الفصل التاسع والعشرون
ثم لم تقف محنته في أصحابه عند هذا الحد، ولكنها تجاوزته إلى شر منه وأقسى، فقد استبان له بعد قليل أن انتصاره في النهروان لم يغنِ عنه شيئًا، على ما كلفه من مشقة وما أعقب في نفسه وفي نفوس أصحابه من حزن وحسرة، فهو لم يقتل الخوارج في النهروان، وإنما قتل منهم جماعة ليس غير، وقد ظل الخوارج معه بعد ذلك يعايشونه في الكوفة، ويعايشون عامله في البصرة، وينبثون في أطراف السواد بين المصرين.
كانوا يعيشون موتورين لا ينسون ثأر إخوانهم الذين صرعوا في النهروان، محتفظين بآرائهم كلها لم تغيِّر الهزيمة منها شيئًا، وإنما زادتها قوة إلى قوة، وأضافت إليها قوة أخرى منكرة فظيعة، تأتي من البغض والحقد والحرص على طلب الثأر.
وقد رسمت الظروف لهؤلاء الخوارج خطة محتومة لم ينحرفوا عنها قط أثناء تاريخهم الطويل، وهي أن يكيدوا للإمام ويمكروا به ويخذلوا عنه ويحرضوا عليه، ويدعوا إلى مذهبهم حين لا تواتيهم القوة ولا يسعفهم البأس، فإذا كثر عددهم واستطاعوا مكابرة السلطان خرجوا من أمصارهم مستخفين أو ظاهرين، ثم ابتعدوا مكانًا يلتقون فيه، فإذا التقوا أظهروا المعصية وسلوا السيف.
فقد عاش الخوارج إذن مع علي في الكوفة يدبرون له الكيد ويتربصون به الدوائر ويصرفون عنه قلوب الناس وعقولهم، يشهدون صلاته ويسمعون خطبه وأحاديثه، وربما عارضه منهم المعارض فقطع عليه الخطبة أو الحديث، وهم على ذلك مطمئنون إلى عدله، آمنون من بطشه، مستيقنون أنه لن يبسط عليهم يدًا ولن يكشف لهم صفحة حتى يبادوه، وهم يأخذون نصيبهم من الفيء وحظوظهم من المال الذي يُقسَم بين حين وحين، فيتقوون به على الحرب ويستعدون به للقتال.
وكان علي قد أخذ نفسه بألا يعرض لهم بشرٍّ حتى يبتدئوه، وأعلن إليهم ذلك وإلى الناس، فأطمعهم عدله وإسماحه فيه، وأغراهم لينه وبره بهم، وكان يعلم منهم ذلك حق العلم، وقد استقر في نفسه أنهم قاتلوه حتى لقد كان كثيرًا ما يقوله: «لتخضبن هذه من هذه.» يشير إلى لحيته ويشير إلى جبهته.
