الفصل الثالث
وكان علي وعمُّه العباس يريان حين قُبِض رسول الله ﷺ أن الخلافة حق لبني هاشم لا ينبغي أن تُصرف عنهم ولا أن يقوم بها أحد من دونهم، ولولا أنَّ العباس أسلم بأخرة لفكَّر في نفسه أن يرشِّح نفسه خليفة لابن أخيه فيتلقَّى عنه تراثه في القيام بشأن المسلمين، ولكنه نظر في الأمر فرأى ابن أخيه عليًّا أحق منه بوراثة هذا السلطان؛ لأنه ربيب النبي وصاحب السابقة في الإسلام وصاحب البلاء الحسن الممتاز في المشاهد كلها، ولأن النبي كان يدعوه أخاه حتى قالت له أم أيمن ذات يوم مداعبةً: «تدعوه أخاك وتزوِّجه ابنتك!» ولأن النبي قال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.» وقال للمسلمين يومًا آخر: «من كنت مولاه فعلي مولاه.» من أجل ذلك كله أقبل العباس بعد وفاة النبي على ابن أخيه فقال له: «ابسط يدك أبايعك.» ولكن عليًّا أبى مخافة الفتنة، وذكَّره العبَّاس بذلك بعد أعوام طوال.
وكان هناك رجل آخر من قريش أراد أن يبايع عليًّا بعد وفاة النبي لا حبًّا له ولا رضى به ولا اعترافًا بمكانته الخاصة من النبي بل عصبيَّة لبني عبد مناف، وهذا الرجل هو أبو سفيان زعيم قريش أثناء حربها للنبي ومقاومتها للإسلام، والذي لم يُسلم إلا كارهًا حين رأى جيوش المسلمين مطبقة على مكة فأدخله العباس على النبي فأسلم كرهًا لا طوعًا، لم يتردد في الاعتراف بأن لا إله إلا الله؛ لأنه لم يرَ بهذا الاعتراف بأسًا، ولكنه حين طُلب إليه أن يشهد أن محمدًا رسول الله قال: «أما هذه فإن في نفسي منها شيئًا.» ولولا حث العبَّاس له وتخويفه القتل لما اعترف بهذه الشهادة التي كان في نفسه منها شيء، ولكنه أسلم على كل حال، وعرف النبي له مكانته في قريش فجعل داره مثابة يأمن من أوى إليها من أهل مكة حين دخلها الجيش، فهو إذن أحد هؤلاء الطلقاء الذين عفا النبي عنهم حين دخل مكة فاتحًا منتصرًا، ولم يخطر له قط أن يكون خليفة للمسلمين، ولكنه رأى النبي من بَني أبيه عبد مناف، ورأى عليًّا أحق الناس بوراثة سلطانه، ورأى الخلافة تُساق إلى رجل من بني تَيم هو أبو بكر، وقُدِّر أنها ستُساق بعد أبي بكر إلى رجل من بني عدي هو عمر، فآثر بني أبيه الأدنين على بَني عمه، وقال لعلي: «ابسط يدك أبايعك.» ولكن عليًّا أبى أن يستجيب له كما أبى أن يستجيب لعمه العباس، ولو قد استجاب لهذين الشيخين لأثار بين المسلمين فتنة لم يكونوا في حاجة إليها، ولعلهم لم يكونوا قادرين على احتمالها فضلًا عن مقاومتها والخروج منها ظافرين.
فقد علمتَ ما كان من خلاف الأنصار في أمر البيعة حين قُبض النبي، فكيف لو اختلفت قريش نفسها؟! وقد علمتَ ما كان من ارتداد العرب في أول خلافة أبي بكر، فكيف لو اختلف الذين وفوا للإسلام من قريش والأنصار؟! كان علي موفقًا إذن كل التوفيق، ناصحًا لله وللإسلام كل النصح حين امتنع على هذين الشيخين فلم يَنصِب نفسَه للخلافة ولم ينازعها أبا بكر وإنما بايعه كما بايعه الناس وصبر نفسه على ما كانت تكره، وطابت نفسه للمسلمين بما كان يراه حقًّا له، وكأنه قدَّر أن الأمر لن يعدوه بعد وفاة أبي بكر، وعذر المسلمين في استخلاف هذا الشيخ الذي أمره النبي أثناء مرضه أن يصلي بالناس، على أنه لم يُسرع إلى بيعة أبي بكر وإنما تلبَّث وقتًا غير قصير، ولعله وجد على أبي بكر كما وجدت عليه فاطمة رحمها الله؛ لأنه أبى أن يدفع إليها ما طلبت من ميراث أبيها ﷺ وروى لها قوله: «نحن معشر الأنبياء لا نُورث، ما تركناه صدقة.» ولكنه على كل حال أقبل فبايع واعتذر عن تلبُّثه بأنه لم يُرد أن يخرج من بيته حتى يجمع القرآن، وقَبِل أبو بكر منه عذره.
وكان أبو بكر شيخًا قد جاوز الستين من عمره قليلًا، وكان علي ما يزال في نضرة شبابه قد نَيَّف على الثلاثين، فكان يرى أن المستقبل أمامه وأمام المسلمين فسيح، وأن حقه سيُرَدُّ إليه حين يختار الله لجواره هذا الشيخ الذي قدَّمه النبيُّ لأمر من أمور الدين فقدَّمه المسلمون لأمور الدنيا.
