الفصل الحادي والثلاثون
وفي أثناء هذا كله أضاف أقرب الناس إلى علي وآثرُهم عنده محنةً إلى محنه الكثيرة، وهو ابن عمه وعامله على البصرة عبد الله بن عباس صاحب رأي علي، وأعرف الناس بدخيلة أمره، وأقدرهم على نصحه ونصره، وأجدرهم أن يعينه ويُخلص له حين تتنكر له الدنيا ويَمكر به العدو ويلتوي عليه الصديق.
ولم يقصر علي في ذات ابن عمه، لم يُخفِ عليه من أمره شيئًا، ولم يحتجز عنه سرًّا من أسراره، وإنما كان يراه وزيرًا طبيعيًّا له، أقام هو في الكوفة وولَّى وزيره وابن عمه البصرة، وهي أعظم أمصاره وأجلها خطرًا، وكان علي ينتظر أن يُمتحَن في الناس جميعًا إلا في ابن عمه هذا وفي بنيه.
وكان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا، ومن المكانة في بني هاشم خاصة وفي قريش عامة وفي نفوس المسلمين جميعًا ما كان خليقًا أن يعصمه من الانحراف عن ابن عمه، مهما تعظُم الكوارث ومهما تدلهم الخطوب، ولكنه فيما يظهر عاد من صفين منكسر النفس بعد ما رأى من ظهور معاوية بالكيد والمكر وطاعة أهل الشام، ومِن تفرق أصحاب علي على إمامهم، وانحراف كثير منهم عنه إلى الحرب الخفية، وانحراف كثير منهم عنه إلى الحرب الظاهرة، ثم شهد أمر الحكمين فرأى تخاذل أهل العراق وتظاهر أهل الشام، وعاد وقد استيقن أن الدنيا قد أدبرت عن ابن عمه، وأن الأيام قد تنكرت له، وأن الأمور تريد أن تستقيم لمعاوية، ورأى أن ابن عمه على ذلك كله ماضٍ في طريقه المستقيمة لا يعوج ولا يلتوي، ولا يحب اعوجاجًا ولا التواء من أحد، وإنما يُجري سياسته سمحة هينة، ويسير سيرة عمر بالرفق بالمسلمين والعطف عليهم، ولكنه لا يشتد شدة عمر ولا يعنف بالناس، وإنما يحارب من حاربه في غير هوادة، ويسالم من سالمه في غير احتياط، لا يعاقب على الكيد ولا يأخذ بالظنة، ولا يبادي الناس بالشر حتى يبادوه.
وقد رأينا أن ابن عباس لم يقدم على علي حين أراد الشخوص إلى الشام، ولم يشهد معه النهروان، وإنما أقام بالبصرة وسرح الجند إلى علي كأنه قد ضاق بهذه الحرب التي لا تغني، فقعد عنها وانتظر عاقبتها، ثم لم يلبث أن رأى عاقبتها شرًّا وفرقة وتخاذلًا، فقد أوقع علي بالخوارج فلم يزد علي أن قتل جماعة من أصحابه، ثم لم يمضِ إلى الشام بعد ذلك وإنما عاد إلى الكوفة، ثم لم يستطع أن يخرج منها بعد أن عاد إليها. رأى ابن عباس نجم ابن عمه في أفول ونجم معاوية في صعود، فأقام في البصرة يفكر في نفسه أكثر مما يفكر في ابن عمه وفي هذه الخطوب التي كانت تزدحم عليه، وكأنه آثر نفسه بشيء من الخير وسار في بيت المال سيرةً تخالف المألوف من أمر علي ومن أمره هو، حين كانت الأيام مقبلة على ابن عمه وعليه، وكأنه آنس من صاحب بيت المال في البصرة، وهو أبو الأسود الدؤلي شيئًا من النكير، فأغلظ له في القول ذات يوم.
