الفصل السابع والعشرون
وقد خطب عليٌّ أصحابه بعد أن أتاه أمر الحكمين، فقال فيما روى البلاذري: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق المجرِّب تُورث الحسرة وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وهذه الحكومة بأمري ونخلت لكم رأيي لو يُطاع لقصير رأي، ولكنكم أبيتم إلا ما أردتم، فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن:
ألا إن الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم الكتاب وراء ظهورهما وارتأيا الرأي من قِبَل أنفسهما، فأماتا ما أحيا القرآن وأحييا ما أمات القرآن، ثم اختانا في حكمهما فكلاهما لم يرشد ولم يسدد، فبرِئ الله منهما ورسوله وصالح المؤمنين، فاستعدوا للجهاد وتأهبوا للمسير وأصبِحوا في معسكركم يوم الإثنين إن شاء الله.
وأصبح الناس في معسكرهم في الموعد الذي ضربه لهم إمامهم، وكتب علي إلى أهل البصرة، فجاءه منهم جند صالح، ولم يشخص ابن عباس هذه المرة، وإنما اكتفى بتسريح الجند إلى علي، ونهض علي بأصحابه يريد الشام، ولكنه لم يمضِ بهم إلا قليلًا حتى جاءته أنباء قلبت خطته كلها رأسًا على عقب، وكانت تلك الأنباء متصلة بأمر الخوارج، فهم كانوا رجعوا مع علي كما رأيت، وظنوا أنه قد عدل عن القضية، فلما رأوا أنه ماضٍ فيها عادوا إلى تحكيمهم وخرجوا أرسالًا من الكوفة، منهم من خرج سرًّا ومنهم من خرج مباديًا بخروجه لا يتستر ولا يحتاط، وكتبوا إلى إخوانهم من أهل البصرة فانضموا إليهم في بعض الطريق وساروا جميعًا إلى النهروان.
وكان علي يعلم هذا كله ويقول دائمًا مقالته المشهورة: «كلمة حق يراد بها باطل.» يقولها كلما سمع تحكيمهم أو تحدث إليه أحد بهذا التحكيم، وكان كذلك يقول: لا نمنعهم الفيء ولا نهيجهم ولا نبغيهم شرًّا ما لم يحدثوا حدثًا أو يفسدوا في الأرض. وكان يقول: إن سكتوا تركناهم وإن تكلموا حاججناهم وإن أفسدوا قاتلناهم.
ويقال إنه كتب إليهم ينبئهم بافتراق الحكمين على غير اتفاق ويدعوهم إلى أن يكونوا مع أصحابهم للشخوص إلى حرب أهل الشام، ولكنهم أبوا عليه، وقالوا: قد دعوناك إلى ذلك قبل القضية فأبيت، فأما الآن فإنا نأبى عليك لأنك لا تقاتل لله وإنما تقاتل لنفسك. كنت تظن أن قرابتك من رسول الله ﷺ ستحمل الناس على ألا يعدلوا بك أحدًا، فلما رأيت أنهم قد انحرفوا عنك نهضت لقتالهم تبتغي الدنيا، فلسنا منك ولا من الدنيا التي تبتغيها في شيء، إلا أن تشهد على نفسك بالكفر، ثم تتوب كما تبنا، فإن فعلت فنحن معك على عدوك، وإلا فليس بيننا وبينك إلا السيف.
ومع هذا كله لم يُرد علي أن يهيجهم وإنما أزمع المضي إلى الشام، وقال: لعلهم يتدارسون أمرهم ويثوبون إلى رشدهم، ولكن الأنباء تصل إليه بأنهم قد نشروا الفساد في الأرض، فقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت، وخباب من خيار الصحابة، وقتلوا نسوة كن مع عبد الله، وجعلوا يستعرضون الناس ويذيعون الذعر، فأرسل إليهم علي رجلًا من أصحابه يسألهم عن هذا الفساد، ويطلب إليهم أن يسلموا إليه أولئك الذين استحلوا قتل النفس التي حرم الله بغير الحق، فلم يكد الرسول يدنو منهم حتى قتلوه، وجاء الخبر عليًّا، فكره أصحابه أن ينهضوا إلى الشام ويتركوا من ورائهم هؤلاء الخوارج يفسدون في الأرض ويستبيحون أموالهم وعيالهم وهم غائبون. وألحوا على إمامهم في أن ينهض بهم إلى هؤلاء الخوارج، حتى إذا فرغوا منهم تحولوا إلى عدوهم من أهل الشام فحاربوا وهم مطمئنون على ما وراءهم.
