الفصل العشرون
ومع ذلك فقد مضى القوم على حربهم بعد شهر المحرم كما كانوا قبله، تخرج الكتيبة للكتيبة والقبيلة للقبيلة وربما خرج الرجل للرجل، وهم في أثناء هذا كله لا يختصمون بالسيف وحده وإنما يختصمون بالألسنة أيضًا، وربما كانت بين رؤسائهم الكتب، كالذي رُوي أن عمرو بن العاص كتب عن أمر معاوية إلى ابن عباس يستعينه على أن يثوب الناس إلى العافية ويكفوا عن الحرب ويتقوا غوائلها، ورد ابن عباس عليه ردًّا عنيفًا موئسًا.
ثم كان القوم إذا كفوا عن القتال آخر النهار سمروا، كما تعودت العرب أن تسمر، فتناشدوا الشعر وذكروا المآثر القديمة والحديثة وذكروا بلاء من حسُن بلاؤه منهم أو من عدوهم في أيامهم تلك؛ حتى مضى صدر في شهر صفر وهم على هذه الحال لا يبلغ أحد الفريقين من خصمه أربًا، وكأن القوم سئموا هذه الحرب المتقطعة الفاترة وتعجلوا الكارثة، وكأن عليًّا سئم هذه المطاولة التي لا تغني عنه ولا عن أحد شيئًا، وإنما تزيد الفتنة امتدادًا والشر انتشارًا، وتضيف أحقادًا إلى أحقاد وحفيظة إلى حفيظة، وتضيع أيامه وأيام أصحابه في قتال لا يقدم ولا يؤخر، وترجئ اجتماع الكلمة والتئام الشمل إلى أجل غير مسمى ولا معروف؛ فعبأ أصحابه للهجوم العام، ورأى معاوية منه ذلك ففعل مثل ما فعل، وتزاحف الجيشان العظيمان فالتقوا صباح نهارهم كله وشطرًا من ليلهم دون أن يبلغ أحد من صاحبه ما كان يريد، ثم أصبحوا فاقتتلوا نهارهم كله أشد قتال وأعظمه نكرًا، وانكشفت ميمنة علي انكشافا بلغ الهزيمة أو كاد يبلغها، وتضعضع ما كان يليها من قلب الجيش، وانحاز علي إلى ميسرته من ربيعة، فاستقتلت ربيعة من دونه وقال قائلها: يا معشر ربيعة، لا عذر لكم بعد اليوم عند العرب إن أُصِيب أمير المؤمنين وهو فيكم. فتحالفت ربيعة على الموت، ثم ثابت ميمنة علي بفضل الأشتر ومن ثبت معه من أصحابه، فالتأم جيش علي كعهده أول النهار، وأقبل الليل فلم يكف بعض القوم عن بعض وإنما مضوا في حربهم تلك المجنونة حتى استقبلوا صباح اليوم الثالث، وحتى ظهر الضَّعف في جيش معاوية.
وكاد أصحاب معاوية يبلغون فسطاطه، وهمَّ معاوية نفسه أن يفر لولا أن ذكر قول ابن الإطنابة:
فرده هذا الشعر إلى الثبات والصبر، كما كان يتحدث بذلك في أيام العافية، وارتفع الضحى والقوم ماضون في حربهم تلك لا يريحون ولا يستريحون، وأصحاب علي لا يشكون في النصر، وإنهم لفي ذلك وإذا المصاحف قد نُشِرت ورُفِعت على الرماح من قِبَل أهل الشام، وإذا منادي أهل الشام يقول: هذا كتاب الله بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته، الله الله في العرب، الله الله في الإسلام، الله الله في الثغور! من لثغور الشام إذا هلك أهل الشام؟! ومن لثغور العراق إذا تفانى أهل العراق؟!
ويرى أصحاب علي هذه المصاحف المنشورة، ويسمعون هذا الدعاء إلى ما فيها من أمر الله، ويسمعون الدعاء إلى العافية والبقية، فيبهر كثرتهم ما ترى وما تسمع، وإذا الأيدي تكف عن الحرب، وإذا القلوب تتردد ثم تذكر السلم ثم تحبها ثم تطمع فيها، وإذا رؤساء الجيش من أصحاب علي يسرعون إليه يدعونه إلى قبول ما يعرض القوم، فيأبى عليهم ويبين لهم أن القوم ليسوا بأصحاب قرآن، ولم يرفعوا المصاحف ثائبين إلى ما فيها وإنما رفعوها كائدين يبغون خصمهم الفتنة، ويبين لهم كذلك أنهم لم يبتكروا رفع المصاحف، وإنما عرفوا أنه رُفِع المصاحف لأهل البصرة قبل القتال فقلدوه، وليس بعد القتال وحين جزعوا من الحرب، ولم يشكوا في الهزيمة ولكن أصحاب علي يلحون عليه في الاستجابة إلى ما يُدعَى إليه من كتاب الله، ويشتدون في الإلحاح حتى ينذروا عليًّا بمفارقته، ومنهم من أنذره بتسليمه إلى معاوية.
وقوم آخرون رأوا رأي علي ولم ينخدعوا بكيد أهل الشام، وقالوا: إنما حاربنا القوم على كتاب الله لا نشك في أننا على الحق، وفي أن صاحبنا هو أمير المؤمنين، وفي أن عدونا هم الفئة الباغية، ولو قد شككنا في شيء من ذلك ما قاتلنا ولا استبحنا سفك الدماء منا ومنهم.
ولكن أصحاب علي قد اختلفوا، ما في ذلك شك؛ قوم يرون الكف عن القتال وقوم يرون المضي فيه، وإذا وقع الخلاف بين رؤساء الجيش وبلغ هذا الحد فليس يُنتظَر من الجيش نفسه خير. ومن أجل ذلك اضطر علي إلى كف القتال، ولم يكف الأشتر عن المضي فيه إلا بعد جهد متصل وعزيمة مؤكدة.
ثم قارب معاوية وأرسل إليه الرسل يسألونه عما أراد إليه برفع المصاحف، فأجابهم معاوية: أردت إلى أن نختار منا رجلًا وتختارون منكم رجلًا ونأمرهما أن يحكما بما في كتاب الله فيما شجر بيننا من الخلاف، وعاد الرسل إلى علي بجواب معاوية، فرضيت كثرة أصحابه وسخطت قلتهم، ونزل علي عند رأي الكثرة كارهًا.