الفصل الثاني
ولم يستقبل المسلمون خلافة علي بمثل ما استقبلوا به خلافة عثمان مِن رضى النفوس وابتهاج القلوب واطمئنان الضمائر واتساع الأمل وانبساط الرجاء، وإنما استقبلوا خلافته في كثير من الوجوم والقلق والإشفاق واضطراب النفوس واختلاط الأمر، لا لأن عليًّا كان خليقًا أن يُثير في نفوسهم وقلوبهم شيئًا من هذا، بل لأن ظروف حياتهم قد اضطرتهم إلى هذا كله اضطرارًا؛ فقد نهض عثمان بالأمر بعد خليفة قوي شديد صعب المراس أرهقهم من أمرهم عُسرًا بما كان يسلك بهم إلى العدل من طريق وَعرة خشنة لا يصبر على سلوكها إلا أولو العزم وأصحاب الجلد من الناس، وقد صورنا لك فيما مضى من هذا الكتاب شدة عمرَ على المسلمين عامة في ذات الله، وقسوته على قريش خاصة، يخاف عليهم الفتنة ويخاف منهم الفتنة أيضًا، فلما نهض عثمان بأمر الناس أعطاهم لِينًا بعد شدة وإسماحًا بعد عُنف وسعة بعد ضيق ورضاء بعد مشقَّة وجهد؛ فزاد في أعطياتهم ويسر لهم أمرهم ما كان عسيرًا حتى آثروه في أعوامه الأولى على عمر.
وأقبل علي بعد مقتل عثمان، فلم يوسع للناس في العطاء، ولم يمنحهم النوافل من المال ولم ييسر لهم أمورهم، وإنما استأنف فيهم سيرةَ عمر من حيث انقطعت، ومضى بهم في طريقه من حيث وقف.
وكان الناس بعد قتل عمر آمنين مطمئنين يشوب أمنهم واطمئنانهم شيء من الحزن على هذا الإمام البرِّ الذي اختُطف من بينهم غيلةً، لا عن ملأ من المهاجرين والأنصار، ولا عن ائتمار به من أهل الثغور والأمصار، فكان قتله عنيفًا يسيرًا في وقت واحد، لم يصوِّره أحد بأبلغ مما صوَّره به عمرُ نفسُه حين تلقَّى الطعنة التي قتلته، ثم تولى وهو يتلو قول الله عز وجل: وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا.
كانت وفاة عمر إذن قدرًا من القدر لم تتألَّب عليه جماعة ولم يأتمر به ملأ من المسلمين، وإنما اغتاله مغتالٌ غير ذي خطر، فساق إليه موتًا لم يكن منه بُدٌّ.
فأما مقتل عثمان فكان نتيجة ثورة جامحة وفتنة شُبِّهت فيها على الناس أمورهم؛ إذ لم يكن أحدهم يعرف أكان مقبلًا أم مدبرًا. وكان نتيجةَ خوفٍ ملأ المدينة كلها أيامًا طوالًا ثم انتشر منها في أقطار الأرض فاضطربت له النفوس أشد الاضطراب، وجهز العمَّال جنودهم لا ليرسلوها إلى حيث كان ينبغي أن تُرسَل من الثغور، ولكن ليرسلوها إلى عاصمة الدولة وقَلبها ليردوا إليها الأمن ويجلوا عنها الخوف وليستنقذوا الخليفة المحصور، فلم تبلغ الجنود قلبَ الدولة ولا عاصمتها وإنما قُتل الخليفة قبل ذلك، فعاد الجند إلى أمرائهم وتركوا المدينة يملؤها الخوف والذعر ويسيطر عليها القلق والاضطراب.
وكان أمر الثورة قد بلغ أهل الموسم في حجِّهم، وقرأ عليهم عبدُ الله بن عبَّاس كتاب عثمان يبرئ فيه نفسَه من الظلم والجور ويتهم فيه الثائرين به بالخلاف عن أمر الله والبغي على خليفة الله، فقضى الناس مناسكهم خائفين، وعادوا إلى أمصارهم خائفين، يحملون الخوف معهم إلى من أقام ولم يأتِ الموسمَ من الناس.
فليس غريبًا إذن أن يستقبل المسلمون خلافة علي ووجوههم عابسة وقلوبهم خائفة ونفوسهم قلقة، ويزيد في هذا العبوس والخوف والقلق أن الثائرين الذين قتلوا عثمان كانوا ما يزالون مقيمين بالمدينة متسلِّطين عليها، حتى كأن الخليفة الجديد ومن بايعه من المهاجرين والأنصار لم يكونوا في أيديهم إلا أسارى؛ وآية ذلك أن الخليفة لم يستطع أن يمضي في تحقيق ما أصاب عثمان وما أصاب المسلمين من كارثة الفتنة لأنه لم يجد القدرة على هذا التحقيق.