وسمع لهم علي، فسار بهم إلى النهروان، حتى إذا صار بإزاء الخوارج جعل يطلب إليهم قتلة عبد الله بن خباب ومن كان معه، وقتلة رسوله إليهم، فلا يظفر منهم إلا بجواب واحد هو: «كلنا هؤلاء القتلة.» وجعل علي يعظهم بالكتابة مرة وبالخروج إليهم ووعظهم مشافهةً مرة أخرى، وقد أجدى وعظه هذا فجعل كثير من الخوارج يتسللون ويعودون إلى الكوفة، وجعلت طوائف منهم تعتزل جيش الخوارج، منهم من يعود إلى جيش علي، ومنهم من يعتزل الحرب دون أن يعود إلى الجماعة، حتى لم يبقَ حول عبد الله بن وهب الراسبي ذي الثفنات رئيس الخوارج إلا ثلاثة آلاف أو أقل من ذلك أو أكثر من ذلك قليلًا. فلما استيأس علي من هؤلاء عبأ جيشه وأمر بألا يبدءوهم بقتال حتى يقاتلوا هم، ولم يكد الخوارج يرون التعبئة حتى تعبئوا، وينتصف النهار ذات يوم وإذا هذه الفئة القليلة من الخوارج تتحرق إلى الحرب تحرق الظمآن إلى الماء، وإذا مناديهم يصيح فيهم: «هل من رائح إلى الجنة؟» فيتصايحون جميعًا: «الرواح إلى الجنة.» ثم يشدون على جيش علي شدة منكرة تنفرج لها خيل علي فرقين: فرق يمضي إلى الميمنة وفرق يمضي إلى الميسرة، والخوارج يندفعون بين الفِرقين، فيلقاهم رماة علي بالنبل فيصرعون منهم خلقًا كثيرًا، ثم يلتئم الفرقان من الخيل، وما هي إلا ساعة حتى يُقتَل الخوارج عن آخرهم، وفيهم رئيسهم ذو الثفنات وجماعة كانوا قبل التحكيم من أشد الناس نصحًا لعلي وجهادًا في سبيله؛ لأنهم كانوا يرون سبيله هي سبيل الله.
وينظر أصحاب علي إلى علي فإذا هو قلق لا يطمئن، يطلب إلى من حوله أن يلتمسوا ذا الثُّديَّة، رجلًا مخدج اليد، على عضده شامة تشبه ثدي المرأة، وعلى هذه الشامة شعرات سود، فيبحث الناس عنه في القتلى والصرعى، ثم يعودون فيقولون: بحثنا ولم نجد. ويزداد علي قلقًا ويقول: «والله ما كذبت ولا كُذِبت، ويْحَكم! التمسوا الرجل فإنه في القتلى.» فيبحثون ثم يأتي آتٍ فينبئ عليًّا بأنهم قد وجدوه، فإذا سمع النبأ خرَّ ساجدًا وسجد معه من كان حوله من أصحابه، ثم يرفع رأسه يقول: «والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبتُ، ولقد قتلتم شر الناس.»
ويتحدث المؤرخون والمحدثون وأصحاب السير بأن هذا الرجل المخدج ذا الثدية هو الذي قال للنبي ﷺ حين قسم الغنائم يوم حنين وتألف من تألف من العرب: «اعدل يا محمد فإنك لم تعدل.» وأعرض النبي عنه مرة ومرة، فلما أعاد مقالته للمرة الثالثة قال له النبي، وقد ظهر الغضب في وجهه: «ومن يعدل إذا لم أعدل؟»
وهمَّ بعض المسلمين بقتله فكفهم النبي عنه، وقال فيما يروي المحدثون والمؤرخون: «يخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يتلون القرآن لا يتجاوز تراقيهم.»
