الفصل الثاني والثلاثون
وقد ظهرت هذه النتائج كأظهر ما كان يمكن أن تكون بشاعةً وشناعةً ونكرًا، لم تمتحن عليًّا في أسرته وأصحابه وسلطانه، وإنما امتحنت النظام السياسي الذي كان علي يظن أنه نهض لصيانته وحياطته، وهو نظام الخلافة. وامتحنت الإسلام نفسه في أخص ما كان يحرص عليه النبي والخلفاء، وهو محو العصبية التي ألِفها العرب في عصرهم الجاهلي القديم، فقد رأى معاوية وانتثار أمر علي في العراق وتفرق أصحابه وعجزهم ووهنهم وامتناعهم عليه، فلم يكد يفرغ من أمر مصر حتى طمع في إقليم آخر ليس أقل من مصر خطرًا، وهو إقليم البصرة وما يتبعها من بلاد الفرس، وقد ذكر معاوية أن العثمانية فاشية في البصرة، وأن أهلها قد ثاروا مع عائشة وصاحبيها للطلب بدم عثمان، وأنهم لم ينسوا وقعة الجمل بعد، وأن لهم أوتارًا لم تُشفَ كلومها بعد، ورأى أن ابن عباس قد ترك البصرة مغاضبًا لابن عمه، فطمع في أن يستفز أهلها ويذكرهم أوتارهم ويثيرهم للطلب بها.
واستشار في ذلك عمرو بن العاص فصوب رأيه وحرضه على إمضائه، فاختار رجلًا صليبًا له رحم بعثمان، وهو عبد الله بن عامر الحضرمي، ابن خالة الخليفة المقتول، فأرسله إلى البصرة وأوصاه أن يأتي بني تميم ويتحبب إلى الأزد ويتجنب ربيعة؛ لأنها علوية الهوى. ولم يكد عبد الله بن عامر الحضرمي يصل إلى البصرة حتى استهوى بني تميم، إلا الأحنف بن قيس فإنه عاد إلى العزلة التي التزمها يوم الجمل مع جماعة من أصحابه.
وكان ابن عباس قد ترك البصرة لزياد، فهمَّ زياد أن يستجير ربيعة، ولكنه رأى من بعض أشرافها ترددًا واعتلالًا، فاستجار الأزد، وأجاره هؤلاء على أن يترك دار الإمارة ويتحول إلى رحالهم وينقل معه منبره وبيت المال، ففعل، وأصبحت البصرة وقد انقسم أهلها طوائف، طائفة مالت إلى معاوية وقامت دون رسوله ابن الحضرمي، وطائفة اعتزلت الفتنة مع الأحنف بن قيس، وطائفة جعلت تنتظر الأحداث وتترقب الخطوب على شيء من الفرقة في صفوفها، وهي ربيعة، وطائفة أخرى لم تحفل بأمر علي ولا بأمر عثمان ومعاوية وإنما حفلت بأمر أحسابها، وقامت دون جارها تحميه بعد أن لجأ إلى دورها، وعسى أن تكون قد وجدت على ابن الحضرمي؛ لأنه نزل في بني تميم واعتمد عليهم، ولم ينزل عندها، وهي الأزد.
وكذلك ظهرت العصبية واضحة بشعة، وجعل جند البصرة يرعون قبائلهم أكثر مما يرعون السلطان، ويحفلون بأحسابهم أكثر مما يحفلون بالإمام، ويغضبون لهذه الأحساب أكثر مما يغضبون للدين، ويتنافسون فيما بينهم أيهم يكون أحسن من صاحبه بلاء في حماية جاره.
وكتب زياد إلى علي ينبئه بما وقع، فلم يَمِل علي إلى الحرب، وإنما أرسل إلى تميم رجلًا منهم، هو أعْين بن ضبيعة، ليرد عليهم بعض أحلامهم، فلم يكد أعين يناظر قومه حتى اختلفوا عليه وتفرقوا عنه، ثم بيتوه ذات ليلة فقتلوه، وأراد زياد أن يثأر له، وأن يناوش القوم، ولكن الأزد امتنعت عليه لأنها لم تحالفه على أن تكون حربًا على من حارب وسلمًا لمن سالم، وإنما حالفته على أن تحميه وتحمي بيت المال.