وكان المسلمون من أهل المدينة يعرفون مكان العمال الذين أمَّرهم عثمان على الأمصار، ويقدرون أنهم جميعًا — أو أن بعضهم على الأقل — سينكرون الخلافة الجديدة ويجادلون الخليفة في سلطانه غضبًا لعثمان الذي ولَّاهم، وكانوا يخافون من هؤلاء العمال، بنوع خاص معاوية بن أبي سفيان عامل عثمان على الشام، يعرفون قرابته من الخليفة المقتول ويعرفون طاعة أهل الشام له لطول إقامته فيهم وإمرته عليهم منذ عهد عمر، وكانوا يعرفون مكانة معاوية من بني أمية، ويعرفون الخصومة القديمة بين بني أمية وبني هاشم قبل أن يظهر الإسلام وحين انتقل النبيُّ وأصحابه بدينهم الجديد إلى المدينة، فقد أصبح أبو سفيان قائدَ قريش بعد أن قُتِل قادتها وسادتها يوم بدر، وهو الذي أقبل بقريش يوم أحد فثأر لقتلى بدر من المشركين، وامرأته هِند أم معاوية هي التي أعتقت وحشيًّا أن قتل حمزة، فلما قتله أقبلت على ميدان الموقعة وبحثت عن حمزة حتى وجدته بين القتلى فبقرت بطنه واستخرجت كبده فلاكتها.
وأبو سفيان هو الذي قاد قريشًا يوم الخندق وألَّب العرب على النبي وأصحابه وأغرى اليهود حتى نقضوا عهدهم مع النبي وأصحابه، وأبو سفيان هو الذي ظلَّ يدبِّر مقاومة قريش للنبي وكيدها له ومكرها به حتى كان عام الفتح، فأسلم حين لم يكن له من الإسلام بُد.
ومهما يقل الناس في معاوية من أنه كان مقربًا إلى النبي بعد إسلامه، ومن أنه كان من كتَّاب الوحي، ومن أنه أخلص للإسلام بعد أن ثاب إليه ونصح للنبي وخلفائه الثلاثة، مهما يقل الناس في معاوية من ذلك فقد كان معاوية هو ابن أبي سفيان قائد المشركين يوم أحد ويوم الخندق، وهو ابن هند التي أغرت بحمزة حتى قُتل ثم بقرت بطنه ولاكت كبده، وكادت تدفع النبيَّ نفسه إلى الجزع على عمه الكريم.
وكان المسلمون يسمون معاوية وأمثاله من الذين أسلموا بأخَرة، ومن الذين عفا النبي عنهم بعد الفتح بالطُّلقاء؛ لقول النبي لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء.»
كان الناس يعرفون هذا كله ويقدرون أن الأمور لن تستقيم بين الخليفة الهاشمي والأمير الأموي في يسر ولين، وكانوا كذلك يعرفون أن قريشًا قد صَرفت الخلافة عن بني هاشم بعد وفاة النبي إيثارًا للعافية وكراهة أن تجتمع النبوة والخلافة لهذا البطن من بطون قريش، وكانوا يرون أن الله قد آثر بني هاشم بنبوة محمد ﷺ فاختصها بخير كثير، وأن بني هاشم ينبغي لهم أن يَقنعوا بما آثرهم الله به من هذا الخير الضخم والفضل العظيم.
فكان الناس إذن لا يشفقون من فساد الأمر بين علي ومعاوية فحسب وإنما يشفقون من فساد الأمر بين علي وبني هاشم من جهة وسائر قريش من جهة أخرى، فلم يكونوا إذن يستقبلون حياةً قوامها الأمن والعافية والسعة، وإنما كانوا يستقبلون حياة ملؤها القلق والخوف، ويشفقون أن تنتهي بهم آخر الأمر إلى ضيق أي ضيق، وتورِّطهم في شر عظيم.
