الفصل الثامن عشر
ويظهر أن بعض أصحاب معاوية لم تكن نفوسهم مطمئنة إلى القتال، كما أنها لم تكن كذلك راضيةً عن قتل عثمان وإعفاء الذين قتلوه من العقاب، فقد يقال إن رجلًا من أصحاب معاوية، هو أبو مسلم عبد الرحمن، أو عبد الله بن مسلم الخولاني، قام إليه أثناء تشاوره في أمر الحرب، فقال له: علامَ تقاتل عليًّا، وليس لك مثل فضله وسابقته في الإسلام؟ فقال معاوية: إني لا أقاتله وأنا أدعي أن لي مثل فضله أو سابقته، وإنما أطالبه بأن يدفع إلينا قتلة عثمان حتى أقتص منهم. قال أبو مسلم: فاكتب إليه في ذلك، فإن أجابك إلى ما تريد فقد صرفت عنا الحرب، وإن أبى قاتلناه على بصيرة. وكأن معاوية أراد أن يقطع حجة أبي مسلم وأمثاله من المترددين، فكتب إلى علي كتابًا وأرسله مع أبي مسلم نفسه.
وهذا نص الكتاب كما رواه البلاذري: «بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب، أما بعد، فإن الله اصطفى محمدًا بعلمه وجعله الأمين على وحيه والرسول إلى خلقه، ثم اجتبى له من المسلمين أعوانًا أيده بهم، فكانوا في المنازل عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، وكان أنصحهم لله ورسوله خليفته، ثم خليفة خليفته، ثم الخليفة الثالث المقتول ظلمًا عثمان، فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر، وقولك الهجر، وتنفسك الصعداء، وإبطائك عن الخلفاء، في كل ذلك تُقاد كما يُقاد الجمل المخشوش، ولم تكن لأحد منهم أشد حسدًا منك لابن عمتك، وكان أحقهم ألا تفعل به ذلك لقرابته وفضله، فقطعت رحمه، وقبحت حسنه، وأظهرت له العداوة، وأبطنت له الغش، وألبت الناس عليه، حتى ضُربت آباط الإبل إليه من كل وجه، وقيدت الخيل من كل أفق، وشُهر عليه السلاح في حرم رسول الله ﷺ، فقُتل معك في المحلة وأنت تسمع الهائعة لا تدرأ عنه بقول ولا فعل، ولعمري يا ابن أبي طالب لو قمت في حقه مقامًا تنهى الناس فيه عنه، وتقبح لهم ما اهتبلوا منه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدًا، ولمحا ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة له والبغي عليه، وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ظنين، إيواؤك قتلته، فهم عضدك ويدك وأنصارك، وقد بلغني أنك تنتفي من دم عثمان وتتبرأ منه، فإن كنت صادقًا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس إليك، وإلا فليكن بيننا وبينك السيف، ووالذي لا إله غيره لنطلبن قتلة عثمان في الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله، والسلام.»
وقد انتهى أبو مسلم بهذا الكتاب إلى علي، فجمع له الناس في المسجد، وأمر، فقرئ عليهم الكتاب، فتصايح الناس في جنبات المسجد: «كلنا قتل عثمان، وكلنا كان منكرًا لعمله.» وكذلك رأى أبو مسلم نفسه أن أصحاب علي كانوا يرون قتل عثمان صلاحًا لأمور دينهم ودنياهم ويأبون أن يسلموا أحدًا من قاتليه، ورأى كذلك أن عليًّا لو أراد أن يسلم قتلة عثمان كلهم أو بعضهم لما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ومن أجل ذلك أبى أن يدفع أحدًا إلى معاوية، فجعل أبو مسلم يقول: الآن طاب الضراب.
وأنت ترى من كتاب معاوية أنه لم يكن يريد سلمًا ولا عافية، وإنما كان يريد أن يعذر نفسه عند أصحابه من أهل الشام وعند المترددين والمتأثمين منهم خاصة، فطالِبُ السلم والعافية لا يكتب إلى خصمه ليؤذيه ولا ليحفظه ولا ليغيظه ويثير في نفسه الموجدة والشنآن.
وليس من اليسير على علي أن يقرأ في كتاب معاوية اتهامه بحسد الخلفاء والبغي عليهم والتلكؤ في البيعة لهم حتى يضطر إليها اضطرارًا ويقاد إليها كارهًا.
وليس من اليسير كذلك على علي أن يقرأ في كتاب معاوية اتهامه بحسد ابن عمته والبغي عليه وقطع رحمه وإغراء الناس به والقعود عن نصره حين ضيق عليه الثائرون به، ثم ليس من اليسير على علي آخر الأمر أن يقرأ هذا التحدي الواضح والدعاء إلى أن يثبت براءته من دم عثمان بتسليم قاتليه، فإن لم يفعل فليس بينه وبين معاوية إلا السيف.
