أخذ زمام المبادرة، والتشاؤم من الحياة، وقلة الحيلة، وانسداد الطريق، وضيق الأفق، والاعتماد على السؤال ومد اليد، وانتظار الرزق من السماء أو من الإرث. فإذا ضاقت السبل في الداخل فالهجرة إلى الخارج والمخاطرة بالحياة بالتسلل بالقوارب في هجرات غير شرعية قد تنجح وقد لا تنجح وتنتهي بالموت غرقًا أو بالسجن والترحيل.
وهو ضد الأوضاع الحالية للمسلمين من جوع وعطش ونزوح الملايين وهلاكهم بالأمراض أو الفيضانات أو الزلازل وعدم قدرتهم على السيطرة على واقعهم، وانتظار المعونات الأجنبية لهم من الكنائس والمنظمات الدولية. أفواه جائعة، وأجساد هزيلة، وأرواح صاعدة إلى السماء بالمئات كل يوم بالحرب أو النزوح. وتصنف معظم الشعوب العربية والإسلامية بأنها ضمن الدول المتخلفة أو النامية تعيش على ما ينتجه غيرها، وتستورد أكثر مما تصدر. لا تستطيع سد حاجات البدن أولًا قبل التعليم والثقافة في عصر ينتشر فيه الإعلام، وتسيطر فيه الصورة.
والكدح يدوي وعقلي. الكدح اليدوي في الإنتاج. فالأرض متسعة، والمياه وافرة في السودان والعراق ومصر، والسواعد في مصر والسودان والخبرات العربية في كل مكان. والاستثمارات موجودة في الخليج. فإمكانيات الإنتاج الزراعي متوافرة. ما ينقص هو الإرادة والإحساس بالوحدة والتضامن المشترك والاعتماد المتبادل وخطط ومشاريع قومية للتنمية دون الاعتماد على الاستيراد من الغير. والمعادن موجودة في الصحراء، القاحلة في ظاهرها، الغنية في باطنها. فالتصنيع وارد بدلًا من الاستيراد. والطاقة موجودة. فالصناعة بعد الزراعة نتيجتان طبيعيتان للكدح اليدوي.
والكدح العقلي متوافر في العقول العربية والطيور المهاجرة التي تنمي البلاد المتقدمة. ما ينقص هو الثقة بالذات، وأخذ زمام المبادرة، والتحول من النقل إلى الإبداع، والتأسي بجهود السابقين حيث كانت الزراعة والري في الأندلس والعراق نموذجًا لزراعة الأوروبيين وريهم. ما ينقص هو الخروج على عادة الاسترخاء والتبعية والاستسهال.
وقد قضى الغرب عصوره الحديثة في التحول من النظر إلى العمل. فالإرادة أوسع نطاقًا من الذهن عند ديكارت. والعقل العملي هو القادر على التعامل مع بواطن الأمور وليس مع ظواهرها عند كانط. وفي البداية كان الفعل وليس الكلمة عند جوته. وليس المهم فهم العالم بل تغييره عند ماركس. والأنا تضع نفسها حين تقاوم عند فشته. والحقيقة عملية من صنع الإرادة عند برجسون.
والغريب أننا نعيب على الغير الذين يؤيدوننا باللسان دون الأفعال، وبالأقوال دون الأعمال مثل الغربيين والأمريكيين ونحن أولى بالنقد. فالأمة التي تقول إنها خير أمة أخرجت للناس محتلة، مجزئة، مقهورة، مغتربة، خاملة، راضية. شتان بين مثالها وواقعها. ليتها تتدبر معنى الكدح وتكون من الكادحين.
(٧) القسط
ومن مفاهيم العدل وصوره مثل الميزان مفهوم «القسط». وقد ورد في القرآن سبعًا وعشرين مرة في صيغ متعددة، فعلية واسمية. أكبرها «القسط» اسم فعل، ثم «المقسطين» اسم مفعول جمع، ثم «القاسطون» اسم فاعل، ثم فعل الأمر «أقسطوا» أو المضارع «تقسطوا»، ثم أفعل التفضيل «أقسط».
