الفصل الثلاثون
ومضى امتحان علي على هذا النحو المر، خيانةً من الولي وكيدًا من العدو، وهو بين ذلك كله مصمم على خطته الواضحة، لا يرضى الدنية من الأمر ولا يدهن في دينه، ولا يتحول عن سياسته الصريحة قليلًا ولا كثيرًا، والمحن تتابع عليه ويقفو بعضها إثر بعض، وهو ماضٍ في طريقه لا ينحرف عنه إلى يمين أو إلى شمال، يبلغ منه الغيظ أقصاه، ويضيق بحياته أشد الضيق، فلا يزيد على أن يجمجم ويظهر غيظه دون أن يلفته شيء من ذلك عما صمم عليه.
ولم يكد يَفرُغ من أمر النهروان حتى امتُحِن في دولته نفسها، فقد أخذ معاوية يُغير على أقطارها وينتقص أطرافها، وقد أطاعه أهل الشام مخلصين في الطاعة، لا يناقشونه إذا أمرهم ويُقبلون عليه إذا دعاهم، وكانت نفسه قد تعلقت بمصر منذ نهض علي بالخلافة؛ لقربها منه وبُعدها من علي، ولأن الثائرين من أهلها كانوا أشد أهل الأقاليم على عثمان وأسرعهم إلى الفتك به، وقد هم معاوية أن يصل بالكيد إلى ما أراد من مصر، وكأنه قد بلغ بكيده ما أحب بعد خطوب طوال ثقال.
كان علي قد ولَّى قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي أمرَ مصر، وكان لهذا الأمر كفئًا ولهذا العبء حاملًا، قدم مصر وقرأ على أهلها عهد علي، فقام الناس إليه فبايعوا لعلي واستقام له الأمر، إلا أن فريقًا منهم اعتزلوا وكتبوا إلى قيس أنهم لا يريدون أن ينصبوا له حربًا ولا أن يمنعوه خراجًا، ولكنهم ينتظرون بالبيعة حتى يروا ما يصير إليه أمر الناس، فوادعهم قيس ولم يهجهم، ثم كتب إليه معاوية وعمرو بن العاص يستميلانه إليهما؛ فرد عليهما ردًّا رفيقًا لم يوئسهما من نفسه ولم يطمعهما فيها، وإنما أراد أن يتقي شرهما ويأمن مكرهما في إقليمه هذا البعيد من مركز الخلافة، ولكن معاوية لم يرضَ منه بذلك وإنما كتب إليه، وكتب ليعرف الصريح من رأيه وليتبين أصديق هو أم عدو، فلما استيأس منه فسد الأمر بينهما حتى كتب إليه يسبه، ويدعوه اليهودي ابن اليهودي، فرد عليه قيس سبًّا بسب، ودعاه الوثني ابن الوثني، ووصفه وأباه بأنهما دخلا في الإسلام كارهين وخرجا منه طائعين.
فعرف معاوية أن أمر قيس لن يستقيم له بالكيد الرقيق ولا بالنذير العنيف، فلم يَكِد له في مصر وإنما كاد له في العراق، كتب على لسانه كتابًا أظهر فيه انحرافه عن علي وغضبه لعثمان ومطالبته بدم الخليفة المظلوم، ودس الكتاب إلى أهل الكوفة، فأما علي فلم يصدق ما جاء في الكتاب ولم يزد على أن قال لأصحابه: إني أعلم بقيس منكم، وإنما هي فعلة من فَعلاته. ولكن أصحابه صدقوا وثاروا وألحوا في عزل قيس. وتريث علي مع ذلك وكتب إلى قيس يأمره أن يناجز القوم الذين اعتزلوا، ولا يقبل منهم إلا البيعة، فأجابه قيس متعجبًا من إسراعه إلى حرب هؤلاء القوم الوادعين، طالبًا إليه أن يخلي بينه وبين إقليمه يدبره كما يرى لأنه قريب وعلي بعيد، ولأنه يخشى إن هاج هؤلاء الناس أن يفسد عليه الأمر، وأن يجدوا من قومهم من ينصرهم، وأن يستعينوا معاوية فيعينهم.
