الفصل التاسع عشر
وكان معاوية قد سار في جموع أهل الشام حين علم بتأهب علي للمسير، وقدم بين يديه الطلائع أيضًا، وقد انتهى قبل علي إلى صفين فأنزل أصحابه أحسن منزل وأرحبه وأقربه إلى شريعة الفرات، وأقبل علي في جيشه الضخم فأنزل أصحابه بإزاء أصحاب معاوية، ولكن أصحاب علي لم يجدوا على الفرات شريعة يستقون منها، فأرسل علي سفراءه إلى معاوية يطلبون إليه أن يخلي الماء حُرًّا يشرب منه الجيشان. وقد ناظر السفراء معاوية في ذلك فلم يظفروا منه بجواب، وعادوا إلى علي بغير طائل، ثم لم يلبث أصحاب علي أن رأوا معاوية يكثر من الحرس على شرعة الفرات ليقهر عليًّا وأصحابه بالظمأ، يريد أن يحرمهم الماء كما حرموا الماء عثمان حين كان محصورًا، ويقال إن عمرو بن العاص ألح على معاوية في أن يخلي بين أصحاب علي وبين الماء ليؤخر المناجزة، فإن أصحاب علي لن يظمئوا وخصمهم راوون، ولكن عصبية بني أمية غلبت مشورة أصحاب الرأي، وانقاد معاوية لهذه العصبية فلم يكن بد من أن يقتتل الناس على الماء، واشتد القتال على الشرعة حتى كاد يبلغ الحرب، وأُتيح النصر لأصحاب علي فغلبوا خصمهم على مورد الماء، وأرادوا أن يضطروهم إلى الظمأ ويقهروهم به كما كانوا هم يريدون بهم مثل ذلك، ولكن عليًّا أبى عليهم ما أرادوا، آثر العافية حتى لا يتعجل الحرب قبل الإعذار إلى خصمه وقبل مناظرتهم فيما بينهم من خلاف، وكره كذلك أن يظمئ خصمه واللهُ قد أجرى النهر ليشرب منه الناس جميعًا لا ليستأثر به فريق دون فريق.
وكذلك أتيح للقوم أن يلتقوا آمنين أيامًا، يلتقون على الماء ويسعى بعضهم لبعض، ليس بينهم قتال، ولكن بينهم جدالًا شديدًا وخصامًا عنيفًا، ثم رأى علي أن يعذر إلى معاوية وأصحابه، فاختلف السفراء بين الفريقين دون أن ينتهوا إلى صلح أو شيء يشبه الصلح، فلما استيأس علي من خصمه عبأ أصحابه على راياتهم وجعلت فرقهم تخرج إلى فرق معاوية، تخرج فرقة في هذا اليوم من أصحاب علي فتخرج لها فرقة من أصحاب معاوية، فتقتتل الفرقتان نهارهما أو وجهًا من نهارهما ثم تتحاجزان، وعلي لا يتجاوز ذلك إلى الحرب العامة رجاء أن يثوب خصمه إلى رشدهم وأن يفيئوا إلى أمر الله ويؤثروا العافية بين المسلمين.
ومضى الأمر على هذا أيامًا عشرة أو أقل أو أكثر من آخر ذي الحجة، ثم أظل الناسَ شهر المحرم، وهو شهر حرام، فتوادعوا شهرهم كله وآمن بعضهم بعضًا، وسعت بينهم السفراء سعيًا متصلًا، ولكنهم أنفقوا شهرهم كله دون أن يَصِلوا إلى صلح أو شيء يشبه الصلح، واستبان لأولئك وهؤلاء في غير شك ولا لبس أن ليس بد من أن يصطدم الجمعان.