الفصل الأول
واجه المسلمون إثر قتل عثمان — رحمه الله — مشكلتين من أخطر ما عرض لهم من المشكلات منذ خلافة أبي بكر، إحداهما تتصل بالخلافة نفسها، والأخرى تتصل بإقرار النظام وإنفاذ أمر الله فيمن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض.
فقد أمسى المسلمون يوم قُتِل عثمان وليس لهم إمام يدبِّر لهم أمورهم ويحفظ عليهم نظامهم، وينفذ فيهم سلطانهم، ويقيم فيهم حدود الله، ويرعى بعد هذا كله أمور هذه الدولة الضخمة التي أقامها أبو بكر وعمر، وزادها عثمان سعة في الشرق والغرب.
فهذه البلاد التي فُتحت عليهم ولم يستقر فيها سلطانهم بعدُ كانت في حاجة إلى من يضبط أمرها ويحكم نظامها ويُبعد حدودها التي لم تكن تثبت إلا لتتغير؛ لاتصال الفتح منذ نهض أبو بكر بالأمر إلى أن كانت الفتنة وشُغِل المسلمون بها أو شُغِل فريق من المسلمين بها عن الفتوح.
وكانت للمسلمين جيوش مرابطة في الثغور تقف اليوم لتمضي غدًا إلى الأمام، وهذه الجيوش لم تكن مشغولة بالفتح وحده وإنما كانت مشغولة كذلك بإقرار النظام فيما فُتح عليها من الأرض، وتثبيت السلطان الجديد على أنقاض السلطان القديم، واستحداث نظم في الإدارة تلائم مزاج الفاتحين، واستبقاء نظم في الإدارة أيضًا تلائم مزاج المغلوبين، وهذه الجيوش كانت محتاجة إلى من يُمدها بالجند والعتاد، ويرسم لها الخطط، ويدبر لها من الأمر ما تحتاج إلى تدبيره.
وواضح أن الذين قتلوا عثمان لم يكونوا هم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان نفسه من المهاجرين والأنصار، وإنما كانوا شراذمَ من الجيوش المرابطة في ثغور البصرة والكوفة ومصر ومن ثاب إليهم من الأعراب ومن أعانهم من أبناء المهاجرين، وكانت الجِلَّة من أصحاب النبي المهاجرين والأنصار قد وقفت مواقف ثلاثة مختلفة من هذه الفتنة: فأمَّا كثرتهم فكانت ترى وتُنكر وتَهمُّ بالإصلاح فلا تجد إليه سبيلًا فتسكت عن عجز وقصور لا عن تهاون وتقصير، وأما فريق منهم فقد شُبِّهت عليهم الأمور فآثروا العافية والتزموا الحيدة واعتزلوا الفتنة، وكانت قد وقعت إليهم أحاديث عن النبي تخوِّف من الفتنة وتأمر باجتنابها، فلزم بعضهم البيوت، وترك بعضهم المدينة مجانبًا للناس فارًّا بدينه إلى الله.
وفريق ثالث لم يُذعنوا للعجز ولم يؤثروا الحيدة والاعتزال، وإنما سعوا بين عثمان وخصومه، بعضهم ينصح للخليفة ويحاول الإصلاح بينه وبين الثائرين، وبعضهم ينقم من الخليفة فيحرِّض عليه ويُغري به، أو يقف موقفًا أقل ما يوصف به أنه لم يكن موقف المخذِّل للثائرين أو المنكر عليهم.
فلما قُتِل عثمان استرجع أكثر الصحابة لأنهم لم يستطيعوا أن ينصروه، وفكروا في غد، وأرادوا أن يستقبلوا أمورهم وتهيئوا لما يُقبِل عليهم من الأحداث، وأمعن المعتزلون في اعتزالهم وحمدوا الله على أنهم لم يشاركوا في الإثم ولم يخبوا ولم يوضعوا في الفتنة، وأما الآخرون فجعلوا يترقبون ما يصنع الناس، يفكرون في أنفسهم أو يفكرون فيمن يلوذون به من الزعماء.