ومن حيث المعنى أكثر الاستعمالات هو القسط مع اليتامى، والزواج منهن أفضل من استغلال ثرواتهن من الوصي عليهن، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. فاليتامى مثل المستضعفين من الولدان، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ. والقسط أيضًا بين الأزواج، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين. والقسط في الحرب والسلم. فالقسط مع المسالمين الذين لم يحاربوا المسلمين، لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ. فإن عاد المقاتلون إلى الحق فالبر والقسط معهم، فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا. والقسط أيضًا يكون في الكيل والميزان، مع الأشياء وليس فقط مع الأفراد، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، الكيل والميزان بالقسط، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ. وهي عادة عربية حتى الآن وكتابة العقود والديون والآجال أقسط عند الله، ومنعًا للريبة والغش، ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا. ودعوة الأبناء إلى الآباء أقسط عند الله. فالنسب للأب، ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ.
والقسط من أفعال الله لأن الله لا يظلم أحدًا، شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ. والله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيما بينهم، وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. والحكم بين الناس بالقسط أمر إلهي، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. القسط أمر إلهي شهادة لله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ، والشهادة لله شهادة بالقسط، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ. والقسط حكم بشري بناءً على أمر إلهي، وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. القسط أمر إلهي وليس فقط مصلحة بشرية عامة، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ. فقد قضى الرسول بين الناس بالقسط ولا يظلم من الناس أحدًا، فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.
والأمر بالقسط جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشهادة في سبيله، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. فالسلطان يريد أن يحكم بمفرده دون مراجعة أو تصحيح. يفعل الناس ما يأمرهم به ويطيعونه دون مراجعة. وجزاء الشهداء الجنة، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ. والقاسط غير المقسط. القاسط نقيض المقسط. القاسط هو الذي يتجاوز القسط، وهو نقيض المسلم، وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا.
ومن «القسط» اشتق «القسطاس» وهو الميزان والمقياس العدل الذي يوزن به ويقاس، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ. ومن لا يزن بالقسطاس فإنه يُخسر من الأشياء أو ينقص منها، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ؛ لذلك سمى الغزالي أحد كتبه المنطقية في القياس «القسطاس المستقيم» الذي توزن به الأشياء بالعدل والقسطاس.
ومن الشائع أن التاجر العربي يُخسِر في الميزان إذا باع ويستوفي إذا اشترى، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. والصانع يغش في صناعته. وكل صاحب عمل يزوِّر في عمله حتى عم الفساد وغاب القانون، القانون التجاري، والقانون الأخلاقي، قانون الضمير. وعم الظلم حياة المسلمين مع أن السموات والأرض قامتا على الميزان والقسط، والحياة تأسست على العدل. وربط المعتزلة بين التوحيد والعدل. التوحيد بلا عدل، فارغ بلا مضمون. والعدل بلا توحيد قد يقع في الهوى والنسبية والمصالح الشخصية. كما قامت عديد من الأحزاب الإسلامية المعاصرة في المغرب وتركيا والسودان باسم «العدل والمساواة» تأكيدًا على المضمون الاجتماعي للتوحيد. وما زالت شخصيات مفتاحها العدل محط احترام وتبجيل في تاريخنا القديم مثل عمر بن الخطاب. وفي أمثلتنا الشعبية الموروثة «العدل أساس الملك». وأعظم لقب للسلطان هو «السلطان العادل».
(٨) الميزان
وإذا كان القسط من مفاهيم العدل فإن الميزان من صوره. وقد ورد لفظ «الميزان» ومشتقاته في القرآن الكريم ثلاثًا وعشرين مرة اسمًا أكثر منه فعلًا للدلالة على حقيقة الميزان والموازين. والفعل في صيغة الأمر للدلالة على أن العدل أمر إلهي وحقيقة موضوعية. وهي موازين موضوعية «الميزان» و«الموازين»، وموازين ذاتية لقياس أعمال الإنسان «موازينه». وهما الصيغتان الاسميتان الأكثر شيوعًا.