وكانوا ينظرون فيرون جماعة من خيار المهاجرين والأنصار قد آثروا العزلة وكرهوا أن يدخلوا فيما دخل الناس فيه فاعتزلوا أمر عثمان واعتزلوا بيعة علي وأقاموا ينتظرون، وكانت الكثرة الكثيرة من هؤلاء الناس من خيار المسلمين وأصلحهم وأحقهم بالإجلال والإكبار، فيهم سعد بن أبي وقاص، أول من رَمى بسهم في سبيل الله، وفاتح فارس، وأحد الذين مات النبي وهو عنهم راضٍ، وأحد الذين جعل عمر إليهم أمر الشورى. وفيهم عبد الله بن عمر الرجل الصالح الذي أحبه المسلمون على اختلافهم أشد الحب؛ لفقهه في الدين وإيثاره للخير وبُعده عن الطمع ونصحه للمسلمين في غير رياء ولا مداهنة.
ثم رأى الناس طلحة والزبير يبايعان عن غير رضى ولا إقبال، فما يمنعهم — وهم يرون هذا كله ويعلمون هذا كله ويقدرون هذا كله — أن تمتلئ قلوبهم خوفًا ونفوسهم قلقًا.
ومع ذلك فقد كان خليفتهم الجديد أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنينة وضمائرهم رضى ونفوسهم أملًا، فهو ابن عم النبي، وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يُظهر دعوته ويصدع بأمر الله، أحسَّ النبي أن أبا طالب يلقى ضيقًا في حياته؛ فسعى في أعمامه ليعينوا الشيخ على النهوض بثقل أبنائه، فاحتملوا عنه أكثر أبنائه وتركوا له عَقيلًا، كما أحب، وأخذ النبي عليًّا فكفله وقام على تنشئته وتربيته، فلما آثره الله بالنبوة كان علي في كنفه لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلًا، فنستطيع أن نقول إنه نشأ مع الإسلام، وكان النبي يحبه أشد الحب ويؤثره أعظم الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردَّها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة فآخى النبي بينه وبين نفسه ثم زوَّجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام البأس، وقال النبي يوم خيبر: «لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسولَه ويُحبه الله ورسوله.» فلما أصبح دفع الراية إلى علي، وقال النبي له حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تَبوك: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.» وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه.» وكان عمر رحمه الله يعرف لعلي علمه وفقهه، ويقول: «إن عليًّا أقضانا.» وكان يفزع إليه في كل ما يعرض له من مشكلات الحكم، وقال حين أوصى بالشورى: «لو ولَّوها الأجلح لحملهم على الجادة.» إلى فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين، ويؤمن له بها أهل السنة كما يؤمن له بها شيعته.
وسنرى حين نمضي في سيرته وحين نبين مواقفه من المشكلات الكثيرة التي عرضت له أنه كان أهلًا لكل هذه الفضائل ولأكثر منها، وأنه كان أجدر الناس بأن يسير في المسلمين سيرةَ عمر ويحملهم على طريقه ويبلغ بهم من الخير والنجح والفلاح مثل ما بلغ بهم عمر لو واتته الظروف.
وكان عمر رحمه الله صاحب فراسة صادقة وحدس لا يكاد يخطئ حين قال: «لو ولوها الأجلح لحملهم على الجادَّة.» كان يرى أن عليًّا أشبه الناس به في شدته في الحق وإذعانه للحق وغلظته على الذين ينكرون الحق أو يضيقون به، ولكن القوم لم يولوا خلافتهم الأجلح بعد وفاة عمر، حين كانت الدنيا مقبلة والنشاط قويًّا والإقدام قارحًا والبصائر نافذة والأمور تجري بالمسلمين على ما أحبوا، وإنما ولوا خلافتهم عثمان، فكان من أمره معهم وأمرهم معه ما كان، حتى إذا فسدت الدنيا وانتشرت الأمور واضطرب حبل السلطان وظن بعض الناس ببعض أسوأ الظن وأضمر بعضهم لبعض أعظم الكيد؛ هنالك فزعت كثرة منهم إلى علي فبايعته، واعتزلته طائفة لا يريدون به بأسًا، وأبت عليه طائفة أخرى لا تحبه ولا تريد أن تستقيم له طائعةً.
ونظر الخليفة الجديد ونظر أصحابه معه فإذا هم يواجهون أمورًا عظامًا، وقد أحاطت بهم فتنة مشبَّهة معمَّاة إذا أخرج الرجل فيها يده لم يكد يراها.
أمام هذه الأمور العظام، وفي قلب هذه الفتنة المظلمة الغليظة وجد علي نفسه كأحسن ما يجد الرجل نفسه، صِدقَ إيمان بالله ونصحًا للدين وقيامًا بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل ولا يُدهِن من أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحًا أو إخفاقًا، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتًا، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى ضميره ورضَى الله.