ولم يكن للمسلمين نظام مقرر مكتوب أو محفوظ يشغلون به منصب الخلافة حين يخلو، وإنما كانوا يواجهون خلوَّ هذا المنصب كما يستطيعون أن يواجهوه.
فأنت تعلم كيف بُويِع أبو بكر، وكيف رأى عمر أن بيعته كانت فَلتة وقى الله المسلمين شرها، وأنت تعلم أن عمر إنما بُويِع بعهد من أبي بكر إليه وإلى المسلمين، وقد قبل المسلمون عهد أبي بكر لم يُنكره ولم يجادل فيه منهم أحد. وقد همَّ نفر من المهاجرين أن يجادلوا أبا بكر نفسه في هذا العهد فردهم عن هذا الجدال ردًّا قبلوه وأذعنوا له، وأنت تعلم أن عمر لم يعهد إلى أحد وإنما جعل الأمر شورى بين أولئك النفر الستة من المهاجرين الذين مات النبيُّ وهو عنهم راضٍ، فاختاروا من بينهم عثمان ولم يختلف عليه منهم أحد، ولم يعهد عثمان، ولو قد فعل لما قبل الناس عهده لكثرة ما أنكروا عليه وعلى وُلاته وبطانته من الأحداث، أضف إلى ذلك أن الستة الذين عَهد إليهم عمر بالشورى قد أصبحوا حين قُتل عثمان أربعة، مات أحدهم عبد الرحمن بن عوف في خلافة عثمان، وقُتِل ثانيهم وهو عثمان، فلم يبقَ منهم إلا سعد بن أبي وقَّاص والزُّبير بن العوام وطلحة بن عُبيد الله وعلي بن أبي طالب، وكان سعد قد اعتزل مع المعتزلين وتجنَّب الفتنة فيمن تجنَّبها، فلم يبقَ إذن إلا هؤلاء الثلاثة: عليٌّ وطلحة والزبير.
ثم أضف إلى ذلك أن كثيرًا من أصحاب النبي الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة لم يكونوا حاضرين أمر الناس في المدينة، فريق منهم قضى نحبه مستشهدًا في حروب الرِّدَّة وفتوح الفُرس والروم، أو ميتًا في فراشه، وفريق منهم رابطوا في الثغور مجاهدين ما أطاقوا الجهاد، مستقرِّين في الأمصار الجديدة حين عجزوا عن الجهاد، فلم تكن جماعة المهاجرين والأنصار التي شهدت مقتل عثمان في المدينة كجماعتهم تلك التي شهدت بيعة الخلفاء الثلاثة.
وكان الأمر مختلفًا بين عليٍّ وطلحة والزبير ليس لهم موقف واحد من الخليفة المقتول ولا من الظروف التي انتهت بقتله.
فأما علي فكان يُخذِّل الناس عن الثورة والفتنة ما وجد إلى تخذيلهم عنهما سبيلًا، وقد سفَرَ بينهم وبين عثمان، كما رأيت في الجزء الأول من هذا الكتاب وردَّهم عن المدينة، وسفَرَ بينهم وبينه مرة أخرى وأخذ لهم منه الرضى، وحاول حين استيأس من ردِّهم بعد أن احتلوا المدينة عَلى غِرَّةٍ من أهلها أن يقوم دون عثمان فلم يستطع، واجتهد في أن يُوصل إليه الماء العذب حين أدركه الظمأ لشدةِ الحصار.
وأما الزُّبير فلم يَنشَط في رد الثائرين نشاطًا ملحوظًا، ولم ينشط في تحريضهم نشاطًا ملحوظًا أيضًا، ولكنه ظل يترقب وهواه مع الثائرين، ولعله لم يكن يظن أن الأمر سيصير إلى ما صار إليه.
وأما طلحة فلم يكن يُخفي ميله إلى الثائرين ولا تحريضه لهم ولا إطماع فريق منهم في نفسه، وكثيرًا ما شكا منه عثمان في السر والجهر، والرواة يتحدثون بأنه استعان عليه بعلي نفسه، وبأن عليًّا استجاب له فذهب إلى طلحة ورأى عنده جماعة ضخمة من الثائرين، وحاول أن يرده عن خُطته تلك فلم يستجب له طلحة فخرج علي من عنده وعمد إلى بيت المال فاستخرج ما فيه وجعل يقسِّمه بين الناس، فتفرق أصحاب طلحة عنه ورضي عثمان بما فعل عليٌّ.
