الفصل الخامس عشر
ودخل علي البصرة بعد الموقعة بثلاثة أيام، فجاء المسجد فصلى فيه وجلس للناس صدر النهار، فلما أمسى ركب لزيارة عائشة ومعه جماعةٌ من أصحابه، فبلغ دار عبد الله بن خلف الخزاعي، وكانت أعظم دار في البصرة، ولم يكد يدخل حتى لقيته ربة الدار صفية بنت الحارث العبدرية شر لقاء، قالت له: يا علي، يا قاتل الأحبة، يا مفرق الجماعة، أيتم الله بنيك منك كما أيتمت بني عبد الله. وكان زوجها عبد الله بن خلف وأخوه عثمان قد قُتِلا في الموقعة، فلم يجبها علي وإنما مضى حتى دخل على عائشة، فلما جلس إليها قال: جبهتنا صفية، أما إني لم أرها منذ كانت جارية حتى اليوم. ثم أخذ معها فيما كان بينهما من حديث، فلما انصرف تلقته صفية فأعادت عليه مقالتها تلك، وأراد علي أن يسكتها عنه، فجعل يقول — وهو يشير إلى أبواب الحجرات المغلقة: لقد هممت أن أفتح هذا الباب وأقتل من وراءه، وأن أفتح هذا الباب وأقتل من وراءه. فلما سمعت صفية ذلك سكتت عنه وخلت له طريقه، وكان في تلك الحجرات كثير من الجرحى من أصحاب عائشة، آوتهم عائشة إلى هذه الدار وأمرت بتمريضهم حتى يبرءوا، وكان علي يعلم بمكانهم، ولا شك في أنه لم يكن يريد أن يقتل منهم أحدًا، وإنما خوَّف تلك القرشية فخلَّت بينه وبين طريقه.
وهمَّ بعض أصحاب علي أن يبطشوا بهذه القرشية، فزجرهم علي زجرًا عنيفًا، وقال: لقد كنا نُؤمَر بالكف عن النساء وهن مشركات، ولقد كان الرجل ينال المرأة بالضربة فيُعيَّر بذلك عَقِبُه، فلا يبلغني أن أحدًا منكم قد عرض لامرأة بسوء إن آذتكم وشتمت أمراءكم؛ فأنزل به أشد العقوبة.
ولم يكد يبعد عن الدار قليلًا حتى أقبل رجل فأنبأه بأن اثنين من أهل الكوفة قاما على باب الدار فقالا لعائشة قولًا غليظًا، يرفعان به صوتهما لتسمعه، قال أحدهم: جُزِيت عنا أمنا عقوقًا. وقال الآخر: يا أمنا توبي؛ لقد خطئت.
فأرسل علي من جاءه بالرجلين وبمن كان معهما من الرجال، فلما تثبَّت أنهما قالا مقالتهما تلك أمر بقتلهما بادي الرأي، ثم خفَّف العقوبة، فأمر بأن يُضرَب كل واحد منهما مائة سوط.
وسار علي في أهل البصرة سيرة الرجل الكريم الذي يَقدِر فيعفو ويملك فيسجح، وكان يقول: سرت في أهل البصرة سيرة رسول الله ﷺ في أهل مكة. ثم جلس لهم فبايعوه على راياتهم، بايعه منهم الصحيح والجريح، ثم عمد بعد ذلك إلى بيت المال، فقسم ما وجد فيه على الناس، وقوم يرون أنه قسمه في أصحابه دون خصمه من أهل البصرة، ووعدهم مثل ذلك إلى أعطياتهم إن أظفرهم الله بأهل الشام، والأشبه بسيرة علي أنه قسم المال في الغالبين والمغلوبين جميعًا. ومن أجل ذلك غضب الثائرون بعثمان؛ لأنه لم يفرق بين شيعته وبين عدوه، وغضبوا كذلك لأنه لم يُبِح لهم أن يأخذوا ما ظفروا به بعد الهزيمة، وقال قائلهم: أحل لنا دماءهم وحرم علينا أموالهم!
ويقول بعض المؤرخين: إن هؤلاء الثائرين — الذين يحب الطبري ورواته أن يسموهم السبئية — قد خفوا من البصرة إلى الكوفة؛ فأعجلوا عليًّا واضطروه إلى أن يلحقهم مخافة أن يحدثوا في الكوفة حدثًا. وأكبر الظن أن الأمر لم يبلغ بهم هذا الحد، وإنما جمجموا ببعض ما وجدوا من الغضب ثم لم يزيدوا على ذلك، كما جمجم الأشتر — فيما يُروَى — حين ولَّى علي على البصرة عبد الله بن عباس. وقال الأشتر — فيما يُروَى: ففيمَ قتلنا الشيخ إذن؟! عبد الله على البصرة وعبيد الله على اليمن وقثم على مكة، وكلهم من بني العباس. ويزعم رواة الطبري أن الأشتر غضب وارتحل مسرعًا إلى الكوفة، فأمر علي بالرحيل ليلحق به قبل أن يحدث حدثًا.