وضاق أبو الأسود بما رأى وما سمع، فكتب إلى علي: «أما بعد، فإن الله جعلك واليًا مؤتمنًا وراعيًا مسئولًا، وقد بلوناك فوجدناك عظيم الأمانة ناصحًا للرعية توفر لهم فيئهم، وتظلف نفسك عن دنياهم، فلا تأكل أموالهم ولا ترتشي في أحكامهم، وإن عاملك وابن عمك قد أكل ما تحت يده بغير علمك، ولا يسعني كتمانك ذلك، فانظر — رحمك الله — فيما قِبَلنا من أمرك، واكتب إلي برأيك إن شاء الله، والسلام.»
وليس من شك أن هذا الكتاب قد روَّع عليًّا وأضاف همًّا عظيمًا إلى همومه العظام، وحزنًا ثقيلًا إلى أحزانه اللاذعة الممضة، ولكنه صبر نفسه على ما تكره كما تعود أن يفعل دائمًا، وكتب إلى أبي الأسود: «أما بعد، فقد فهمت كتابك، ومثلك نصح للإمام والأمة، ووالى على الحق وفارق الجور، وقد كتبت إلى صاحبك فيما كتبت إلي فيه من أمره ولم أعلمه بكتابك إلي فيه، فلا تدع إعلامي ما يكون بحضرتك مما النظر فيه للأمة صلاح؛ فإنك بذلك محقوق، وهو عليك واجب، والسلام.»
وكتب في الوقت نفسه إلى ابن عباس: «أما بعد، فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك وأخربت أمانتك وعصيت إمامك وخُنْتَ المسلمين، بلغني أنك جردت الأرض وأكلت ما تحت يديك، فارفع إلي حسابك واعلم أن حساب الله أشد من حساب الناس.»
وليس غريبًا من علي أن يشجع أبا الأسود على أن ينبئه بحقائق ما يكون بحضرته، وأن يرضى منه ما فعل حين كتب إليه من أمر ابن عمه بما كتب، فقد كان علي في أمر المال والعمال متحرجًا أشد التحرج، أمره في ذلك كأمر عمر، وكان أحرص الناس على ألا يخفى عليه شيء من أمر عماله، كما سترى في غير هذا الموضع.
وليس غريبًا كذلك أن يكتب إلى ابن عباس بما كتب، فهو لم يتعوَّد الرفق في أمر المال ولا الإدهان في أمر من أمور المسلمين، ولكن الغريب هو أن يتلقى ابن عباس هذا الكتاب فلا يزيد على أن يكتب إلى علي: «أما بعد، فإن الذي بلغك باطل، وأنا لما تحت يدي أضبط وأحفظ، فلا تصدق علي الأظنَّاء، رحمك الله، والسلام.»
كتاب لا يبرئ صاحبه ولا يرضي قارئه، وإنما يدل على غلو في الثقة بالنفس واستخفاف بغيره من الناس، وابن عباس بعد ذلك قد صحب عمر وعرف سيرته وتشدده في حساب العمال، وهو قد صحب ابن عمه وعرف أنه لا يرق في أمر المال ولا يلين، ومن أجل ذلك لم يقنع علي بهذا الكتاب الذي لا يغني عنه ولا عن صاحبه شيئًا، فكتب إلى ابن عباس يتشدد في مطالبته برفع حسابه إليه مفصلًا ما يريد من ذلك: أما بعد، فإنه لا يسعني تركك حتى تعلمني ما أخذت من الجزية، ومن أين أخذته، وفيما وضعت ما أنفقت منه؟ فاتقِ الله فيما ائتمنتك عليه واسترعيتك حفظه؛ فإن المتاع بما أنت رازئ منه قليل، وتبعة ذلك شديدة، والسلام.