وزعم الرواة أن طلحة لما رأى ذلك أقبل حتى دخل على عثمان تائبًا معتذرًا، فقال له عثمان: لم تجئ تائبًا وإنما جئت مغلوبًا، والله حسيبك يا طلحة.
ومهما يكن من شيء فقد قُتل عثمان وهؤلاء الثلاثة في المدينة يرقُبون ما يصنع الناس، وكان الثائرون قد ملأوا المدينة خوفًا ورعبًا، فلم يكن دَفن الخليفة المقتول إلا بلَيل وعلى استخفاء شديد من الناس.
والرواة يختلفون في بيعة الإمام بعد قتل الخليفة، فقوم يقولون إن عليًّا بويع إثر قتل عثمان مباشرة. وليس هذا بثَبت، وإنما الثبت الملائم لطبيعة الثورة ولطبيعة هذه الفتنة المُشبهة أن المدينة ظلت أيامًا وليس للناس فيها خليفة وإنما يدبر أمورهم فيها الغافقىُّ أحد زعماء الثورة.
وقد وقع الثائرون بعد أن شفوا أنفسهم من الخليفة المقتول في حيرة حائرة، كانوا يعلمون أن لا بُدَّ للناس من إمام ومن أن يُبايَع هذا الإمامُ في أسرع وقت ممكن قبل أن يستبدَّ عمَّال عثمان بما في أيديهم، ويرسل أقواهم معاويةُ جندَه إلى المدينة ليخضعها لسلطانه ويعاقب الثائرين على ما قدَّموا، وكانوا يعلمون أن أحدًا منهم لا يستطيع أن ينهض بإمامة المسلمين لأن أمر الإمامة إنما هو إلى المهاجرين والأنصار يبايعون بها من يختارون من قريش.
ثم كانت أهواؤهم بعد ذلك مختلفة: هوى أهل مصر مع عليٍّ، وهوى أهل الكوفة مع الزُّبير، وهوى أهل البصرة مع طلحة. وقد جعل كل فريق منهم يختلف إلى صاحبه، وجعل الثلاثة يأبون عليهم ويمتنعون من قبول الإمامة منهم، وكأن الثائرين استيقنوا آخر الأمر أنهم لن يستطيعوا وحدهم أن يقيموا للناس إمامًا وأن لا بد أن يُعينهم المهاجرون والأنصار على ذلك، يختارون أحد هؤلاء الثلاثة ويُلحون عليه، ويؤيدهم الثائرون في هذا الإلحاح وما يزالون به حتى يرضى.
فجعلوا يدورون على أصحاب النبي يدعونهم — مُلِحِّين في الدعوة — إلى أن يختاروا لأمة محمد ﷺ إمامًا، وقد رأى المهاجرون والأنصار أن لا بد مما ليس منه بُد، وأدار كل منهم الأمر بينه وبين نفسه، وبينه وبين من استطاع أن يلقى من أصحابه، فإذا هم يميلون إلى علي ويُؤثرونه على صحابيه.
وكذلك أقبلوا على علي يعرضون عليه الإمامة ويُلحون عليه في قبولها، والثائرون يؤيدونهم في ذلك. وحاول علي أن يمتنع فلم يجد إلى الامتناع سبيلًا، وما يردُّه عن القبول وقد رفض الخلافة حين قدَّمها إليه الثائرون، وهؤلاء المهاجرون والأنصار يعرضونها عليه ويريدون أن يبايعوه كما بايعوا الخلفاء من قبله، فقد قبل الخلافة إذن وجلس للبيعة على منبر النبي كما جلس الخلفاء من قبله، وأقبل الناس فبايعوه.
ولكن نفرًا أبَوا أن يبايعوا فلم يُلح عليهم علي في البيعة ولم يأذن للثائرين في إكراههم عليها، من هؤلاء النفر سعدُ بن أبي وقَّاص، وهو أحد أصحاب الشُّورى، أبَى أن يبايع وقال لعلي: ما عليك مني من بأس. فخلَّى عليٌّ بينه وبين ما أراد.
