الفصل السادس عشر
ولم يُضع شيئًا من وقته، ولم يرفق بنفسه ولا بأصحابه، فلم يكد يفرغ من حرب الناكثين — كما كان يسميهم — حتى جعل يتأهب لحرب القاسطين كما كان يسميهم كذلك. وصل إلى الكوفة في أواخر رجب، فلم يقم فيها إلا أربعة أشهر استعد أثناءها للحرب.
ولم يكن أصحابه يرفقون بأنفسهم أيضًا، فقد كان المنتصرون منهم حراصًا على أن يضيفوا نصرًا إلى نصر، وكان المتخلفون منهم حراصًا على أن يعوضوا ما فاتهم به أصحابهم الذين قاتلوا يوم الجمل، وأن يرضوا عليًّا عن أنفسهم بما يبلون في الحرب المقبلة من بلاء.
وكانت الحرب المقبلة محتاجة إلى البلاء الحسن كله؛ فالخصم في الشام عنيف يحيط به جند أولو قوة وأولو بأس شديد، فأما عنف هذا الخصم وهو معاوية فيمكن أن نقدره حين نلاحظ أنه ابن أبي سفيان الذي حارب النبي بعد بدر، فأبلى في حربه أشد البلاء وأقواه، وأظهر في هذه الحرب قوة وقسوة وكيدًا ودهاء، ولم يسلم إلا بأخرة حين لم ير من الإسلام بدًّا، وحين لم يكن له إلا أن يختار بين الإسلام والموت. وقد ورث معاوية عن أبيه قوته وقسوته وكيده ودهاءه ومرونته كذلك، ولم تكن أم معاوية بأقل من أبيه تنكرًا للإسلام وبغضًا لأهله وحفيظة عليهم، وهم قد وتروها يوم بدر، فثأر لها المشركون يوم أحد، ولكن ضغنها لم يهدأ وحفيظتها لم تسكن حتى فُتِحت مكة فأسلمت كارهة كما أسلم زوجها كارهًا. وقد ولى عمر معاوية على الشام، فلم يعزله عنها على كثرة ما كان عمر يحب أن يغير العمال، رضي عن سياسته للشام وجند الشام وعن ثباته للروم، وكان عمر يكفكف من غلواء معاوية وطموحه إلى الفتح ورغبته في أن يغزو البحر كما غزا البر، ثم جاء عثمان فغير عمال عمر جميعًا بعد ولايته بوقت قصير إلا معاوية، فإنه أقره على عمله رضى عنه كما رضي عنه عمر، وركن إليه أكثر مما ركن إلى غيره من العمال لقرابته وقوته وحسن تدبيره للأمر وحسن تصرفه في المشكلات، وخروجه من المآزق ونفوذه في الخطوب حين تدلهم، وكان إذا ضاق عماله ببعض المعارضين من أهل الكوفة والبصرة أمر عامله في هذا المصر أو ذاك بنفي هؤلاء المعارضين إلى الشام حيث يتلقاهم معاوية فيؤدبهم باللين والرفق ما وسعه اللين والرفق، ويؤدبهم بالشدة والعنف حين لا يرى من الشدة والعنف بدًّا.
وقد ضاق معاوية برجل عظيم الخطر من أصحاب النبي هو أبو ذر، كما رأيت فيما مضى من هذا الكتاب، ولم يستطع أن يبطش به لمكانه من رِضَى رسولِ الله عنه وإيثاره إياه ولسابقته في الإسلام، ولم يستطع أن يفتنه عن دينه بالمال، فشكاه إلى عثمان، وأمره عثمان بتسييره إلى المدينة، ولم يطق عثمان نفسه معارضة أبي ذر فأخرجه من المدينة واضطره إلى أن يقيم في الرملة حتى مات.
ووفد معاوية على عثمان في آخر أيامه، حين كثر قول الناس فيه وإنكارهم عليه، فاقترح — فيما يَروي المؤرخون — أن ينتقل معه إلى الشام، فكره عثمان أن يترك جوار النبي ﷺ، فاقترح عليه معاوية أن يرسل إليه جندًا من أهل الشام يحتلون المدينة ويقومون فيها دونه، فأبى عثمان أن يُضيِّق بهؤلاء الجند على أهل المدينة، وخرج معاوية فأوصى المهاجرين بالشيخ خيرًا ولمَّح لهم بالنذير إن هم أعانوا عليه أو قصروا في ذاته.