وقد أبلغ معاوية في التحدي حتى زعم لعلي أنه إن دفع إليه قتلة عثمان أسرع وأسرع معه أهل الشام إلى بيعته وطاعته، ومعاوية كان يعلم حق العلم أن عليًّا لن يقبل هذا التحدي ولن يسلم إليه قتلة عثمان، وهو يتحدى السلطان وينذره على هذا النحو، وإنما كانت سبيله، لو قد آثر السلم والعافية، أن يبايع ويطيع أولًا ثم يتقدم إلى الخليفة طالبًا أن ينصفه من الذين قتلوا ابن عمه، وأن ينصف أبناء عثمان من الذين قتلوا أباهم.
ثم كان معاوية يعلم حق العلم بعد هذا كله أن عليًّا لو قدر على قتلة عثمان لأقاد منهم في المدينة، حين تحدث إليه في ذلك من بايعه من المهاجرين والأنصار، فكيف وقد صار إلى العراق وأقام بين أظهر الكثرة التي ثارت بعثمان حتى قتلته؟!
كل ذلك كان معاوية يعلمه، ولكنه أراد أن يبرئ نفسه أمام أهل الشام وأمام المتأثمين منهم خاصة من تبعة الحرب التي لم يكن منها بد، فليس غريبًا بعد ذلك أن يرفض علي ما طلب إليه، وأن يرد على كتابه مع سفيره نفسه بهذا الكتاب الذي رواه البلاذري أيضًا: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدًا وما أكرمه الله به من الهدى والوحي، فالحمد لله الذي صدق له الوعد، ومكن له في البلاد، وأظهره على الدين كله، وقمع به أهل العداوة والشنآن من قومه الذين كذبوه وشنعوا عليه وظاهروا عليه وعلى إخراج أصحابه، وقلبوا له الأمور حتى ظهر أمر الله وهم له كارهون، فكان أشد الناس عليه الأدنى فالأدنى من قومه إلا قليلًا ممن عصم الله، وذكرت أن الله جل ثناؤه وتباركت أسماؤه اختار له من المؤمنين أعوانًا أيده بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم خليفته وخليفة خليفته من بعده، ولعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم وإن المصاب بهما لرزء جليل، وذكرت أن ابن عفان كان في الفضل ثالثًا، فإن يكن عثمان محسنًا فسيلقى ربًّا شكورًا يضاعف الحسنات ويجزي بها، وإن يكن مسيئًا فسيلقى ربًّا غفورًا رحيمًا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، وإني لأرجو إذا أعطى الله المؤمنين على قدر أعمالهم أن يكون قسمنا أوفر قسم أهل بيت من المسلمين، إن الله بعث محمدًا ﷺ فدعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له، فكنا أهلَ البيت أولَ من آمن وأناب، فمكثنا وما يَعبُد اللهَ في رَبْع سكن من أرباع العرب أحدٌ غيرنا، فبغانا قومنا الغوائل، وهموا بنا الهموم، وألحقوا بنا الوسائط، واضطرونا إلى شِعْب ضيق وضعوا علينا فيه المراصد، منعونا من الطعام والماء العذب، وكتبوا بينهم كتابًا ألا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا أو ندفع إليهم نبينا فيقتلوه أو يمثلوا به، وعزم الله لنا على منعه والذب عنه، وسائر من أسلم من قريش أخلياء مما نحن فيه، منهم من حليف ممنوع وذي عشيرة لا تبغيه كما بغانا قومنا، فهم من التلف بمكان نجوة وأمن، فمكثنا بذلك ما شاء الله، ثم أذن الله لرسوله في الهجرة وأمره بقتال المشركين، فكان إذا حضر البأس ودُعيت نزال قدَّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه؛ فقُتِل عبيدة يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وجعفر يوم مؤتة، وتعرض من لو شئت أن أسميه سميته لمثل ما تعرضوا له من الشهادة، لكن آجالهم حضرت ومنية أُخِّرت.
وذكرت إبطائي عن الخلفاء وحسدي لهم، فأما الحسد فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته! وأما الإبطاء فما أعتذر إلى الناس منه، ولقد أتاني أبوك حين قُبِض رسول الله ﷺ وبايع الناس أبا بكر، فقال: «أنت أحق الناس بهذا الأمر، فابسط يدك أبايعك.» وقد علمتَ ذلك من قول أبيك، فكنتُ الذي أبيتُ ذلك مخافة الفرقة؛ لقرب عهد الناس بالكفر والجاهلية، فإن تعرف من حقي ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك، وإلا تفعل فسيغني الله عنك.
وذكرتَ عثمان وتأليبي الناس عليه، وإن عثمان صنع ما رأيتَ فركب الناس منه ما قد علمت وأنا من ذلك بمعزل، إلا أن تتجنى فتجنَّ ما بدا لك، وذكرت قتلته بزعمك وسألتني دفعهم إليك، وما أعرف له قاتلًا بعينه، وقد ضربت الأمر إلى أنفه وعينيه فلم أره يسعني دفع مَن قبلي ممن اتهمته وأظننته إليك، ولئن لم تنزع عن غيك وشقائك لتعرفن الذين تزعم أنهم قتلوه طالبين لا يكلفونك طلبهم في سهل ولا جبل، والسلام.»