ومنهم عبدُ الله بن عمر، أبى أن يبايع وطلب إليه علي من يَكفُله لأن يَلزم العافية ويفرُغ من أمر الناس، فأبى أن يقدِّم كفيلا، فقال له علي: ما علِمتُك إلا سيئ الخُلق صغيرًا وكبيرًا. ثم قال: خلوه وأنا كفيله.
وأبَى البيعة قوم آخرون من هؤلاء الذين اعتزلوا الفتنة، فلم يُرِد علي أن يستكرههم ولا أن يعرض لهم أحد بسوء، وامتنع طلحة والزبير عن البيعة فأكرههما الثائرون عليها، ولم يتركهما علي وشأنهما كما ترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وغيرهما من الذين اعتزلوا الفتنة، فقد كان علي يعلم من أمرهما ما علم الثائرون، كان يعلم أن طلحة كان من أشدِّ الناس على الخليفة المقتول، وأنه كان يطمح إلى ولاية الأمر، وكان يعلم أن الزُّبير لم يأمر ولكنه لم يَنهَ، ولم يكن أقلَّ من طلحة طُموحًا إلى ولاية الأمر؛ فلم يُعفهما من البيعة ليستوثق منهما بقدر ما كان يمكن أن يُستوثق منهما.
وتمت البيعة لعلي في المدينة بعد مقتل عثمان بخمسة أيام في بعض الروايات، وبثمانية أيام في بعضها الآخر، وظهر أن الأمور قد استقامت لعلي في الحجاز وفي ثغور الكوفة والبصرة ومصر، وكان الذي يشغله ولا يريد أن يستقيم له هو أمر الشام؛ ذلك أن الشام لم يشترك في الثورة من جهة، وكان حكمه إلى معاوية ابن عم عثمان من جهة أخرى، وسنرى بعد قليل سيرة علي في أمر الشام ومعاوية.
ولكن المهم أن عليًّا قد أصبح إمامًا للمسلمين، بايعه من حضر المدينة من المهاجرين والأنصار، وبايعه عن الثغور من حضر المدينة من الثائرين، فقد حُلَّت إذن إحدى المشكلتين الخطيرتين؛ مشكلة الخلافة والخليفة الجديد، أو ظهر لعلي ولكثرة الناس أنها قد حُلَّت وأن الأمر صائر بعد حلها إلى العافية والرِّضى والاستقرار.
ولم يكن بُدٌّ من أن يعرض الإمام الجديد للمشكلة الثانية، وهي مشكلة هذا الإمام المقتول، فقد كان ينبغي أن يَظهر أمر الله وحكم الدين في قتل هذا الإمام وفي قاتليه، أقُتِل الإمام ظالمًا؟ وإذن فلا ثأر له ولا قصاص من قاتليه، أم قُتل الإمام مظلومًا؟ وإذن فلا بُدَّ من أن يثأر له الإمام الجديد وينفِّذ في قاتليه ما أمر الله به من القصاص.
فأما أصحاب النبي من المهاجرين والأنصار فكانوا يرون أنه قُتل مظلومًا، وأن ليس للإمام بُد من الثأر بدمه، وأن أمور الدين لا تستقيم إذا ضُيِّعت الحقوق وأُهدِرت الدماء ولم تُقَم الحدود.
هذا كله لو كان المقتول إنسانًا من الناس ليس غير، فكيف وهو إمام الناس وخليفة المسلمين؟! وكان المهاجرون والأنصار يقولون: ما يمنع الناس إن لم نقتص من قَتَلة عثمان أن يثوروا بكل من سخطوا عليه من أئمتهم فيقتلوه؟ وقد تحدَّثوا في ذلك إلى علي فسمع منهم وأقرَّهم على رأيهم، ولكنه صوَّر لهم الأمر على حقيقته؛ فالسلطان قد انتقل إليه بحكم البَيعة، ما في ذلك شك، ولكنه ما زال في أيدي الثائرين بحكم الواقع من الأمر، فهم يحتلُّون المدينة احتلالًا عسكريًّا ويستطيعون أن يقضُوا فيها وفي أهلها بما يشاءون، ولا قدرة للخليفة ولا لأصحاب النبي عليهم؛ فالخير إذن في التمهل والأناة حتى تستقيم الأمور ويقوى سلطان الخليفة في الأمر، ثم ينظر في القضية بعد ذلك فيجرِي الأمر فيها على ما قضى الله ورسوله في الكتاب والسنة.
