الفصل السابع عشر
وقد أرسل علي رجلًا من أصحاب النبي؛ هو جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية، يطلب إليه أن يبايع وأن يدخل فيما دخل فيه الناس، ويبيِّن له حجة علي فيما يطلب إليه. وانتهى جرير إلى معاوية فكلمه ووعظه وألح عليه في الكلام والوعظ، ولكن معاوية جعل يسمع منه ولا يقول له شيئًا، وإنما يطاوله ويسرف في مطاولته، ويدعو مع ذلك وجوه أهل الشام ورؤساء الأجناد فيظهر مشاورتهم فيما يطلب إليه علي، ويعظم لهم قتل عثمان ويحرضهم على الوفاء للخليفة المظلوم والطلب بدمه.
وهنا يظهر عمرو بن العاص الذي لم يكن أقل دهاء ولا أدنى مكرًا ولا أهون كيدًا من معاوية، وكان عمرو بن العاص قد وجد على عثمان حين عزله عن مصر، فلما ظهرت الفتنة كان من المعارضين لعثمان، وكانت معارضته الخفية أشد من معارضته الظاهرة، فكان يؤلب الناس ويحرضهم ما وسعه ذلك سرًّا، على أنه مع ذلك لم يتردد أن قال لعثمان جهرة في المسجد: «إنك قد ركبت بالناس نهابير وركبناها معك؛ فتب إلى الله نتب.» وتلقى عثمان منه ذلك أسوأ لقاء، فلما اشتدت الفتنة وعرف عمرو أنها منتهية إلى غايتها آثر أن يعتزلها في طورها ذاك، فخرج إلى أرض كان يملكها بفلسطين فأقام فيها وجعل يتنسم الأخبار.
وخرج معه إلى فلسطين ابناه عبد الله ومحمد، وكان عبد الله رجل صدق مخلصًا في دينه، زاهدًا في دنياه، قد صحب النبي وأخذ عنه كثيرًا من سننه، والتزم سيرة الورع والتقوى والترفع عن الدنيات، وكان أخوه محمد فتى من فتيان العرب ثم من فتيان قريش، لم يعرض عن الدنيا ولم يزهد فيها، وإنما طمع فيما يطمع فيه أمثاله من السعة والدعة والتقدم وبُعْد الصوت.
وكان عمرو وابناه على ما هم عليه في فلسطين حين جاءهم النبأ بقتل عثمان، فقال عمرو: «أنا أبو عبد الله ما حككت قرحةً إلا أدميتها.» يريد أنه قد مهد للفتنة والثورة بعثمان فأحكم التمهيد وانتهى الأمر إلى غايته. ثم جاءه الخبر بأن الناس قد بايعوا عليًّا، وبأن معاوية يأبى البيعة ويطالب بثأر عثمان، وبأن أهل الشام جميعًا له ناصرون، فأدار عمرو الأمر بينه وبين ابنيه أي موقف يقف من هذين الرجلين؟
فأما ابنه عبد الله فقد أشار عليه أن يعتزل الناس، حتى إذا اجتمعت الكلمة والتأم الشمل دخل فيما دخل فيه المسلمون، وألح عبد الله على أبيه في ذلك، وذكره بأن النبي والشيخين من بعده قد فارقوا الدنيا وهم عنه راضون، فما ينبغي أن يضيع ما أتيح له من الفضل والمنزلة.
وأما محمد، فقال له: أنت ناب من أنياب العرب، وما ينبغي أن تُبرَم الأمور وأنت متخلف. وأشار عليه بأن يلحق بمعاوية.
فقال عمرو: أما عبد الله فقد أشار علي بما ينفعني في ديني وآخرتي، وأما محمد فقد أشار علي بما ينفعني في دنياي. وأنفق ليلًا مسهدًا يضرب أمره أخماسًا لأسداس، يكره بيعة علي لأنه لا ينتظر من هذه البيعة منفعة أو ولاية أو مشاركة في الحكم، ولأنه يعلم أن عليًّا سيجعله رجلًا من الناس له ما لهم وعليه ما عليهم، ويشفق من اللحاق بمعاوية لأنه يرى أن معاوية يسمو إلى شيء ليس له أهلًا، ولأنه لم يكن يستحب بادئ الرأي أن يفرط في أمر دينه، ولكنه فكر وقدر وأطال التفكير والتقدير، وحاول أن يصبر نفسه على اعتزال الناس، فلم يُطِق صبرًا على الخمول والانتظار.
