الفصل الثاني عشر
وكان كعب بن ثور حبرًا صالحًا من أحبار المسلمين، كان في الجاهلية نصرانيًّا، فلما أسلم مضى في إسلامه متتبعًا للخير متوخيًا للبر متفقهًا في الدين ناصحًا لله وللناس، مرتفعًا عن صغائر الأمور وأعراض الدنيا. وقد وثق به عمر فولاه قضاء البصرة، وأثبته عثمان على قضائها، ولم يعرض له عامل علي، فظل قاضيًا حتى كانت الفتنة، وأقبلت أم المؤمنين ومعها هذان الشيخان إلى البصرة، وحاول كعب أن يصلح بين الناس فلم يبلغ من ذلك شيئًا. وحاول أن يحمل قومه الأزد على اعتزال الفتنة وترك البصرة فلم يبلغ من ذلك شيئًا، وقال له رئيس القوم صبرة بن شيمان: ما أرى إلا أن نصرانيتك القديمة قد أدركتك، أتريد أن نترك ثقل رسول الله ﷺ؟! وأراد أن يعتزل الفتنة وحده بعد أن أبى قومه أن يتبعوه فلم يبلغ من ذلك شيئًا، عزمت عليه أم المؤمنين ألا يتركها، فأقام معها مستجيبًا لعاطفته الدينية من جهة ولعاطفة الجوار من جهة أخرى، كأنه قدَّر أن أم المؤمنين حين عزمت عليه ألا يتركها قد أرادت أن تتخذه لها جارًا، فأقام معها وجعل مع ذلك يحاول الإصلاح بين الناس، ولم يكن يشفق من شيء كما كان يشفق من التقاء الجمعين ووقوف بعض القوم لبعض، كان يرى أن في ذلك تحريضًا على القتال ودعاء إليه، فما أسرع ما يعزب حلم الحليم! وما أسرع ما يستخف الطيش سفهاء الناس في مثل هذه المواطن!
ولكن الجمعين قد التقيا على تعبئة ذات صباح، وخرج علي حتى كان بين الفريقين فدعا إليه طلحة والزبير ليكلمهما، فخرجا إليه، وتواقف ثلاثتهم وسأل علي صاحبيه: ألم تبايعاني؟ قالا: بايعناك كارهين ولست أحق بها منا. فقال لطلحة: أحرزت عرسك وخرجت بعرس رسول الله ﷺ تعرضها لما تتعرض له؟! وقال للزبير: كنا نعدُّك من آل عبد المطلب حتى نشأ ابنك ابن سوء ففرق بينك وبيننا. يريد ابنه عبد الله وأمه أسماء بنت أبي بكر؛ تعصب لأخواله من تيم فخرج مع عائشة خالته ومع طلحة التيمي من عمومته، ولم يحفل بأن أباه الزبير كان ابن صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله وعمة علي، ثم قال علي للزبير: أتذكر يوم قال لك رسول الله: إنك ستقاتلني ظالمًا لي؟ فذكر الشيخ هذا الحديث وتأثر به، وتأثر كذلك بقرابته من علي والنبي، وقال لعلي: لو ذكرتُ ذلك ما خرجتُ، والله لا أقاتلك أبدًا.
ورجع إلى أم المؤمنين فقال لها: إني لا أرى في هذا الأمر بصيرة. قالت: فتريد ماذا؟ قال: أريد أن أعتزل الناس. وهنا يختلف المؤرخون؛ فقوم يرون أنه مضى لوجهه حتى أدركه ابن جرموز فقتله في وادي السباع بأمر من الأحنف بن قيس أو عن غير أمر منه. وقوم يقولون إن ابنه عبد الله عيَّره الجبن، وقال له: رأيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أن تحتها الموت فجبنت! وما زال به حتى أحفظه. فقال له الزبير: ويلك! إني قد حلفت لا أقاتل عليًّا. فقال عبد الله: ما أكثر ما يُكفِّر الناس عن أيمانهم! فأعتق غلامك سرجيس وقاتل عدوك. ففعل وانهزم مع الناس.
ونحن إلى الرواية الأولى أَمْيَل، فقد كان الزبير رقيق القلب، شديد الخوف من الله، شديد الحرص على مكانته من رسول الله. وكانت حيرته شديدة منذ وصل إلى البصرة ورأى ما رأى من افتتان الناس واختلافهم، وازدادت حيرته حين عرف أن عمار بن ياسر قد أقبل في أصحاب علي، وكان المسلمون يتسامعون بقول النبي ﷺ لعمار: «ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية.» فلما عرف أن عمارًا في جيش علي أصابته رعدة شديدة إشفاقًا من أن يكون من هذه الفئة الباغية، وقد تماسك مع ذلك حتى لقي عليًّا وسمع منه ما سمع، وهنالك استبانت له بصيرته، فانصرف عن القوم ولم يقاتل حتى قُتِل غيلة بوادي السباع، وقد حزن علي لمقتله وبشر قاتله بالنار، وأخذ سيف الزبير بيده وهو يقول: سيفٌ طالما جلا الكرب عن وجه رسول الله ﷺ.
مضى الزبير إذن ولم يقاتل، وكأن انصرافه قد فت في أعضاد أصحابه فلم يقتتلوا إلا ضحوة يومهم ذاك ثم انهزموا، وجعل طلحة يحرِّضهم وهو جريح، أصابه سهم طائش في بعض الروايات، أو سهم رماه به مروان بن الحكم، وكان من أصحابه. وكان مروان يقول: والله، لا طالبت بثأر عثمان بعد اليوم. وقال لبعض ولد عثمان: لقد كفيتك ثأر أبيك من طلحة.
ومهما يكن من شيء، فقد انهزم الناس وأُصِيب طلحة وعرف أنه ميت، فجعل ينظر إلى دمه وهو ينزف ويقول: اللهمَّ خذ لعثمان مني حتى يرضى. ثم أمر مولاه أن يأوي به إلى مكان ينزل فيه، فأوى به — بعد جهد — إلى دار خربة من دور البصرة، فمات فيها بعد ساعة.
وظن الناس أن الحرب قد وضعت أوزارها، وأن النصر قد كُتِب لعلي وأصحابه، وكان علي قد تأذن في أصحابه ألا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا هاربًا، ولا يدخلوا دارًا، ولا يحوزوا مالًا، ولا يؤذوا امرأة. وإن عليًّا لفي بعض أمره يظن أن الحرب قد وضعت أوزارها، وأن النصر قد أُتِيح له، وإذا هو يسمع عجيجًا وضجيجًا شديدين، فيسأل فيُقال له: إنما عائشة تحرِّض الناس وتلعن قتلة عثمان، والناس يلعنون معها قتلة عثمان. فيقول علي: يلعنون قتلة عثمان؟! والله ما يلعنون إلا أنفسهم، فهم قتلوه، اللهم العن قتلة عثمان.