ولكنه عاد بعد ذلك إلى الشام وعرف اشتداد النكير على عثمان، وعرف بعد ذلك أن عثمان قد حُصِر فلم يَخفَّ لنصره ولم يرسل إليه جندًا، ثم جاءه كتاب عثمان يستغيثه كما استغاث غيره من العمال، فأبطأ عن نصره كما أبطئوا وظل متربصًا حتى قُتِل الشيخ، وهنالك نهض يطلب بدمه، وكان خليقًا لو أراد أن يحقن هذا الدم قبل أن يراق، ولكنه أقام في الشام مطرقًا إطراق الشجاع ينتظر الفرصة المواتية، وقد واتته الفرصة فاهتبلها غير مقصر في اهتبالها وغير متهالك عليها أيضًا، كان مستأنيًا بعيد الأناة، وكان متحفظًا شديد التحفظ، وكان على ذلك نشيطًا أشد النشاط، يُعمل عقله ورويته في غير انقطاع، ويدعو الناس إلى نصره في غير إلحاح أول الأمر، وإنما كان يعظم قتل الخليفة المظلوم، ويهول من أمر هذا الحدث المنكر، حتى انقادت إليه قلوب أهل الشام وضمائرهم، وإذا هم يظهرون من الغضب لعثمان والطلب بدمه أكثر مما كان يظهر، وإذا هم يتعجلونه في النهوض وهو مع ذلك يبطئهم ويستأني بهم، ويحتاط في الأمر لنفسه ولهم، ويبلغ مع ذلك في تألف القلوب واستهواء الضمائر والنفوس، يُطمع هؤلاء ويخيف أولئك، وينتظر بهؤلاء الشيوخ من أصحاب الشورى من المهاجرين والأنصار ليرى ما يصنعون، يدس لبعضهم من بني أمية المرغِّبين والمرهِّبين والمبشِّرين والمنذرين، حتى إذا رأى انحياز طلحة والزبير وعائشة إلى مكة وائتمارهم بقتال علي غضبًا لعثمان لم يَدعُهم إليه ولم ينصرهم بجنده، وإنما ألقى أنصاره في روعهم أن معاوية سيكفيهم الشام وقد يكفيهم مصر، وأن عليهم أن يستأثروا بالعراق من دون علي ليُحصَر علي في الحجاز، ثم يُؤخَذ بين من يخف لحربه من شرق الدولة وغربها.
وقد سمع الشيخان وسمعت عائشة للمشيرين بذلك من بني أمية، فقصدوا إلى البصرة يريدون أن يحتازوها ثم يُغيروا بعد ذلك بأهلها على الكوفة، فإذا فرغوا من العراق كان التعاون بينهم وبين معاوية على علي، ثم تُنظَّم بعد ذلك خلافة ثلاثية، قوامها طلحة والزبير ومعاوية، بعد أن أبى علي هذه الخلافة الثلاثية التي طلبها إليه الشيخان بعد أن بايعاه.
وقد انصرف علي عما كان يتأهب له من حرب معاوية وأهل الشام واشتغل بالشيخين وأم المؤمنين يريد أن يردهم إلى الطاعة، ويريد إن أبوا أن يقاتلهم، ورضي معاوية كل الرضى عن اشتغال هؤلاء الشيوخ من المهاجرين والأنصار بأنفسهم، وفرغ هو لأمره يدبره ويحكم تدبيره، وكان يرى في أكبر الظن أن هؤلاء الشيوخ إذا اقتتلوا وصار بأسهم بينهم شديدًا وَهَنت قوتهم وذهبت ريحهم وأصبح هو أقواهم قوةً وأشدهم بأسًا، فكان مثله مثل ذلك الشجاع الذي ذكره الشاعر القديم في قوله:
وقد اقتتل هؤلاء الشيوخ من المهاجرين والأنصار، فقُتِل طلحة والزبير، وعادت عائشة إلى بيتها في المدينة فاستقرت فيه، وكثر القتل في أهل البصرة والكوفة واستقر الحداد في كثير من دورهم.
ونظر معاوية فإذا هو قد أصبح يلقى عليًّا وجهًا لوجه، وهو بعد ذلك لم يتعرض لحرب، لم يكلم أحدًا ولم يكلمه أحد؛ قوته موفورة، وعدته كاملة، وأصحابه وافرون لم يصابوا في أنفسهم ولا في أموالهم، وهم قد اجتمعوا على حبه ونصره حتى يثأر لابن عمه الخليفة المظلوم.