ولم يكن عمرو قد نسي ولاية مصر التي أُتِيحت له أيام عمر، ولم يكن قد طاب نفسًا عن عزل عثمان إياه عن هذه الولاية، فكان فيما يظهر يحن إلى مصر حنينًا متصلًا، ولم يسفر الصبح له حتى كان رأيه قد استقر على أن يلحق بمعاوية، فارتحل إلى دمشق وارتحل معه ابناه، فلما بلغها ألفى أهل الشام يحرضون معاوية على الطلب بدم عثمان ويحضضونه على النهوض لحرب علي. فما أسرع ما انضم عمرو إلى المحرضين والمحضضين! وجعل يلقى معاوية فيعظم له أمر الخليفة المظلوم، ومعاوية يسمع منه دون أن يظهر احتفالًا بما كان يقول له، كان يؤثر الأناة والتمهل، وكان أهل الشام يتحرقون شوقًا إلى الحرب، يرون في ذلك أداءً لحق الخليفة المقتول وقيامًا بواجب يفرضه عليهم الدين.
وكان عمرو يتعجل الحرب لتظهر حاجة معاوية إليه، فلما طال عليه إعراض معاوية عنه دخل عليه ذات يوم، فتحدث إليه حديثًا صريحًا فهمه معاوية حق فهمه، فلم يلبث أن أظهر العناية بعمرو وجدَّ في أن يتخذه له حليفًا؛ ذلك أن عَمرًا أظهر لمعاوية عجبه من هذا الإعراض عنه، مع أنه إنما يضحي بشيء كثير حين ينضم إليه ويعرض عليه معونته بالرأي واليد واللسان، على ثقة منه بأن معاوية ليس على الحق، وبأن خصمه هو صاحب الحق، وبأن الانتصار لمعاوية واللياذ به إنما هما سبيل الدنيا لا سبيل الدين. فقد سمع معاوية ذلك وفهمه واستيقن أن عمرًا إن انصرف عنه كاد له فأبلغ في الكيد، وأن من الخير أن يستصلحه ويستخلصه لنفسه ويعطيه جزاءه من هذه الدنيا التي يطلبها ويتهالك عليها.
وعمرو بعد ذلك صاحب حرب ومكيدة، فتح فلسطين وفتح مصر واطمأن إليه عُمر منذ فتح مصر إلى أن قُتِل، وهو بعد هذا كله داهية من دواهي العرب وشيخ ذو مكانة من شيوخ قريش. ويقول المؤرخون: إن معاوية سأل عمرًا عما يريده ثمنًا لانضمامه إليه، فطلب إليه عمرو أن يطعمه مصر حياته، واستكثر معاوية هذا الثمن، وكان بين الرجلين شيء من مشادة، حتى كاد عمرو أن يرتحل ويعود أدراجه مغاضبًا، ولكن عتبة بن أبي سفيان دخل بين الرجلين، وما زال بمعاوية أخيه حتى أرضاه بالنزول لعمرو عن مصر أثناء حياته، وكُتِب بهذا الاتفاق بين الرجلين عهد مؤكَّد.
فلما لقي عمرو ابنيه لم يرضيا عن هذا الثمن وإنما استقلاه وسخرا منه، يذهب عبد الله في ذلك إلى أن أباه قد باع دينه بثمن قليل، ويذهب محمد إلى أن أباه قد باع رأيه بثمن قليل.
ومهما يكن من شيء فقد التأم حول معاوية جمع ليس به بأس من أولي مشورته في الشام، وهم: رؤساء الأجناد، وشيوخ القبائل، وأهل بيته من بني أبي سفيان، وبنو عمومته من بني أمية، وانضم إليه عمرو بن العاص. وكلهم كانوا يحرضون معاوية على النهوض للحرب ويستبطئونه، ويوشك بعضهم أن يتهمه بالعجز والقصور.
فلما اجتمع لمعاوية أمره رد جريرَ بن عبد الله البجلي سفيرَ عليٍّ إلى الكوفة دون أن يعطيه شيئًا، وعاد جرير فأنبأ عليًّا بامتناع معاوية عليه، وعظم له من أمر أهل الشام، وكأن عليًّا لم يرضَ عن سفارة جرير، وكأن جماعة من أصحاب علي على رأسهم الأشتر أسمعوا جريرًا بعض ما يكره، فغضب وارتحل بأهله، فلحق بطرف من أطراف الشام في قرقيسياء، فأقام فيه مجانبًا للخصمين، وبعض المؤرخين يرى أنه انضم لمعاوية.
ثم أخذ معاوية يتأهب للحرب، ولكنه هو أيضًا أسفر إلى علي كما أسفر علي إليه.