وقد بدأ معاوية كما رأيت بالعنف في كتابه إلى علي، فكان رد علي على كتابه أقسى قسوة وأعظم شدة، لم يكد يذكر إنعام الله على نبيه بالهدى والوحي واتباع أهل بيته له حتى ذكر بغي قريش عليه ومكرها به واضطراره مع أهل بيته ومع بني عبد المطلب إلى شعب ضيق من شعاب مكة، إلى آخر ما هو معروف من أمر الصحيفة.
وعليٌّ في كل هذا يُعرِّض ببني أمية وتأخرهم عن الإسلام واجتهادهم مع المجتهدين في التضييق على النبي ومن تبعه من أهل بيته، ثم ذكر علي أن الله قد اختص بيت أهل النبي بالسبق إلى الإسلام كما اختصهم بالصبر على المكروه في شعبهم ذاك الذي اضطروا إليه، على حين كان غيرهم من المسلمين في سعة ودعة، تمنعهم عشائرهم كما منعت تيم أبا بكر، وكما منعت عدي عمر، وكما منعت أمية عثمان، أو يمنعهم حلفاؤهم إن لم يكونوا من قريش.
ومعنى ذلك أن أهل البيت احتملوا في الإسلام ما لم يحتمل غيرهم وما لم يحتمل أبو بكر وعمر وعثمان خاصة، فهم لم يُحصَروا ولم يُهجَّروا ولم يُضيَّق عليهم في الرزق، فهم إذن أولى الناس بالنبي وأحقهم بالأمر بعده، ثم ذكر الهجرة وما كان من القتال في سبيل الله، وذكر أن النبي كان يقدم أهل بيته لحماية أصحابه في مواطن البأس حتى استشهد منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أحد، وجعفر بن أبي طالب يوم مؤتة، وتعرض علي نفسه للشهادة التي أتيحت لغيره من أهل البيت، فأهل البيت إذن قد جاهدوا قبل الهجرة، وجاهدوا بعد الهجرة كما لم يجاهد أحد غيرهم.
ثم ذكر قيام الخلفاء بعد وفاة النبي فبرأ نفسه من الحسد لهم سرًّا أو جهرًا، ولم يعتذر إلى الناس من إبطائه في بيعتهم، ثم ذكر معاوية بأن أباه كان يرى حق علي في البيعة حين أراده عليها، وقال له بعد ذلك: إن كنت ترى ما رأى أبوك من حقي تُصِب رشدك، وإن لم تفعل يُغنِ الله عنك. ثم ذكر عثمان وما أنكر الناس عليه وما ركبوا من أمره واعتزاله الثورة، وبيَّن رأيه صريحًا في عثمان، وهو التوقف وترك أمر عثمان إلى الله يضاعف له الأجر إن كان قد أحسن، ويغفر له الذنب إن كان قد أساء.
ثم ذكر قتلة عثمان، فأنبأ معاوية أنه لا يعرف لعثمان قاتلًا بعينه بعد أن بحث واستقصى، وأنه لا يستطيع أن يسلم إليه من اتهمهم، لا لشيء إلا لأنه اتهمهم وظن بهم الظنون؛ لأن أمور الحدود لا تستقيم إلا على المحاجة والمقاضاة وإحضار البينة، وهذا كله لا يستقيم إلا بعد البيعة والدخول في الطاعة، ثم أنذر معاوية بأنه ليس في حاجة إلى أن يطلب في السهل والجبل ولا في البر والبحر من يتهمهم بقتل عثمان؛ لأنه سيراهم ساعين إليه طالبين له جادين في حربه.
وكذلك أخفق سفير معاوية كما أخفق سفير علي من قبل، واستبان لأهل الشام كما استبان لأهل العراق أن ليس من الحرب بد، يرى أهل الشام أن يثأروا للخليفة المظلوم، ويرى أهل العراق ومن معهم من المهاجرين والأنصار أن يكرهوا أهل الشام على البيعة والطاعة قبل كل شيء، ويرى أهل الشام أن طاعة علي لا تلزمهم؛ لأن الناس لم يبايعوه عن رضى منهم جميعًا؛ ولأنه عطل حدًّا خطيرًا من حدود الله، وهو القصاص ممن قتل الخليفة المظلوم، ويرى أهل العراق ومن معهم من المهاجرين والأنصار أن كثرة المسلمين الضخمة قد بايعت عليًّا في الحرمين والمصرين وفي مصر أيضًا، فأصبحت طاعته واجبة وأصبح أهل الشام طائفة باغية يجب أن تُقاتَل حتى تفيء إلى أمر الله.
ولم يأتِ شهر ذي الحجة من سنة ست وثلاثين حتى كان علي قد قدم طلائعه بين يديه، وأمرهم إن لقوا أهل الشام ألا يبدءوهم بقتال حتى يدركهم، وسار هو في معظم جيشه حتى انتهى وانتهت طلائعه إلى صِفِّين بعد خطوب كثيرة لسنا في حاجة إلى أن نطيل بذكرها.