الفصل الثالث عشر
وكان علي — صباح ذلك اليوم حين استيأس من طلحة وعرف أنه يأبى إلا الحرب — قد كف أصحابه كفًّا شديدًا عن أن يبدءوا بالقتال حتى يأمرهم، وجعل شباب أهل البصرة والسفهاء منهم خاصة، يحاولون إنشاب القتال؛ فينضحون أصحاب علي بالنبل حتى أصابوا منهم نفرًا، فجعل أصحاب علي يحملون من أُصِيب منهم إلى علي ويتعجلون إذنه بالقتال، وهو مع ذلك مستأنٍ لا يجيبهم إلى ما يطلبون. فلما كثر ذلك من أهل البصرة دفع علي مصحفًا إلى فتى من أهل الكوفة وأمره أن يقف به بين الصفين وأن يدعو القوم إلى ما فيه، وأنذره بأنه مقتول إن نهض بهذه المهمة، فشك الفتى غير طويل، ثم أخذ المصحف وانطلق به حتى وقف بين الصفين وجعل يدعو القوم إلى ما فيه، فرشقوه بالنبل رشقًا واحدًا فقتلوه.
وتكثر الرواة بعد ذلك، فقالوا: رفع الفتى المصحف بيمينه فقطعوها، فأخذ المصحف بشماله فقطعوها، فأخذ المصحف بأسنانه أو بين منكبيه حتى قُتِل.
والشيء المحقق أن الفتى قُتِل وهو يدعوهم إلى ما في القرآن، فقال علي لأصحابه: الآن طاب الضراب. وكانت الموقعة الأولى صدر النهار، وكانت الهزيمة حتى زالت الشمس، فلما انهزم الناس أقبل المتحمسون من أصحاب طلحة والزبير، وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير في أكبر الظن، فأخرجوا أم المؤمنين من بيتها في المسجد الذي استترت فيه، وأدخلوها هودجًا مصفحًا بالدروع، وحملوها على جملها ذاك، وأشهدوها ميدان الوقيعة، فثاب المنهزمون إلى أمهم ورأوا أنهم لا يحمون أمهم فحسب وإنما يحمون زوج رسول الله وحبيبته؛ فثارت في نفوسهم عقدة غريبة؛ فيها الشعور الديني القوي، وفيها الشعور بحرمة العرض وحماية الأم والذود عن الذمار. واجتمع الناس حول أمهم مستقتلين يكرهون أن تُصاب أم المؤمنين بأذى في بلدهم وهم شهود.
وكان جمل عائشة — فيما يقول بعض من شهد الوقعة — راية أهل البصرة، يلوذون به كما يلوذ المقاتلون براياتهم، وما أسرع ما أفاق المنتصرون من انتصارهم حتى أقبلوا على خصمهم أولئك يريدون أن يهزموهم آخر النهار كما هزموهم وجه النهار! وهنا يظهر كعب بن ثور قاضي البصرة، وقد برز بين الصفين وعلق في عنقه مصحفًا، وجعل يدعو أولئك وهؤلاء إلى كتاب الله وما فيه وينهاهم عن الشر. ولكن أصحاب علي رشقوه بالنبل رشقًا واحدًا فقتلوه، كأنهم ثأروا لفتاهم ذاك الذي قُتِل وهو يحمل المصحف بين الصفين حين ارتفع الضحى.
واقتتل الفريقان قتالًا شديدًا منكرًا، يريد أصحاب علي ألا يفلت منهم النصر بعد أن أحرزوه، ويريد أصحاب عائشة أن يحموا أم المؤمنين ويموتوا دونها، واقتتل القوم حتى كره بعضهم بعضًا وحتى ملَّ بعضهم بعضًا وحتى يئس بعضهم من بعض. ثم هذه صيحات ترتفع في الجو تأتي من يمين ومن شمال، وتدعو المقاتلين إلى أن يطرِّفوا، أي إلى أن يقطع بعضهم أطراف بعض. وهم يقبلون على هذا النكر من الأمر يقطع بعضهم أيدي بعض ويقطع بعضهم أرجل بعض، ولا يكاد أحدهم تُقطَع يده أو رجله حتى يستقتل إلى أن يُقتَل. وقد كاد أصحاب عائشة أن ينهزموا، ولكن الجمل قائم لا يريم، وعليه هودجه لا يضطرب، وفي الهودج أم المؤمنين تحرض الناس فتردهم إلى الحماسة والجرأة بعد الخوف والفَرَق، وهم يثبتون حول الجمل لا يريدون انتصارًا ولا يريدون فوزًا، وإنما يريدون أن يحموا أمهم، وراجزهم يرتجز:
وهي تتحدث إلى من عن يمينها محرضة، وإلى من عن شمالها محمسة، وإلى من أمامها مذكرة، وأصحاب علي يلحون على هؤلاء المستقتلين، وراجزهم يرتجز:
فيجيبه راجز أصحاب عائشة:
وما يزال أولئك يستقتلون وهؤلاء يشتدون عليهم، حتى كان لا يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قُتِل من دونه، وقد رأى علي هذا القتل الذريع، فراعه نُكر ما رأى، وصاح بأصحابه: اعقروا الجمل؛ فإن في بقائه فناء العرب. فيهوي إليه رجل من أصحابه بالسيف فيعقره، ويخر الجمل إلى جنبه وله عجيج منكر لم يُسمَع مثله.
وهنالك — وهنالك فحسب — يتفرق حماة الجمل كما ينتشر الجراد، ويقبل محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر فيحتملان الهودج وينحيانه ناحية، ويضرب محمد على هودج أخته فسطاطًا، ويأمره علي أن ينظر أأصابها مكروه، فيدخل رأسه في الهودج، فتسأله: من أنت؟ فيقول: أبغض أهلك إليك. فتقول: ابن الخثعمية؟ فيقول: نعم؛ أخوك محمد. ويسألها: أأصابها مكروه؟ فتقول: مِشقص في عضدي. فينتزعه، ويأتي علي مغضبًا، ولكنه على ذلك متماسك يملك نفسه ويضبطها أشد الضبط، فيضرب الهودج برمحه ويقول: كيف رأيت صنيع الله يا أخت إرم؟! فتقول: يا ابن أبي طالب، ملكت فأسجح. فيقول علي: غفر الله لك. وتجيب عائشة: وغفر لك.
ثم يأمر عليٌّ محمدَ بن أبي بكر أن يُدخل أخته دارًا من دور البصرة، فيحملها حتى يدخلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي، فتقيم فيها أيامًا.