وكان من أُلقي إليه من النبي ﷺ فيما يظهر أنه سيموت مقتولًا، وأن قاتله أشقى هذه الأمة، فكان كثيرًا ما يقول في خطبه حين يشتد سأمه لأصحابه وضيقه بعصيانهم: ما يؤخر أشقاها؟
ولم يكن الخوارج يتحرجون من الجهر بآرائهم بين حين وحين، حتى جاءه أحدهم ذات يوم وهو الخريت بن راشد السامي — من ولد سامة بن لؤي — ذات يوم، فقال له: والله لا أطعت أمرك ولا صليت خلفك. فقال له علي: ثكلتك أمك، إذن تعصي ربك، وتنكث عهدك، ولا تغر إلا نفسك، ولمَ تفعل ذلك؟ قال: «لأنك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق حين جد الجد، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك زارٍ وعليهم ناقم.» فلم يغضب علي لذلك ولم يبطش به، إنما دعاه إلى أن يناظره ويبين له وجه الحق لعله أن يثوب إليه، فقال له الخريت: أعود إليك غدًا. فقبل منه علي وخلى بينه وبين حريته، لم يرتهنه في سجن حتى يناظره فيسمع منه ويقول له، وإنما ترك له الطريق، فانصرف الرجل إلى قومه من بني ناجية، وكان فيهم مطاعًا، شهد بهم يوم الجمل وصفين، فأخبرهم بما كان بينه وبين علي، ثم خرج بهم في ظلمة الليل من الكوفة يريد الحرب، ولقي الخريت وأصحابه في طريقهم رجلين سألوهما عن دينهما، وكان أحدهما يهوديًّا، فلما أنبأهم بدينه خلوا سبيله لأنه ذمي، وأما الآخر فكان مسلمًا من الموالي، فلما أنبأهم بدينه سألوه عن رأيه في علي فقال خيرًا، فوثبوا عليه فقتلوه، وأنبأ اليهودي بما رأى عاملًا من عمال علي على السواد، فكتب العامل إلى علي، وأرسل علي جيشًا لتتبع هؤلاء القوم وردهم إلى الطاعة ومناجزتهم إن أبوا، ولحق بهم الجيش.
وكانت بين القائد وبين الخريت مناظرة لم تُجْدِ شيئًا، فطلب إليه القائد أن يسلموا إليه قتلة ذلك المسلم، فأبى الخريت، وكان بينهم قتال شديد لم يبلغ فيه أحد من صاحبه شيئًا، ثم تحاجز القوم آخر النهار وهرب الخريت بأصحابه نحو البصرة.
وأرسل علي جيشًا آخر أعظم قوة وأكثر عددًا، وأمره بتعقب هؤلاء القوم، وكتب إلى عبد الله بن عباس عامله على البصرة أن يمد هذا الجيش، ففعل. والتقى الفريقان، فاقتتلوا أشد قتال وظهر الضعف في أصحاب الخريت، ولكنه استطاع في هذه المرة أيضًا أن يهرب بأصحابه تحت الليل.
ولم يلبث أمر هذا الرجل أن استبان وظهر أنه لم يخرج غضبًا للحق ولا إنكارًا للحكومة، وإنما كان مغامرًا يوهم الخوارج أنه معهم، ويوهم العثمانية أنه يطلب بدم عثمان، وقد جعلت أخلاط كثيرة من الناس تنضم إليه، وجعل يمضي في طريقه على ساحل البحر، لا يكاد يتقدم إلا انضم إليه من الأخلاط والعلوج طوائف، حتى كثف جيشه وعظم أمره، وتبعه قوم من النصارى، فمنهم من كان أسلم فعاد إلى نصرانيته، ومنهم من ظل على دينه ولكنه أراد أن يتخلص من أداء الجزية، وجعل جيش علي يتبع الخريت وأصحابه حتى أظلهم ذات يوم، وكانت بينه وبينهم موقعة قُتِل فيها الخريت، وأَخذ قائد علي من بقي من أصحابه أسرى، فمن كان منهم مسلمًا مَنَّ عليه، ومن كان منهم قد ارتد استتابه، فإن أسلم مَنَّ عليه أيضًا، وإن لم يسلم أخذه أسيرًا سبيًا.
وكتب بذلك إلى علي، وعاد بأصحابه وأسراه نحو الكوفة، وكان هؤلاء الأسرى خمسمائة، فمروا بخطة من خطط فارس عليها عامل لعلي هو مصقلة بن هبيرة الشيباني، فجعل الأسرى يتصايحون بالدعاء لمصقلة والاستغاثة به واستعانته على تخليصهم من أسرهم، وكانت كثرتهم من قومه بكر بن وائل، فاشتراهم مصقلة من قائد علي وأعتقهم، ولكنه التوى بما شرطه على نفسه من ثمنهم.
