الفصل الثالث والعشرون
ومهما يكن من شيء فقد اتفق الفريقان على أن يحكموا هذين الحكمين، يحكمون عمرًا من قبل معاوية ويحكمون أبا موسى من قبل علي، وأبى أصحاب علي على إمامهم أن يختار ابن عباس؛ لأنه شديد القرب منه، وأبوا عليه أن يختار الأشتر لأن اجتهاده في الحرب كان عظيمًا وحرصه على الغلب كان شديدًا، ولم يستطع علي أن يقبل ما عرضه عليه الأحنف بن قيس من أن يكون مندوبه في الحكم، بل لم يستطع أن يجعله ثانيًا لأبي موسى؛ لأن أصحابه أبوا إلا أن يندبوا أميرهم القديم الذي كره لهم الفتنة والذي لم يشترك في الحرب مع هذا الخصم أو ذاك، ولم يذكروا أن عمرو بن العاص قد شارك في الحرب برأيه ولسانه وسيفه، بل لعلهم ذكروا ذلك ولكنهم لم يقفوا عنده ولم يلتفتوا إليه.
واجتمع المفوضون من الفريقين فكتبوا صحيفة سجلوا فيها ما اتفق عليه الخصمان من وضع الحرب وإيثار الحكومة واختيار الحكمين وتحديد الزمان والمكان لاجتماعهما، وتأمينهما على أنفسهما وأموالهما مهما يكن حكمهما، واستنصار الأمة كلها على من خالف عما في هذه الصحيفة.
حددوا هذا كله تحديدًا دقيقًا، ولكن شيئًا واحدًا أطلقوه إطلاقًا ولم يحددوه تحديدًا قريبًا أو بعيدًا، وهو موضوع القضية التي يجب أن يفصل فيها الحكمان، واقرأ أولًا نص هذه الصحيفة كما رواه البلاذري: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى عليٌّ على أهل العراق ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين: أنا ننزل عند حكم الله، وبيننا كتاب الله فيما اختلفنا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله فإنهما يتبعانه، وما لم يجداه مما اختلفا فيه في كتاب الله نصًّا أمضيا فيه السُّنَّة العادلة الحسنة الجامعة غير المفرقة، والحكمان عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص، وأخذنا عليهما عهد الله وميثاقه لَيحكمان بما وجدا في كتاب الله نصًّا، فما لم يجداه في كتاب الله مسمى، عملا فيه بالسنة الجامعة غير المفرقة، وأخذا من علي ومعاوية ومن الجندين كليهما وممن تأمَّرا عليه من الناس عهد الله ليقبلن ما قضيا به عليهما، وأخذا لأنفسهما الذي يرضيان به من العهد ومن الثقة بالناس أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما وأموالهما، وأن الأمة لهما أنصار على ما يقضيان به على علي ومعاوية، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كلتيهما، وأن على عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهدَ الله وميثاقه أن يصلحا بين الأمة ولا يرداهم إلى فرقة ولا حرب، وأن أجل القضية إلى شهر رمضان، فإن أحبا أن يعجلاها دون ذلك عجلا، وإن أحبا أن يؤخراها عن غير ميل منهما أخراها، وإن مات أحد الحكمين قبل القضاء فإن أمير كل شيعة وشيعته يختارون مكانه رجلًا، لا يألون عن أهل المعدلة والنصيحة والإقساط، وأن يكون مكان قضيتهما التي يقضيانها فيه مكان عدل بين الكوفة والشام والحجاز، لا يحضرهما فيه إلا من أرادا، فإن رضيا مكانًا غيره فحيث أحبا أن يقضيا، وأن يأخذ الحكمان من كل واحد من شاءا من الشهود، ثم يكتبا شهادتهم في هذه الصحيفة أنهم أنصارٌ على من ترك ما فيها: اللهم نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة وأراد فيها إلحادًا أو ظلمًا …
وشهد من كل جند على الفريقين عشرة، من أهل العراق: عبد الله بن عباس، والأشعث بن قيس، وسعد بن قيس الهمداني، وورقاء بن سمي، وعبد الله بن طفيل، وحُجْر بن عدي الكندي، وعبد الله بن حجل الأرحبي البكري، وعقبة بن زياد، ويزيد بن حجبة التميمي، ومالك بن كعب الأرحبي.