فأما علي فقد خاض حربًا منكرة قُتِل فيها من شيعته ومن عدوه خلق كثير، فعدُوُّه واجدون عليه لأنه وترهم فيمن قُتِل منهم، وشيعته لا تبرأ من الواجدين عليه لأنه قتل إخوانهم في حرب البصرة.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الفرق بين علي ومعاوية في السيرة والسياسة كان عظيمًا بعيد المدى، عرفت أن معاوية كان ينتظر عليًّا في ثبات وثقة واطمئنان. كان الفرق بين الرجلين عظيمًا في السيرة والسياسة، فقد كان علي مؤمنًا بالخلافة كما تصورها المسلمون أيام أبي بكر وعمر وفي الصدر الأول من خلافة عثمان، يرى أن من الحق عليه أن يقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس، لا يؤثر منهم أحدًا على أحد؛ ويرى أن من الحق عليه أن يحفظ على المسلمين مالهم لا ينفقه إلا بحقه، فهو لا يستبيح لنفسه أن يصل الناس من بيت المال، بل هو لا يستبيح لنفسه أن يأخذ من بيت المال لنفسه وأهله إلا ما يقيم الأود لا يزيد عليه، وإن استطاع أن ينقص منه فعل. وكان علي لا يحب الادخار في بيت المال وإنما ينفق منه على مصالح المسلمين، فإن بقي بعد ذلك شيء قسمه بين الناس بالعدل.
وكان يحب أن يدخل بيت المال فإن وجد فيه شيئًا لا يُحتاج إليه لمصلحة عامة فرَّقه بين الناس بالقسط، ثم يأمر ببيت المال، فيُكسَح ويُنضَح بالماء، ثم يصلي فيه ركعتين، ثم يقول: هكذا يجب أن يكون بيت المال. كان عليٌّ إذن في إنفاق دائم على الناس، ولكن على أساس ثابت من العدل والقسط.
فأما معاوية فكان يسير سيرة أقل ما توصف به أنها سيرة الرجل العربي الجواد الداهية، يعطي الناس ما وسعه إعطاؤهم، ويصل الذين يريد أن يتألفهم من الرؤساء والقادة، لا يجد في ذلك بأسًا ولا جناحًا، فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزاهدون يجدون عند علي ما يحبون.
وما رأيك في رجل جاءه أخوه عقيل بن أبي طالب مسترفدًا، فقال لابنه الحسن: إذا خرج عطائي فسر مع عمك إلى السوق فاشترِ له ثوبًا جديدًا ونعلين جديدتين. ثم لم يزد على ذلك شيئًا؟ وما رأيك في رجل آخر يأتيه عقيل هذا نفسه بعد أن لم يرضَ صلة أخيه فيعطيه من بيت المال مائة ألف؟
كان معاوية إذن يعتمد على مذهبه هذا في السياسة، ويعلم أنه سيضم إليه كل من كان له أرب في الدنيا، ثم لم يكن يقف صِلاته على أهل الشام، وإنما كان له عيونه في العراق يرغِّبون ويرهِّبون ويوصلون الأموال سرًّا، ولم يكن علي من هذا كله في شيء، لم يكن يحرص على شيء كما كان يحرص على الأمانة في المال وعلى الوفاء بالعهد وعلى ألا يدهن في الدين، ولم يكن يبغض شيئًا كما كان يبغض وضع درهم من بيت مال المسلمين في غير وضعه أو إنفاقه في غير حقه، كما كان يبغض المكر والكيد وكل ما يتصل بسبب من أسباب الجاهلية الأولى، كان الحق أمامه بيِّنًا، فكان يمضي إليه مصممًا ويدعو أصحابه إلى أن يمضوا إليه مصممين.
وكان الباطل بينًا، فكان يعرض عنه عازمًا ويدعو أصحابه إلى أن يعرضوا عنه عازمين، وكان له من أجل ذلك أنصار يحبونه ويخلصون له الحب ويذودون عن سلطانه بأنفسهم وأموالهم، وهو لذلك لم يكد يستقر في الكوفة حتى جعل أصحابه يطلبون إليه أن ينهض بهم إلى عدوهم من أهل الشام، ولكنه على ذلك أبى أن يمضي إلى الشام قبل أن يرسل السفراء إلى معاوية يدعوه إلى الطاعة والدخول فيما دخل فيه الناس، لتكون حجته ظاهرة، وليتبعه من تبعه على بينة من أمره وعلى هدى من الله.