وانتهى الجيش إلى الكوفة، وعرف علي قصة مصقلة مع الأسرى، فأثنى على القائد وصوَّب رأيه، وانتظر أن يرسل مصقلة ما عليه من دين، فلما أبطأ طالبه وألح في مطالبته وإنذاره، ثم أرسل إليه من يتقاضى منه المال، فإن التوى به حمله إلى أمير البصرة ابن عباس.
وكان أمر مصقلة هذا من أوضح الأدلة وأقواها على طبيعة الطاعة التي كان كثير من أشراف أهل العراق يبذلونها لعلي، فقد التوى بدَيْنِهِ وحُمِل إلى ابن عباس، فلما طالبه ابن عباس بأداء الدين قال: «لو قد طلبت أكثر من هذا المال إلى ابن عفان ما منعني إياه.» ثم احتال حتى هرب من البصرة ولحق بمعاوية، فتلقاه معاوية أحسن لقاء وأطمعه وأرضاه، حتى طمع مصقلة في أن يحمل أخاه نعيم بن هبيرة على أن يلحق به. كتب إليه في ذلك مع رجل من نصارى تغلب يُقال له جلوان، ولكن هذا النصراني لم يكد يبلغ الكوفة حتى عرف علي أمره وعرف أنه لا يبلغ الرسالة فحسب، وإنما يتجسس أيضًا، فقطع يده ومات الرجل في إثر ذلك، فقال نعيم يخاطب أخاه:
فلم تكن طاعة مصقلة إذن لعلي طاعة الرجل الذي يصدر في كل ما يأتي عن معرفة الحق والإيمان به والقيام دونه والصبر على ما يكون من نتائج هذا كله، وإنما كانت طاعته طاعة رجل من الناس لخليفة من الخلفاء، رجل يؤثر العافية وينتهز الفرصة ويبتغي لنفسه الخير مهما يكن مصدره، يعنيه أمر نفسه قبل أن يعنيه أي شيء آخر، ولم يكن مصقلة فذًّا في ذلك، وإنما كان له أشباه من أشراف الناس فضلًا عن عامتهم في الكوفة والبصرة جميعًا.
فهو يشتري الأسرى ويعتقهم لا يبتغي ثواب الله ولا يبتغي حسن الأحدوثة، وإنما يستجيب للعصبية وحدها ويتخذ المكر بالسلطان وسيلة إلى إرضائها، فإذا عرف السلطان مكره وطالبه بالحق لم يصطبر له ولم يؤدِّ منه ما لزمه، وإنما فرَّ إلى الذين يحاربون الخليفة ويكيدون له، فأصبح عدوًّا بعد أن كان وليًّا، ولم يكن لقاء معاوية له وترحيبه به وإيثاره إياه بالمعروف خيرًا من التوائه هو بالدين وفراره هو إلى الشام، وإنما كان كيدًا من الكيد، ومكرًا من المكر، ومكافأة على ما لا يحسن أن يُكافأ عليه المسلم الصدوق، إنما كان ذلك يحسن لو قد فر إلى معاوية رجل من الروم ليكيد معه لقيصر ويعينه على غزو العدو، فأما أن يؤوي من كاد لإمامه لا بشيء، ونكث عهده لا لشيء، إلا لأنه قد يعينه على إفساد أمر العراق، فهذا هو الذي يبين وجهًا خطيرًا من وجوه السياسة التي أراد معاوية أن يقيم عليها أمر السلطان الجديد، سياسة الدنيا بأعراضها وأغراضها، وبمنافعها ومآربها، وبأهوائها وشهواتها.
وهنا يظهر الفرق واضحًا بين مذهب علي في السياسة التي تُخلص للدين، ومذهب معاوية في السياسة التي تُخلص للدنيا.
أما علي فلم يزد حين بلغه فرار مصقلة على أن قال: «ما له قاتله الله؟! فَعل فِعل السيد وفر فرار العبد!» ثم أمر بدار مصقلة فهُدِمت.