ومن أهل الشام: أبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي، وحبيب بن مسلمة الفهري، والمخارق بن الحارث الزبيدي، وزمل بن عمرو العذري، وحمزة بن مالك الهمداني، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان، ويزيد بن الحر العبسي.»
وقد رُوِيَت هذه الصحيفة من غير طريق البلاذري على شيء من الاختلاف في اللفظ ليس بذي خطر، وعلى شيء من التقديم والتأخير ليس بذي خطر أيضًا، ولكن الخطير كما قدمنا هو أن الفريقين قد حددا في صحيفتهما كل شيء إلا هذا الموضوع الذي اختلفا فيه والذي يجب أن يقضي فيه الحكمان.
ففيمَ كانا يختلفان بالفعل؟ كان معاوية يطلب بدم عثمان ويريد أن يسلم إليه علي قتلة الخليفة المظلوم، وكان علي لا يعرف لعثمان قاتلًا بعينه ولا يقدر على أن يسلم إلى معاوية جميع من ثاروا بعثمان حتى قُتِل. أفكان الفريقان يريدان من الحكمين أن يفصلا في هذه القضية؟ وإذن فما بالهما لم ينصا عليها بل لم يذكرا عثمان وقتلته في الصحيفة أصلًا؟
وكان معاوية يرى بعد مقتل طلحة والزبير، وبعد أن استحصد أمره واشتد بأسه أن يكون أمر الخلافة شورى بين المسلمين، وكان علي يرى أنه قد بُويِع كما بُويِع الخلفاء من قبله، بايعه أهل الحرمين وهم أصحاب الحل والعقد، وبايعه أهل الأمصار إلا الشام، فقد اجتمعت له إذن بيعة الكثرة الكثيرة من المسلمين عامة، ومن المهاجرين والأنصار خاصة، ولم يبقَ لمعاوية إلا أن يدخل فيما دخل فيه الناس، ويدخل معه أصحابه من أهل الشام، فإن لم يفعلوا فهم الفئة الباغية التي أُمر المسلمون بقتالها إن أبت الصلح وكرهت العافية حتى تفيء إلى أمر الله. وإذن فما بال الفريقين لم ينصا على ذلك في صحيفتهما؟! بل لم يذكرا الخلافة ولا الشورى في الصحيفة أصلًا! والغريب أن هذه الصحيفة التي رواها المؤرخون قد أرضت الفريقين المختصمين، لم ينكرا فيها غموضًا ولا عمومًا ولا إبهامًا، مع أنها من أشد ما كتب المسلمون غموضًا وعمومًا وإبهامًا فيما يتصل بموضوع القضية الذي كان يجب أن يُحدَّد تحديدًا لا لبس فيه!
وأكبر الظن أن الذين كتبوا الصحيفة من الفريقين لم يحفلوا بدقة ولا بتحديد، وإنما كرهوا الحرب وسئموا القتال وتعجلوا السلم، وكان أصحاب معاوية يكفيهم أن تنحسر الحرب عنهم وأن يختلف أهل العراق، وكانت عامة أهل العراق يكفيهم أن يثوبوا إلى السلم، وكان الماكرون منهم — إن استقام الفرض الذي افترضته آنفًا — يعنيهم أن تكون القضية غامضة غير بينة الحدود، يرون ذلك أنفع لمعاوية وأضر لعلي، وأحرى أن ينيلهم من السلطان ومتاع الدنيا ما يريدون.