والغريب أن ابن عباس تلقى هذا الكتاب فلم يكد يقرؤه حتى خرج عن طوره، فلم يصنع صنيع العامل الذي يرفع إلى أمير المؤمنين حساب ما كُلِّف حفظه وضبطه من أموال المسلمين، ولم يصنع صنيع ابن العم الذي يرعى لابن عمه حق القرابة وإخاء الصديق، ولم يصنع صنيع الراعي الذي يعرف للإمام حقه في أن يستقصي أمر ما اؤتمن عليه من أموال الأمة ومصالحها، فيعينه على ما يريد من ذلك، ويذكره به إن نسيه، ويعظه فيه إن قصر في ذاته. لم يصنع صنيع أحد من هؤلاء، وإنما جعل نفسه ندًّا لإمامه وكفئًا لخليفته، ورأى أنه أكبر من أن يسأله إمامه عن شيء أو يحاسبه في شيء، فضلًا عن أن يتهمه أو يتظنن فيه، وابن عباس كان أعلم الناس بأن سنة الشيخين قد جرت على أن يكون لكل مسلم الحق في أن يحاسب الإمام ويسأله عما يأتي وما يدع. وجرت كذلك على أن من حق الإمام، بل من الحق عليه أن يحاسب الولاة والعمال عن كل ما يأتون ويدعون، وأن يشتد في ذلك ليعصم عماله وولاته من التقصير، وليجعلهم بمأمن من أن يسوء بهم ظن الرعية ويفسد فيهم رأي الضعفاء الذين لا يستطيعون أن يتقوا ظلمهم أو يأمنوا غوائلهم إذا خُلِّيَ بينهم وبين السلطان يصرِّفونه كما يحبون.
وكان ابن عباس يعلم حق العلم أن سنة عمر جرت على أن يسمع من الرعية كل ما يعيبون على ولاتهم وعمالهم بمشهد من هؤلاء الولاة والعمال أو بغيب منهم، وكان يحقق كل ما يُرفَع إليه من ذلك تحريًا للعدل وإبراءً لذمته أمام الله والناس، وكان يعلم أن عمر كثيرًا ما قاسم الولاة أموالهم بعد اعتزالهم عمله، وأنه كان يحصي عليهم أموالهم حين يوليهم ويحصيها عليهم بعد أن يعزلهم، وكانوا يقبلون منه ذلك في غير إنكار له أو ضيق به أو إكبار لأنفسهم عنه، وكان فيهم نفر من خيرة أصحاب النبي، ثم كان ابن عباس يعلم أن كثيرًا من المسلمين — وعسى أن يكون منهم — قد أنكروا على عثمان إسرافه في الأموال العامة، وأنكروا على ولاته وعماله ما أظهروا من الأثرة وما تورطوا فيه من العبث بهذه الأموال العامة، وأن عثمان قُتِل في سبيل هذا كله، وأن ابن عمه إنما قام ليحي سنة النبي والشيخين، فهو لم يتجاوز حدَّه ولم يعدُ قدره حين طلب إلى أحد عماله — وإن كان ابن عباس — أن يقدم إليه حساب ما عنده من الأموال العامة.
وكان ابن عباس بعد هذا كله أعرف الناس بابن عمه وأقدرهم على أن يخاطبه الخطاب الذي يبلغ من نفسه الرضى، دون أن يسوءه أو يُحفِظه أو يشق عليه، كان يستطيع أن يكتب إليه في رفق ليبين له أنه لم يأخذ من الجزية لنفسه شيئًا، ولم يضع منها شيئًا في غير حقه، وكان يستطيع أن يُلم به في الكوفة ويظهره على الجلي من أمره، ولكنه أعرض عن هذا كله وأنف أن يسير معه علي سيرته مع غيره من العمال، فاعتزل عمله، ولكنه مع ذلك لم يستعفِ إمامه، ولم ينتظر أن يعفيه، وإنما أعفى نفسه وترك المصر، ثم لم يتركه ليعود إلى الكوفة أو ليقيم في العراق، أو في حيث يستطيع الإمام أن يأخذه بتقديم الحساب ويسأله عن عمله قبل أن يعتزله، وإنما ترك المصر ولحق بمكة حيث لا يبلغه سلطان الإمام، وحيث لا يقدر الإمام على أن يناله بالعقاب، إن تبين استحقاقه للعقاب، وإنما أقام بالحرم آمنًا بأس إمامه علي وبأس خصمه معاوية.