ولم يشك أهل الكوفة بعد أن عرفوا ذلك من أمر قيس في أنه قد أضمر الشر وخالف عن أمر إمامه، فألحوا في عزله، وما زالوا يلحون حتى عزله علي وولَّى مكانه محمد بن أبي بكر.
وكان الفرق بين محمد بن أبي بكر وبين قيس بن سعد أن محمدًا كان شابًّا حدثًا، وأن قيسًا كان رجلًا قد جرب الأمور وبلا حلو الدهر ومره، وأن محمدًا كان قد شارك في أمر عثمان، وأن قيسًا لم يكن قد شارك فيه، وأن محمدًا كان رجلًا تستخفه الحرب ولا يستجيب إلا لعواطف نفسه وشبابه، وأن قيسًا كان رجلًا يؤثر الأناة ويزن الأمور ولا يحب الحرب إلا حين لا يكون منها بد.
فلما وصل محمد بن أبي بكر إلى مصر رحل عنها قيسٌ إلى المدينة، فلم يقم فيها إلا قليلًا، ثم قدم على علي فشهد معه صِفين ونصح له في المحضر والمغيب، ودعا محمد بن أبي بكر أولئك المعتزلة إلى الطاعة، فلما أبوا عليه أخذ في حربهم، فأرسل إليه جندًا لم يلبث أن انهزم، وأرسل إليهم جيشًا آخر لم يلبث أن انهزم أيضًا، وثار لهؤلاء الناس قومٌ من أنصارهم، وظهرت الدعوة للثأر بعثمان في مصر، واضطرب أمر الإقليم، وعرف علي ذلك فولى الأشتر النخعي مصر وعزل عنها محمد بن أبي بكر، ولكن الأشتر لم يكد يصل إلى القلزم حتى مات. وأكثر المؤرخين يتحدثون بأن معاوية أغوى صاحب الخراج في القلزم وحط عنه الخراج ما بقي إن احتال في موت الأشتر، وبأن هذا الرجل دس للأشتر سمًّا في شربة من عسل فقتله ليومه أو لغده، وكان معاوية وعمرو يتحدثان فيقولان: إن لله جنودًا من عسل.
ثم جهز معاوية جيشًا لغزو مصر وأمَّر عليه عمرو بن العاص، واضطر علي إلى أن يثبت محمد بن أبي بكر في ولايته ويأمره بالتحرز والاحتراس ويعده بإرسال المال والجند، وجعل يدعو أهل الكوفة إلى نصر إخوانهم في مصر، فلم ينتدبوا لذلك، فلما اشتد عليهم في الإلحاح انتدب له جنيدٌ ضئيل، فأرسلهم علي إلى مصر، ولكنه لم يلبث أن تلقى الأنباء بأن عمرًا قد دخل مصر فاحتازها، وبأن محمد بن أبي بكر قد قُتِل وحُرِقت جثته في النار، فرد جنده الضئيل وخطب أهل الكوفة لائمًا مشتدًّا في اللوم كعادته، ولكن أهل الكوفة لم يزيدوا على أن سمعوا ثم تفرقوا.
ومنذ ذلك اليوم انقسمت الدولة الإسلامية شطرين؛ شطر المغرب: وأمره إلى معاوية، وقوامه الشام ومصر وما فُتِح على المسلمين من إفريقية وما وراء ذلك من أرض كانت تنتظر الفتح، وشطر المشرق: وأمره إلى علي، وقوامه العراق وما فُتِح على الفرس وجزيرة العرب. على أن معاوية لم يقنع بما احتاز من هذا المغرب، وإنما أطمعه انتصاره، واجتماع أصحابه عليه، وطاعتهم له، وكيده لعلي في العراق، ونُجحه فيما كان يحاول من استهواء أصحاب علي، فلم يلبث أن فكر ثم حاول فلم يخطئه النُجح فيما فكر ولا فيما حاول، ولم يفكر في أقل من أن يغزو أهل العراق في عقر دارهم، ولم يحاول أقل من أن يشيع الذعر والهلع فيما بقي لعلي من الأرض.