وهذا كله يفسر لنا ما كان بعد أن كُتِبَتْ هذه الصحيفة من الاختلاف في صفوف أهل العراق، والائتلاف في صفوف أهل الشام، وأكبر الظن أن عليًّا ضاق بأصحابه حين رأى أنهم يعصونه في كل ما يأمرهم به أو يشير عليهم فيه، فخلى بينهم وبين ما أرادوا، وتمثل قول دريد بن الصمة:
وأكاد أشهد الأشعث بن قيس وقد استقام له كل ما أراد، فهو جذلان مسرور لا يكتفي بالرضى والغبطة، وإنما يأخذ الصحيفة فيمشي بها في الجيش يقرؤها على الجند ويكلف من يقرؤها عليهم حين تجهده القراءة، والجند يسمعون فيرضى كثير منهم؛ لأن الحرب قد كُفَّت عنهم، وتسخط منهم جماعة غير قليلة لأنهم يرون في هذه الحكومة وصحيفتها انحرافًا عن الدين، ومخالفة عما أمر الله به في القرآن، فمنهم من كان يقول: أتحكِّمون الرجال في دين الله؟ ومنهم من كان يكتفي بهذه الصيحة التي أصبحت شعارًا للخوارج فيما بعد: «لا حكم إلا لله»، ومنهم من كان يخرجه الغضب عن طوره فلا يكتفي بالقول وإنما يضيف إليه العمل، فقد يقال إن رجلًا من هؤلاء المنكرين للحكومة كره أن يشارك أصحابه، فاستل سيفه وصاح: لا حكم إلا لله. ورمى بنفسه جيش أهل الشام، فقاتل حتى قُتِل.
ومن المحقق أن عروة بن أديَّة، أخا ذلك الخارجي الذي حفظ التاريخ اسمه، وهو مرداس أبو بلال، لم يكد يسمع ما قُرِئ عليه من الصحيفة حتى ثار بالأشعث يريد أن يقتله، فنفرت دابة الأشعث وأصاب سيف عروة عجزها، وكاد الشر أن يقع بين اليمانية أصحاب الأشعث والتميمية قوم عروة، لولا أن مشت وجوه تميم فاعتذروا إليه حتى رضي.
وما ينبغي أن ندع جيش علي يترك صفين دون أن نبيِّن حجة هؤلاء الذين أنكروا الصحيفة وكرهوا الحكومة، وكان لهم بعد ذلك في تاريخ الإسلام شأن أي شأن! وحجتهم كانت واضحة أشد الوضوح وأقواه، جاء بها القرآن صريحة لا لبس فيها؛ فالله عز وجل يقول: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
وكان علي وأصحابه — وهم كثرة المسلمين — يرون أن معاوية وأصحابه قد بغوا، وقد أسفر علي إلى معاوية ومن معه من أهل الشام فردوا سفراءه، وأبوا أن يكون بينه وبينهم إلا السيف، ثم سبق معاوية وأصحابه إلى الماء فآثروا به أنفسهم وأرادوا تظمأ علي وأصحابه، فاقتتل الفريقان على الماء حتى خلص لعلي، ثم أُذِن لمعاوية وأصحابه أن يَرِدوا وأن يشربوا، فهاتان طائفتان من المؤمنين قد اقتتلوا.
ثم أرسل علي سفراءه إلى معاوية يعرضون عليه أن يدخل في الطاعة وألا يفرق المسلمين، فلم يجدوا عنده خيرًا، فاقتتلوا أيامًا ثم توادعوا شهر المحرم، وحاول علي وأصحابه الصلح فلم يجدوا من أهل الشام استجابة إليه، فاقتتلوا في صفر، وكان يجب أن يمضوا في القتال بحكم الآية الكريمة حتى يفيء معاوية وأهل الشام إلى أمر الله، وحينئذ تكف عنهم الحرب ويُرفَع عنهم السيف ويصبحون لخصمهم أولئك إخوانًا، ويجب الإصلاح بين الأخوين.
وقد كاد جيش علي أن يظفر بالطائفة الباغية ويضطرها إلى أن تفيء إلى أمر الله، ولكن المصاحف تُرفَع، وإذا الحرب تكف، وإذا القوم يدخلون في حكومة غامضة مبهمة لا حظ لها من وضوح أو جلاء، فلم يخطئ الذين قالوا: «لا حكم إلا لله.» إذن، وحكم الله هو أن يستمر القتال حتى يخضع معاوية وأصحابه، وليس أدل على ذلك من أن عليًّا نفسه — وهو الإمام — أبى أن ينخدع برفع المصاحف وقال: إن معاوية ورهطه الأدنين ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنما هم يكيدون ويخادعون ويتقون حر السيف. فقد كان الإمام إذن يرى ألا حكم إلا لله، وأن السبيل إلى حكم الله هو القتال حتى يذعن أهل الشام، ولكن كثرة أصحابه لم تذهب مذهبه واستكرهته على غير ما أحب، فكانت هذه الحكومة.