وقد رضي أصحاب النبي من علي بما رأى لهم، وأما الثائرون فكانوا يرون أنهم قتلوا الخليفة ظالمًا؛ فليس له ثأر ولا ينبغي للإمام أن يقتل به أحدًا.
ومع ذلك فقد همَّ علي أن يحقق مقتل عثمان، ولكنه لم يستطع أن يَمضي في التحقيق إلى غايته، ولهج قوم بأنَّ محمد بن أبي بكر قد شارك في دم عثمان، ومحمد بن أبي بكر هو ابن خليفة رسول الله وأخو أم المؤمنين عائشة، وهو رَبيب علي نفسه، فقد كانت أمه عند علي، تزوَّجها بعد موت أبي بكر، وقد سأل علي محمدًا: أأنت قاتل عثمان؟ فأنكر، وأقرَّته نائلةُ بنت الفرافِصة زوج عثمان على إنكاره.
ولكن الثائرين لم يكادوا يُحسُّون بدء علي في هذا التحقيق حتى أظهروا السخط والتضامن، فصار علي إلى ما قدَّمنا من رأيه، وانتظر معه عامة الصحابة من أهل المدينة.
ولعلك تذكر أن عثمان نفسه قد واجه في أول خلافته مشكلة تُشبه هذه المشكلة التي واجهها علي أول ما ولي الأمر، فقد كان أول مشكل عرض لعثمان هو أمر عُبيد الله بن عمر الذي قتل الهُرمُزان مُتَّهمًا له بالتحريض على قتل أبيه، وقتَله في غير تثبُّت وبغير قضاء ممن يملك القضاء، وكان المسلمون قد انقسموا في أمر هذا الفتى، فريق يرى إقامة الحدِّ عليه، ومنهم علي، وفريق يُكبر أن يبدأ عثمان خلافته بقتل ابن أمير المؤمنين عُمَر، وقد عفا عثمان لأن الهرمزان لم يكن له ولي من ذوي عَصَبته يطالب بدمه، فكان الخليفة هو الولي، وكان يرى أنَّ من حقه أن يعفو، ولم يقبل علي وكثير من المسلمين في ذلك الوقت قضاء عثمان وإنما رأوه ظلمًا وإهدارًا للدم وتفريطًا في حق الله، وكان علي يقول بعد خلافته: لئن ظفرت بهذا الفاسق لأقتلنه بالهرمزان.
واجه عثمان إذن ابن خليفة من خلفاء المسلمين متهمًا بالقتل في غير حقه فعفا عنه، واختلف الناس في هذا العفو.
وواجه عليٌّ ابن خليفة آخر من خلفاء المسلمين متهمًا بالقتل وبأيِّ قتل! بقتل إمام من أئمة المسلمين لا بقتل رجل غريب من المغلوبين المُستأمنين، ولكن عليًّا لم يعفُ عن محمد بن أبي بكر وإنما حقق أمره حتى استبان أنه لم يقتل عثمان ثم منعته الظروف من المضي في التحقيق إلى غايته وإمضاء حكم الدين في القاتلين.
ومن الحق أن نلاحظ أن محمد بن أبي بكر لم يقتل عثمان بيده، ولكنه تسوَّر الدار معَ من تسورها عليه، فقد كان له إذن في قتل عثمان شأن ضئيل أو خطير، ولكن الذين كان لهم شأن في هذه الكارثة كانوا أكثر عددًا وأقوى قوة وأشد بأسًا من أن يُقدرَ عليهم أو يقتص منهم الإمام الجديد، ثم جرت الأمور بعد ذلك على نحو زاد قضية الخليفة المقتول عسرًا وتعقيدًا كما سترى.