وقد فرغ علي إذن من قتال الخوارج فقتلهم جميعًا، إلا من انسل منهم إلى الكوفة أو اعتزل الحرب، وكان علي فرحًا بهذا الانتصار، ولا سيما بعد أن رأى ذلك المخدج ذا الثدية الذي كان قبل ذاك من أشد الناس لزومًا له وأكثرهم حرصًا على مجالسته. وكان مما أرضى عليًّا أنه قد فرغ — فيما يرى — من عدوه المخالط له الذي كان خطرًا على ما يترك في العراق من الأموال والعيال، وخطرًا على الجيش نفسه يستطيع أن يأخذه من وراء، ويستطيع أن يقطع عليه رجعته إلى العراق.
ظن علي أن الأمور قد استقامت له فلم يبقَ إلا أن يرمي بجيشه هذا المنتصر أهل الشام، ولكن الشيء الذي لم يكن يفكر فيه علي، ولم ينتبه إليه أحد يومئذ، هو أن هذه الآلاف الثلاثة من الرجال الذين قُتِلوا كانوا كلهم من أهل العراق، أكثرهم من أهل الكوفة، وبعضهم من أهل البصرة، وليس منهم إلا من ينتمي إلى عشيرة في أحد هذين المصرين، وكثير منهم كانت عشائرهم في جيش علي ذاك الذي قتلهم، فقد كان عدي بن حاتم مثلًا مع علي في النهروان، وكان ابنه زيد في الخوارج الذين قُتِلوا. وما أكثرَ أبناء الأعمام الذين قتل بعضهم بعضًا في ذلك اليوم! وقُل ما شئت في البواعث التي دفعت أولئك وهؤلاء إلى أن يقتل بعضهم بعضًا، كانوا جميعًا يخلصون في الدفاع عما كانوا يرون أنه الحق، وكانوا جميعًا يصدرون عن شعور ديني صادق لا شك فيه، ولكنهم كانوا جميعًا ناسًا من الناس يجدون في قلوبهم ما يجد الإنسان من الحزن على فقد الابن والأخ والصديق، ويجدون ما يجد العربي في نفسه من الموجدة حين يقتل ابنه أو صديقه أو أخوه، ويشعرون كما كان يشعر ذلك الفارس الجاهلي حين قال:
وكما كان يشعر جاهلي آخر حين قال:
وكما كان علي نفسه يشعر يوم الجمل حين كان يقول بعد أن نظر إلى القتلى من الفريقين:
وقد ابتهج أهل الكوفة في حزن بعد يوم الجمل بانتصارهم على أهل البصرة، وشجعهم هذا الانتصار على أن ينهضوا إلى صفين، أما في هذا اليوم يوم النهروان فأهل الكوفة يقتلون أهل الكوفة وأهل البصرة يقتلون أهل البصرة، فأي غرابة في أن يشيع الحزن في القلوب وتغشى النفوس كآبة لا تؤذن بخير؟! وأي غرابة في أن يدعوهم علي إلى النهوض إلى الشام فيعتل عليه رؤساؤهم، منهم الصادق ومنهم الماكر الكاذب. يقولون له: قد نفدت السهام وتكسرت السيوف ونصلت الرماح، فأعِدنا إلى مصرنا لنريح ونجدد أداتنا ثم ننهض معك إلى عدونا.
ولا يكاد علي يعود بهم إلى معسكرهم في النخيلة خارج الكوفة ويُحرج عليهم ترك المعسكر ودخول المصر حتى ينظر فإذا هم يتسللون أفرادًا وجماعات، حتى لا يبقى في المعسكر إلا عدد يسير لا يغنون عنه شيئًا، وحتى يضطر هو إلى أن يدخل الكوفة ويفكر في الاستعداد للحرب من جديد.
وكان معاوية قد بلغه نهوض علي إلى الشام، فنهض في أصحابه يسبق إلى صفين، ولكن عليًّا لم يقدم، فلما عرف معاوية ما كان من أمره مع الخوارج، ومن رجوعه إلى الكوفة وتخاذل أصحابه عن القتال عاد إلى دمشق موفورًا دون أن يلقى كيدًا.