إلى هنا يظهر في غير لبس أن الذين حكموا لم يخطئوا وإنما التزموا أمر القرآن والتزموا رأي الإمام أيضًا، ويقال إنهم ألحوا عليه في أن يمضي بهم في القتال حتى ينفذ حكم الله، ولكن عليًّا رآهم قلة قليلة، ورأى أنه إن قبل مشورتهم أوقعهم بين عدوهم من أهل الشام وأصحابهم من أهل العراق، فألقى بأيديهم إلى التهلكة؛ ولذلك أبى عليهم وجعل يرفق بهم ويهدئهم، ويدعوهم إلى اختيار ما فيه لهم ولأصحابهم العافية.
وهنا يبدأ خطأ هؤلاء الذين حكموا، كانوا على صواب حتى شاوروا الإمام فنصح لهم واستأنى بهم وأمرهم بالقصد، وهم ليسوا أعلم بالقرآن من علي ولا أحفظ منه للسنة ولا أبصر منه بالمصلحة، وقد ينبغي أن يترك للإمام شيء من حرية يُمضي به الأمر بين رعيته، فهذه كثرة أصحابه تطالبه بالسلم والحكومة، وهذه قلة أصحابه تطالبه بالحرب ورفض الحكومة، وأولئك وهؤلاء يركبون رءوسهم ويُغلون فيما يذهبون إليه، وليس للإمام خيار إلا أن يمضي مع الكثرة إلى السلم والحكومة، والأمل في صلح يحقن الدم ويجمع الشمل، أو يمضي مع القلة إلى الحرب واليأس المبير. وقد آثر المضي مع الكثرة، فكان على القلة أن تؤثر ما آثرت محتفظة برأيها منتظرة مع الإمام، فإن كان الصلح المقنع فذاك، وإن لم يكن رجعت الكثرة إلى رأي القلة وعادوا جميعًا إلى الحرب.
ولكن كلا الفريقين من الكثرة والقلة أبى أن يتبع إلا رأيه، وانحاز علي إلى الكثرة كارهًا، ولم يمضِ يومان على كتابة الصحيفة، أنفقهما القوم في دفن القتلى حتى أذَّن مؤذن علي في أصحابه بالرحيل عن صفين، فرجعوا إلى الكوفة شر مرجع. خرجوا منها أشد ما يكونون مودة وإلفًا وتصافيًا، وعادوا إليها أشد ما يكونون موجدة وفرقة واختلافًا، يتشاتمون ويتضاربون بالسياط، تقول القلة للكثرة: خالفتم أمر الدين، وانحرفتم عن حكم القرآن، وحكَّمتم الرجال فيما لا حكم فيه إلا لله. وتقول الكثرة للقلة: خالفتم الإمام وفرقتم الجماعة وابتغيتموها عوجًا.
ثم لم يدخلوا الكوفة جميعًا كما خرجوا منها جميعًا، وإنما انحازت المحكمة إلى حروراء فاعتزلوا فيها، وكانوا ألوفًا يصل بها المكثرون إلى اثني عشر ألفًا، ويهبط بها المقللون إلى ستة آلاف، وقد اعتزلوا في حروراء فنسبوا إليها، وأذن مؤذنهم ألا إن على الحرب شَبث بن ربعي التميمي، وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء اليشكري، والبيعة لله عز وجل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومنذ ذلك اليوم نشأ في الإسلام حزب جديد كان له في تاريخه أثر بعيد، ودخل علي الكوفة منقلبه من صفين كما دخلها منقلبه من البصرة، فلم يرَ في مدخله هذا كما لم يرَ في مدخله ذاك فرحًا بقدومه ولا ابتهاجًا بلقائه، وإنما رأى في مدخله هذا كما رأى في مدخله ذاك لوعة وحسرة وبكاء، إلا أن ما رأى من ذلك بعد عودته من صفين كان أكثر كثرة وأشد نكرًا، فقد كان قتلى صفين بالقياس إلى قتلى يوم الجمل أضعافًا وأضعافًا.