ولكن أبا بكر عهد بالخلافة إلى عمر، وقبل المسلمون عهده مجمعين على قبوله لم يُمَارِ فيه منهم أحد، فاستبان لعلي يومئذ أن بينه وبين المهاجرين من قريش خلافًا واضحًا، فهو يرى لنفسه الحق في الخلافة، والمهاجرون لا يرون له هذا الحق، وإنما يرونه واحدًا منهم يجري عليه من الأمر ما يجري عليهم.
فأما الأنصار فقد استيأسوا من الخلافة وطابت بها نفوسهم للمهاجرين من قريش يبايعون منهم من ينصبونه للبيعة، وقد بايع علي ثاني الخلفاء كما بايع أولهم كراهيةَ الفتنة وإيثارًا للعافية ونصحًا للمسلمين، ولم يُظهر مطالبة بما كان يراه حقًّا له بل لم يُجَمجم به، وإنما صبر نفسه على مكروهها ونصح لعمر كما نصح لأبي بكر، فلما طُعن عمر وجعل الخلافة في هؤلاء الستة من أصحاب الشورى لم يشكَّ علي في أن قريشًا لا ترى رأيه ولا تؤمن له بحقه ورأى ألا يدعو إلى نفسه وألا يستكره الناس على ما لا يريدون، ولو قد أراد أن يستكرههم لما وجد إلى ذلك سبيلا، فلم تكن له فئة ينصرونه ولم يكن يأوي إلى ركن شديد، وإنما كان نفر يسير من خيار المسلمين يرون رأيه ويجمجمون بالدعوة إليه، ولكنهم كانوا من المستضعفين الذي لم يقووا إلا بالإسلام، ولم تكن لهم عصبية ولا قوة ماديَّة، ومن هؤلاء الناس عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود.
وقد بايع علي عثمانَ كما بايع الشيخين وهو يرى أنه مغلوب على حقه، ولكنه على ذلك لم يتردد في البيعة ولم يقصِّر في النصح للخليفة الثالث، كما لم يقصِّر في النصح للشيخين من قبله، حتى كانت الخطوب التي صورناها في الجزء الأول من هذا الكتاب.
فكان طبيعيًّا إذن حين قُتل عثمان أن يفكر علي في نفسه وفيمَ غُلب عليه من حقه، ولكنه مع ذلك لم يطلب الخلافة ولم يَنصب نفسه للبيعة إلا حين استُكره على ذلك استكراهًا، وحين هدَّده بعض الذين ثاروا بعثمان بأن يبدءوا به فيلحقوه بصاحبه المقتول، وحين فزع إليه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة يُلحُّون عليه في أن يتولَّى أمور المسلمين ليُخرجهم من هذه الفتنة المُظلمة، ثم هو حين قبل البيعة لم يُكره عليها أحدًا من أصحاب النبي، وإنما قبل البيعة ممن بايعه وترك من لم يُرد أن يبايعه، ترك سعد بن أبي وقَّاص، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وترك جماعة من الأنصار على رأسهم محمد بن مَسلمة، ولم يستثنِ إلا هذين الرجلين: طلحةَ والزبير، خاف منهما الفتنة لموقفهما من عثمان والثائرين به، فرضي أن يستكرههما على البيعة، فيما يقول أكثر المؤرخين. وأكاد أعتقد أنا أنهما لم يُستكرها، كما زعما وكما زعم كثير من الرواة، وإنما أقبلا على البيعة راضيَين ثم بدا لهما بعد ذلك حين رأيا من الخليفة ما لم يكونا ينتظران، كانا يقدران في أكبر الظن أن عليًّا محتاج إليهما أشد الاحتياج، لأحدهما قوة في الكوفة ولأحدهما قوة في البصرة، وقد شارك أهلُ الكوفة وأهل البصرة في الثورة مشاركة خطيرة، وكان الناس يظنون أنهم إنما شاركوا في هذه الثورة عن تحريض، أو على أقل تقدير عن رضى من طلحة والزبير.
فكانا إذن يفكران في أن عليًّا سيعرف لهما مكانتهما وقوتهما وسلطانهما على حزبيهما من أهل البصرة والكوفة وسيشركهما في أمره، وستكون الخلافة ثلاثية يتقاسمها هؤلاء النفر الثلاثة من أصحاب الشورى: لعلي الحجاز ومصر وما وراءهما من بلاد العرب ومما فُتح أو يُفتح في شمال إفريقيا، وللزبير البصرة وما يليها، ولطلحة الكوفة وما وراءها. وكانا يظنان أن هذه الخلافة الثلاثية إن استقامت لهم كان أمر الشام يسيرًا، ولكن عليًّا أبى عليهما ولايةَ هذين المصرين وأراد أن يسير فيهما سيرةَ عمر فيحبسهما معه في المدينة كما كان عمر يحبس أعلام المهاجرين من قبل، إلا أن عليًّا لم يعنف بهما كما كان عمر يعنف بمن يستأذنه في الخروج إلى الأقطار، وإنما قال لهما في رفق رفيق: «أحب أن تكونا معي أتجمَّل بكما؛ فإني أستوحش لفراقكما.» هنالك عرف الشيخان أن ظنهما لم يصدُق وأن تقديرهما لم يكن صوابًا، وأن عليًّا سيستأنف سيرة عمر من حيث انقطعت يوم طعنه ذلك الغلام، وأن أمرهما معه في المدينة سيكون كأمرهما وكأمر غيرهما من أعلام المهاجرين مع عمر، سيقيمان في المدينة وسيأخذان عطاءهما كل عام، ولن يلقيا من علي بعض ما كان يمنحهما عثمان من الرفق والتسامح واللِّين، فلم يطالبا بالكوفة ولا بالبصرة، وإنما سكتا على مضض ودبَّرا أمرهما في رويَّة وأناة.