وقد كتب زياد إلى علي ينبئه بما صار إليه أمر أعين بن ضبيعة، فدعا إليه تميميًّا آخر، هو جارية بن قدامة، فأرسله إلى قومه، ولكنه لم يرسله وحده هذه المرة وإنما أرسل معه بعض الجند، وقد وصل جارية بن قدامة إلى البصرة، فقال لزياد وسمع منه، وناظر قومه من بني تميم، فاستجاب له بعضهم وامتنع عليه بعضهم الآخر، فنهض بمن جاء معه من الكوفة ومن انضم إليه من أهل البصرة لقتال ابن الحضرمي، وما زال به وبأصحابه حتى اضطرهم إلى الهزيمة، وألجأ ابن الحضرمي وسبعين من أصحابه إلى دار من دور البصرة. وبعض المؤرخين يقول: إلى حصن قديم من حصون البصرة، فأنذرهم جارية وأعذر إليهم، ولكنهم أبوا وتهيئوا للحصار، وهنالك أَمَر جاريةُ بن قدامة بالحطب فجُمع، وأُحيطت به الدار وأُضرمت فيه النار، فاحترقت الدار بمن فيها، لم ينجُ منهم أحد. وتغنت العصبية الأزدية بهذا الفوز بعد أن عاد زياد وبيت المال إلى دار الإمارة، وبعد أن عاد المنبر إلى مكانه من المسجد الجامع، فقال قائل الأزد عمرو بن العرندس العودي يفخر بأحساب قومه، كما كان الشعراء يفعلون في الجاهلية:
فانظر إلى هذا الشاعر لم يذكر عليًّا ولا عثمان، ولا أشار إلى رأي أو دين، ولا حفل بطاعة للإمام أو استجابة للسلطان، وإنما ذكر زيادًا الذي استجار قومه فأجاروه وأحسنوا جواره، وعير تميمًا ما كان من تركهم جارهم حتى أكلته النار وذهب دخانًا، غدروا به وخفروا ذمته بعد أن بذلوا له الجوار والأمن، كما غدروا بالزبير من قبل فقتلوه وابتزوا سلبه.
وقال جرير بعد ذلك بزمن غير قصير يمدح الأزد ويهجو مجاشعًا رهط الفرزدق:
ولو قد أقام عبد الله بن عباس على عهد ابن عمه لهابه معاوية، ولما طمع في ملك ضيعه أصحابه وتركوه نهبًا لمن شاء أن ينهبه، بل لو أقام ابن عباس على عهد ابن عمه لحال بين العصبية وبين هذا الظهور الفجائي البشع، ولجنب إمامه هذه المحنة القاسية التي تضاف إلى محن قاسية أخرى فلا تزيدها إلا نكرًا.
وبعض المؤرخين يزعم أن هذه الأحداث حدثت حين كان ابن عباس قد ذهب إلى الكوفة مواسيًا لعلي بعد مقتل محمد بن أبي بكر، واحتياز عمرو بن العاص لمصر.
وهذا كلام لا يستقيم، فلو قد كان ابن عباس عند علي لعاد إلى البصرة مسرعًا حين بلغته هذه الأنباء، ولما أقام عند علي ينتظر أن يغني عنه زيادٌ وأعْين بن ضبيعة وجارية بن قدامة.
والواقع أن ابن عباس قد ضعف عن أمر ابن عمه بعد قضية الحكمين، فهو لم ينهض معه إلى الشام حين هم بالنهوض إليها، ولم يشهد معه النهروان، وإنما أرسل إليه جندًا من أهل البصرة، ثم لم يزد على ذلك، وإنما أقام حتى كان من أمره ما كان.