ثم لم يكتفِ بهذا الخطأ كله وإنما صرح لابن عمه عما يؤذي نفسه ويترك في قلبه وضميره حزنًا لاذعًا وألمًا ممضًّا، فأعلن إليه أنه يؤثر أن يلقى الله وفي ذمته شيء من أموال المسلمين، على أن يلقى الله وفي ذمته تلك الدماء التي سُفِكت يوم الجمل، والتي سُفِكت في صفين، والتي سُفِكت في النهروان، ثم يضيف إلى ذلك ما هو أمض منه وأشد إيذاء، فيزعم لابن عمه أنه سفك ما سفك من دماء المسلمين في سبيل الملك؛ فهو إذن لم يكن يعتقد أن عليًّا إنما قاتل في سبيل الحق، وقاتل قومًا كان يجب عليه أن يقاتلهم.
كتب هذا كله إلى ابن عمه ولم ينسَ إلا شيئًا يسيرًا جدًّا خطيرًا جدًّا، وهو أنه شارك ابن عمه في سفك هذه الدماء، فشهد الجمل، وشهد صفين، وقاد جيوش ابن عمه في هاتين الموقعتين، فهو إذن لن يلقى الله بما قد يكون في ذمته من أموال المسلمين فحسب، ولكنه سيلقاه بما في ذمته من هذه الدماء التي شارك في سفكها، مع الفرق بينه وبين علي؛ لأن عليًّا سفكها وهو مؤمن بأنه يقاتل في سبيل الحق، وهو سفكها وهو يعتقد أنه يقاتل في سبيل الْمُلك.
ولذلك قرأ علي كتاب ابن عمه، فلم يزد على أن قال هذه الجملة التي تُصوِّر الحزن اللاذع واليأس الممض من الصديق والعدو: «وابن عباس لم يشاركنا في سفك هذه الدماء!»
واقرأ كتاب ابن عباس إلى ابن عمه وإمامه لترى مقدار ما فيه من الغلظة والقسوة، وجحود ما مضى من إخائه لعلي قبل الخلافة ونصحه له بعد الخلافة: «أما بعد، فقد فهمت تعظيمك علي مرْزِئة ما بلغك أني رزأته أهل هذه البلاد، ووالله لأن ألقى الله بما في بطن هذه الأرض من عقيانها ولجينها وبِطِلاع ما على ظهرها أحبُّ إلي من أن ألقاه وقد سفكت دماء الأمة لأنال بذلك الملك والإمارة، فابعث إلى عملك من أحببت.»
وإلى هنا جرت الأمور على نحو من المغاضبة بين الخليفة وبين عامله، ثم بين رجل وابن عمه، على نحو من العنف كان خليقًا أن يُجتنَب لو ذكر ابن عباس سيرة الشيخين وسيرة علي، ولو نسي ابن عباس نفسه قليلًا، ولكنه لم ينسَ نفسه قليلًا ولا كثيرًا، ولم يضعها بحيث كان يجب عليه أن يضعها منذ قَبِل أن يكون واليًا لعلي على مصر من أمصار المسلمين، وبعد أن بايع عليًّا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله والعدل بين الرعية.
