الفصل الرابع عشر
وكذلك اقتتل الناس حول طلحة حتى انهزموا وجه النهار وقُتِل طلحة، ثم اقتتلوا آخر النهار حتى انهزموا حين أقبل الليل وسلمت عائشة، ورأى المسلمون يومًا لم يروا مثله شناعةً ولا بشاعة ولا نكرًا، سلَّ المسلمون فيه سيوفهم على المسلمين، وقتل خيارُ المسلمين فيه خيارَ المسلمين، فقُتِل من أولئك وهؤلاء جماعة من جلة أصحاب النبي ومن خيرة فقهاء المسلمين وقرائهم، وحزن عليٌّ لذلك أشد الحزن وأقساه. فكان يتعرف القتلى من أصحابه ومن خصمه ويتوجع لأولئك وهؤلاء، ويترحم على أولئك وهؤلاء، ويتجه إلى الله ربه فيقول:
وكأن العرب في ذاك اليوم قد عادت إلى جاهليتها الجَهْلاء وضلالتها العمياء، ونسيت دينها السمح أو كادت تنساه، أو كأن العرب في ذلك اليوم قد جُنَّ جنونها وفقدت صوابها فلم تدرِ ما تأتي ولا ما تدع، أو كأن الفتنة قد شُبِّهت على العرب حتى رأى المسلمون أنفسهم في ظلمة ظلماء لا يرون، حتى كأنهم الذين وصفهم الله في القرآن حين قال: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ إلى آخر الآيات، إلا أنهم كانوا مسلمين، يرى كل منهم أنه يغضب لله ويقاتل ويُقتَل ويموت في سبيل الله؛ ولهذا لم يبعد عليٌّ حين قال لأصحابه حين سألوه قبل الموقعة: إن من قاتل فقُتِل وهو لا يريد بقتاله إلا الحق ولا يبتغي به إلا رضى الله فهو شهيد، وقد أنفذ علي أمره كله، فأمن الناس إثر سقوط الجمل، واشتد على أصحابه في ألا يجهزوا على جريح ولا يتبعوا فارًّا ولا يدخلوا دارًا ولا يهتكوا سترًا، ولم يقسم بين أصحابه غنيمة إلا ما أجلب به أهل البصرة من خيل أو سلاح، لم يكن ملكًا لبيت المال، بل تجاوز إلى أبعد من ذلك وأمر بجمع ما ترك أهل البصرة في الميدان وحمله إلى المسجد، ونادى مناديه في الناس: من عرف منه شيئًا فليأخذه.
وكأن الليل قد رد إلى القوم عوازب أحلامهم، وأصبحوا جميعًا محزونين لا فرق في ذلك المنتصر والمنهزم، وأقبل علي من غده فصلى على القتلى جميعًا من شيعته ومن خصمه، وأذن للناس في دفن موتاهم، وجمع الأطراف الكثيرة فاحتفر لها قبرًا كبيرًا ودفنها فيه، وأقام في معسكره خارج البصرة، فلم يدخل المدينة إلا بعد ثلاث.
وواضح أن هذه الموقعة المنكرة قد تركت في نفوس المسلمين أعمق الأثر وأبقاه، وقد كانت على ذلك كله مصدرًا خصبًا لخيال القصاص والشعراء، فقصوا حتى أسرفوا في القصص، وأضافوا من رائع الشعر والرجز إلى المقتتلين ما لم يقولوا إلا أقله، وهم على ذلك لم يبلغوا وصف هذه الموقعة الشنيعة البشعة، ومتى استطاع الأدب — على خصبه ونفاذه وقوته — أن يصور ما في قتال الإخوان للإخوان، وفتك الآباء بالأبناء، والأبناء بالآباء، وتجاوز هذه الحرمات التي لا يُباح للناس أن يتجاوزوها، فيصيب بتصويره الغاية ويبلغ به المدى؟! وصدق من قال من أصحاب النبي حين بلغه قتل عثمان: لقد كنتم تحتلبونها لبنًا؛ فلن تحتلبوها منذ اليوم إلا دمًا.
وقد كثر القتلى والجرحى من أولئك وهؤلاء، واختلف الرواة في إحصاء القتلى، فمنهم من بلغ بهم عشرين ألفًا، ومنهم من لا يتجاوز بهم عشرة آلاف، وفي هذا الإحصاء وأمثاله إسراف كثير، ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن كثيرًا جدًّا من دور البصرة والكوفة قد سكنها الحزن والثكل والحداد، وكان ذلك ابتداء مشئومًا لخلافة كان يُرجَى أن تكون كلها بركة ويمنًا للمسلمين.
ولكن ستة أشهر لم تمضِ على خلافة علي حتى جرت دماء المسلمين غزارًا بأيدي المسلمين وأصبح بأسهم بينهم شديدًا.