- الأول: وهو الأكثر شيوعًا هو العدل في الدنيا والأمانة في التجارة، واستيفاء الكيل والوزن بالعدل والقسطاس، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وهو المعنى الحسي في البيع والشراء، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، وهو أمر مباشر للناس، وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْط. وعادة ما يريد البائع إعطاء الشاري أقل من حقه فيُخسِر في الميزان ويغش فيه بالنقص، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. فالدفاع عن حق المستهلك ضد جشع البائع، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ. فالنقص من الوزن يبخس حق الناس، فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ. واستيفاء الكيل وعدم النقص فيه علامة على الخير وحسن السلوك والفضيلة، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ. وقد يكون المعنى مجازيًّا، ليس فقط الأمانة في السوق بل أيضًا في الحياة العامة. الميزان في كل شيء، والقسطاس المستقيم في كل سلوك، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ. فالغش في الميزان علامة على الطغيان وعدم احترام حقوق الآخرين، أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. فالطغيان ليس فقط في السياسة بل أيضًا في الاقتصاد. ومن يتحكم في الرأي يتحكم أيضًا في السوق.
- والمعنى الثاني: أن الكتاب نزل بالحق والميزان. فالوحي ميزان للحقيقة وعدالة في الرؤية، اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ. الوحي إقرار للعدل في الدنيا ومنع للطغيان وليذكر الناس بالقسط، وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط. الوحي والعدل صنوان. لذلك جعل المعتزلة من أصولهم التوحيد والعدل. وجعلوا العدل أساس التوحيد وليس القهر والقمع والظلم.
- والمعنى الثالث: أن الميزان أساس الكون أيضًا، وأن الكون يقوم على ميزان دقيق، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. فالعدل ليس فقط في السلوك البشري ولكن أيضًا في الكون، كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. حركة الكون منتظمة، دوران الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وشروق الشمس وغروبها. وكل شيء في الكون له وظيفته في الاتزان. الجبال رواسي شامخات لاستقرار الأرض، والبحار ممتدة ليصعد منها البخار فتتراكم السحب فينزل المطر، وتخضر الأرض، ويأكل الحيوان والإنسان منها، وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُون.
- والمعنى الرابع: هو الوزن الحق يوم القيامة، كلٌّ حسب عمله طبقًا لقانون الاستحقاق، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، وهو الميزان الشامل لسلوك الإنسان في الدنيا وتقييم أعماله طبقًا لقانون العدل. فالحياة اختبار. والبعث نتيجة لهذا الاختبار.
- والمعنى الخامس: هو قانون العدل أو الاستحقاق، وهو الميزان القسط يوم القيامة، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. فالموازين الثقيلة بالأعمال الصالحة نجاة. والموازين الخفيفة بالأعمال الصالحة هلاك، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ومن خفت موازينه يخسرون أنفسهم، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ. من ثقلت موازينه يكون من الفالحين، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، ومن خفت موازينه يكون من الخاسرين. من ثقلت موازينه يكون في عيشة راضية، فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. وأما من خفت موازينه فهو من الهاوين. وتكون المسئولية على أمه التي لم تقم بتربيته التربية الصحيحة، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ. فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. ومن حبطت أعماله ليس له وزن يوم القيامة أي ليست له قيمة، فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا.
فالميزان صورة العدل كما هو موضوع ومحفور على أبواب المحاكم، وهو أيضًا صورة العدل في الآخرة منذ قدماء المصريين ووزن أعمال الميت، أعمال الروح. فالميزان في حياة الإنسان، في الدنيا والآخرة، وفي الطبيعة والكون. لا فرق بين الذات والموضوع، بين الدنيا والآخرة. فالميزان واحد وعام وشائع مهما اختلف الزمان والموضوع.