وأبو الأسود الدؤلي أحد الرعية، فمن حقه أن يخاصم الوالي عند الإمام؛ ثم هو أمين الإمام على بيت مال البصرة، فمن الحق عليه أن يرفع إليه كل ما يريبه من تصرفات الوالي فيما اؤتمن عليه من المال، ولكن ابن عباس لم يكتفِ بما بلغ من هذه المغاضبة، ولا بما انتهى إليه من هذا التصرف الغريب، بل أضاف إليه شرًّا عظيمًا، لم يَسُؤ به الإمامَ وحده وإنما ساء به الرعية كلها وعامة أهل البصرة خاصة، فهو قد أجمع الخروج إلى مكة، ولكنه لم يخرج منها فارغ اليدين من المال كما دخلها حين وُلِّي عليها، وإنما خرج منها وقد ملأ يديه بما كان في بيت المال مما يُنقَل، وهو يعلم أن ليس له في هذا المال حق إلا مثل ما لأهل البصرة جميعًا فيه.
وقد علم أن أهل البصرة لن يُخلُّوا بينه وبين هذا المال الذي يريد أن يستأثر به من دونهم، والذي يُقدِّره المؤرخون بستة ملايين من الدراهم، فدعا إليه من كان في البصرة من أخواله بني هلال وطلب إليهم أن يجيروه حتى يبلغ مأمنه، ففعلوا.
وخرج ابن عباس ومعه مال المسلمين يحميه أخواله من بني هلال، وثار أهل البصرة يريدون أن يستنقذوا منه ما أخذ، وكادت الفتنة تقع بين بني هلال الغاضبين لابن أختهم، الذين ذكروا عصبية العرب القديمة وأزمعوا أن ينصروا جارهم ظالمًا أو مظلومًا، وبين سائر العرب من أهل مصر الذين غضبوا لمالهم وأبوا أن يُغتصَب وهم شهود، لولا أن تناهى حلماء الأزد وآثروا جيرانهم في الدار من بني هلال، وتبعتهم في ذلك حلماء ربيعة، وتبعهم الأحنف بن قيس ومن معه من بني تميم، ولكن سائر تميم أزمعوا أن يقاتلوا على هذا المال حتى يستردوه. وبدأت المناوشة بينهم وبين بني هلال، وكادت الدماء تُسفَك بين الفريقين، لولا أن رجع إليهم حلماء أهل البصرة، فما زالوا ببني تميم حتى ردوهم إلى المصر.
أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي، ولم يكن في أهل بيتي رجل أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس قد خربت، وهذه الأمة قد فُتِنت، قلبت له ظهر المجن، ففارقته مع القوم المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أديت، كأنك لم تكن لله تريد بجهادك، أو كأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد عن دنياهم أو تطلب غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الغرة أسرعت العدوة، وغلظت الوثبة، وانتهزت الفرصة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم اختطاف الذئب الأزَلِّ دامية المعزى الهزيلة وظالعَها الكبير، فحملت أموالهم إلى الحجاز رحيب الصدر، تحملها غير متأثم من أخذها، كأنك — لا أبا لغيرك — إنما حُزتَ لأهلك تراثك عن أبيك وأمك، سبحان الله! أفما تؤمن بالمعاد ولا تخاف سوء الحساب؟ أما تعلم أنك تأكل حرامًا وتشرب حرامًا؟! أو ما يعظم عليك وعندك أنك تستثمن الإماء وتنكح النساء بأموال اليتامى والأرامل والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم البلاد؟! فاتقِ الله، وأدِّ أموال القوم، فإنك والله إلا تفعل ذلك ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك حتى آخذ الحق وأرده، وأقمع الظالم وأنصف المظلوم، والسلام.
ولست أعرف كلامًا أبلغ في تصوير الحزن اللاذع، والأسى الممِض، والغضب لحق الله وأموال المسلمين في مرارة اليأس من الناس، والشك في وفائهم للصديق، وحفظهم للعهد، وأدائهم للأمانة، وقدرتهم على التزام الجادة ومعصية الهوى من هذا الكلام.
ولكن انظر كيف رد ابن عباس على هذا الكتاب المر بهذه الكلمات، التي إن صورت شيئًا فإنما تصور الإمعان في الثقة بالنفس والاستخفاف برأي غيره فيه: «أما بعد، فقد بلغني كتابك تعظم علي إصابة المال الذي أصبته من مال البصرة، ولعمري إن حقي في بيت المال لأعظم مما أخذت منه، والسلام.»