وما أرى إلا أن هذا كله قد تكلفه الرواة بأخرة، وما أكثر ما كان الناس ينكرون من خلفائهم هذا الأمر أو ذاك ثم لا يتجاوزون هذا الإنكار بألسنتهم! أنكروا على أبي بكر، وأنكروا على عمر، وأنكروا على عثمان في الصدر الأول من خلافته، ثم لم يزيدوا على ذلك شيئًا.
والناس يختلفون في المدة التي أقامها علي بالبصرة، قوم يرون أنه لم يقم فيها إلا شهرًا أو أقل من شهر، وقوم يرون أنه أقام فيها شهرين أو أكثر قليلًا، ونميل نحن إلى أنه لم يُطل المقام في البصرة، وإنما كانت أمامه أمور دبرها ثم ارتحل إلى الكوفة متعجلًا، يريد أن يستعد لحرب أهل الشام بعد أن صرفته عن حربهم فتنة هؤلاء الذين كان يسميهم الناكثين؛ لأنهم بايعوا ثم نقضوا البيعة. وكان من أهم هذه الأمور أن يفرغ من أمر الموقعة وأعقابها، وأن يطمئن على أمر البصرة بعد انصرافه عنها، وقد جعل يستصلح الناس فيعفو عنهم ويعطيهم الرضى، ويؤمن الخائف منهم ويتجاهل مكان العدو.
وقد أظهر الجهل بما كان من أمر جماعة بني أمية، أصابتهم جراحات في الموقعة وأشفقوا ألا يؤمِّنهم علي فتشتتوا في الأرض وطلبوا الجوار إلى أشراف العرب، فأجاروهم وأقاموا على تمريضهم ثم أبلغوهم مأمنهم، وعلي يعلم هذا كله ويخفي علمه به لأنه لم يكن يريد بأحد بعد الموقعة شرًّا، وكان يعلم أن عائشة قد ضمت إليها كثيرًا من الجرحى، فلم يعرض لهم بسوء ولم يُخفِ علمه بمكانهم، وإنما قاله لصفية بنت الحارث حين اعترضته شاتمةً له داعية عليه.
واستخفى عبد الله بن الزبير بجراحاته الكثيرة، ثم أرسل إلى أم المؤمنين ينبئها بمكانه وطلب إلى رسوله ألا يؤذن بذلك محمد بن أبي بكر؛ فذهب الرسول فأبلغ أم المؤمنين، فأرسلت إلى أخيها محمد وقالت له: اذهب إلى مكان ابن أختك فأتني به. وذهب محمد إلى ابن أخته فأتى به، وجعل يتشاتمان طول الطريق، يشتم محمد عثمان ويشتم عبد الله خاله محمدًا.
وكذلك ثاب الناس إلى كثير من العافية والإسماح، وجعلت ثورة القلوب تهدأ قليلًا قليلًا وتترك فيها حسرات تختلف قوة وضعفًا باختلاف هذه القلوب.
وكانت عائشة — فيما يروي المؤرخون والمحدِّثون — أشد المغلوبين حسرة وأعظمهم ندمًا وكانت تتلو: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ إلى آخر الآية، ثم تبكي حتى يبتل خمارها، وكانت تقول: وددت لو أني مت قبل هذا اليوم بعشرين عامًا. وكانت تقول بعد رجوعها إلى الحجاز: والله إن قعودي عن يوم الجمل لأحب إلي لو أتيح لي من أن يكون لي عشرة بنين من رسول الله ﷺ.
وكان أشد الناس حسرةً وأعظمهم أسى بين الغالبين عليٌّ نفسه، فقد كان يقول: لو عرفت أن الأمر يبلغ بنا ما بلغ لما دخلت فيه. وكان يقول:
وكان يقول: وددت لو أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. كما كانت تقول عائشة.
وكان من الأمور ذات الخطر التي أراد علي أن يفرغ منها قبل أن يترك البصرة رد عائشة إلى المدينة لتقر في بيتها كما أمرها الله، وقد تعجلها في الرحيل فاستأجلته أيامًا، كأنها كانت تريد أن تطمئن على الجرحى، فأجلها علي أيامًا ثم جهزها بجهاز ملائم لمكانتها، وأرسل معها جماعة من رجال ونساء. وخرجت عائشة يوم سفرها فسلم الناس عليها وودعوها، وأمرتهم بالخير وأنبأتهم أنه لم يكن قط بينها وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وصدَّق علي أمام الناس مقالتها وشيَّعها، وشيعها الناس معه حتى أبعدوا، وأمر بنيه فساروا معها يومًا كله ثم رجعوا.
وأمَّرَ علي على البصرة عبد الله بن عباس، وما نرى أنه كان يستطيع أن يؤمِّر غيره؛ فالكثرة في البصرة مضرية، وما ينبغي أن يُؤمَّر عليها بعد الفتنة إلا رجل من مضر شديد القرابة من علي، وأمَّر علي زيادًا على الخراج، وارتحل إلى الكوفة، فلما بلغها وجد فيها حزنًا وخوفًا، وجد الحزن عند الذين أُصِيب أبناؤهم وإخوانهم وآباؤهم، ووجد الخوف عند الذين لم ينفروا معه فأشفقوا أن يسخط عليهم، ولكنه واسى أولئك واستصلح هؤلاء وجعل يستعد لحرب أهل الشام.