ولست في حاجة إلى أن أطيل الوقوف عند هذا الكتاب الغريب الذي لا يثبت حقًّا ولا يبرئ من تبعة، وإنما أختم هذه المناقشة المؤلمة بين الرجلين برد علي على ابن عمه في هذا الكتاب الرائع: «أما بعد، فإن من أعجب العجب تزيين نفسك لك أن لك في بيت مال المسلمين من الحق أكثر مما لرجل من المسلمين، ولقد أفلحت إن كان ادعاؤك ما لا يكون وتمنيك الباطل ينجيك من الإثم، عمرك الله! إنك لأنت البعيد البعيد إذن، وقد بلغني أنك اتخذت مكة وطنًا وصيرتها عطنًا، واشتريت مولدات المدينة والطائف تتخيرهن على عينك وتعطي فيهن مال غيرك، والله ما أحب أن يكون الذي أخذت من أموالهم لي حلالًا أدعه ميراثًا، فكيف لا أتعجب اغتباطك بأكله حرامًا؟! فضح رويدًا، مكانك قد بلغت المدى، حيث يُنادي المغتر بالحسرة، ويتمنى المفرط التوبة، والظالم الرجعة، ولات حين مناص، والسلام.»
وبعض الرواة يزعمون أن عمر هم أن يولي ابن عباس بعض أعماله، ولكنه خاف منه وخاف عليه، خاف منه أن يتأول في أكل الفيء، وخاف عليه أن يورطه ذلك في الإثم.
ويزعم هؤلاء الرواة أن ابن عباس حين ولاه علي البصرة تأول فيما أباح لنفسه قول الله عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ومكان ابن عباس من النبي قريب، فله الحق في بعض هذا الخُمس الذي قسمه الله للرسول وأولي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
ولكن ابن عباس عندي أصح رأيًا وأعقل عقلًا وأعلم بدينه من هذا التأول، فهو كان يعلم من غير شك أن حقه في هذا الخُمس لن يعدو أن يكون كحق غيره من أولي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وكان يعلم أنه لا ينبغي له بل لا يحل له أن يأخذ حقه من هذا الخمس بنفسه، وإنما ينبغي أن يتلقاه من الإمام الذي نُصِّب ليقسم بين المسلمين فيئهم، وينفق منه في مرافقهم، وهو الذي يقسم بين أولي القربى واليتامى والمساكين حقهم من هذا الخمس.
ولو أن غير ابن عباس من المسلمين عرف أن له حقًّا في بيت المال فأخذه بنفسه، دون أن يعدوه أو يزيد فيه، لكان بذلك معتديًا على السلطان متجاوزًا للحد، ولكان من الحق على الإمام أن ينزل به ما يستحق من العقاب.
وكان ابن عباس يعلم بعد هذا كله أن ابن عمه الخليفة هو بحكم قرابته وخلافته أجدر الناس أن يخلف رسول الله في توزيع هذا الخمس على مستحقيه.
والغريب أن كثيرًا من المحدثين أهملوا هذه القصة ولم يشيروا إليها تحرجًا من ذكرها، فمكان ابن عباس من النبي ومكانه من الفقه بالدين أعظم من أن يُظَن به مثل هذا التجاوز للحق والخلاف على الإمام.
على أن رواة آخرين يسرفون في هذه القصة نفسها بعض الإسراف، فيزعمون أن ابن عباس رد على الكتاب الأخير لعلي قائلًا: «لئن لم تدعني من أساطيرك لأحملن هذا المال إلى معاوية يقاتلك به.» وما أحسب أن الأمر قد بلغ بابن عباس هذا الحد من التأليب الصريح على ابن عمه، على أن لهذه القصة نتائجها القريبة المباشرة، التي كانت محنة لعلي في أصحابه وفي سلطانه أيضًا.