الفصل الخامس والثلاثون
ثم لم تكن هذه الغارات وحدها هي التي أقلقت عليًّا وأقَضَّت مضاجع أهل العراق، وإنما كانت هناك حروب داخلية يسيرة، ولكنها على ذلك مزعجة، وكان الخوارج بالطبع هم الذين يثيرون هذه الحروب، فقد قتلهم علي في النهروان، ولكنه لم يأتِ عليهم جميعًا ولم يستأصل مذهبهم، ومتى استطاعت القوة القوية، والبأس البئيس والإرهاب الرهيب قضاءً على رأي أو استئصالًا لمذهب، وعسى أن يكون هذا كله مقويًا للرأي ومعينًا على نشره وداعيًا ملحًّا إلى نصره.
وقد ترك علي في نفوس من بقي من الخوارج وفي نفوس أحيائهم وذوي عصبتهم أوتارًا لم يكن بد من الطلب بها، وقد طلبوا بها جادِّين في ذلك غير وانين ولا مقصِّرين، فخرجوا أرسالًا، يخرج الرجل ومعه المائة أو المائتان فيمضون أمامهم حتى ينتهوا إلى مكان يؤثرونه، فيقيمون فيه وقتًا يقصر أو يطول، يهيئون أنفسهم أثناء ذلك للقتال، فإذا تمَّ لهم من ذلك ما يريدون نصبوا للحرب، وأخافوا الناس من حولهم، وعرَّضوا الأمن العام للخطر الشديد، فيضطر علي إلى أن يرسل إليهم رجلًا من أصحابه ويجرد معه طائفة من الجند، فيمضي هذا الرجل حتى يلقى القوم فيقاتلهم أشد القتال، حتى إذا قتلهم أو فضَّ جمعهم عاد إلى علي، ولم يكن يعود حتى يخرج رجل آخر، ومعه قوم آخرون من الخوارج، وتتجدد القصة ثم لا تنقضي إلا لتتجدد.
وكذلك خرج أشرس بن عوف الشيباني، فلما قُتِل وقُتِل معه أصحابه خرج هلال بن علفة التيمي، من تيم الرباب، فلم يكد عليٌّ يفرغ من أمره حتى خرج الأشهب بن بشر البجلي، فلما قُتِل خرج سعيد بن قفل التيمي، من تيم الله بن ثعلبة بن عكابة، فلم يكد يعود الذين حاربوه وقاتلوه من أصحاب علي حتى خرج أبو مريم السعدي، من سعد مناة بن تميم، وقد امتاز هذا الرجل بأنه لم يخرج في أصحابه من العرب وحدهم وإنما تبعه كثير من الموالي.
ومعنى ذلك أن مذهب الخوارج قد تجاوز العرب إلى غيرهم من المغلوبين الذين كانوا إلى الآن يستظلون بظل الفاتحين، يُسلم منهم من يُسلم فيظل جديدًا في إسلامه يؤدِّي ما يجب عليه من حق، لا يكاد يتجاوز ذلك إلى ما يكون بين العرب من خلاف.
ولكنا نراهم الآن قد أخذوا ينكرون التحكيم ويخرجون على الإمام، وجعل العرب من الخوارج لا يكرهون الاستعانة بهم على حرب نُظرائهم، أصبحت العصبية العربية عندهم أقل خطرًا وأهون شأنًا من الرأي والمذهب، وقد عيَّر أصحاب علي أبا مريم — حين لقوه في كثرته من الموالي — قتالَه للعرب مع هذه الطبقة غير ذات الشأن من الناس، فلم يحفل بما قالوا له، وإنما شد عليهم مع هؤلاء الناس غير أولي الشأن شدةً منكرة كشفتهم عن أماكنهم، واضطرتهم إلى أن يرجعوا منهزمين إلى الكوفة، إلا قائدهم، فإنه أقام في نفر يسير ينتظر المدد.
وقد خرج علي نفسه لقتال أبي مريم الذي كان قد دنا من الكوفة، فلما قتله وقتل أصحابه رجع محزون النفس مكلوم القلب تساوره الهموم، وما باله لا يجد هذا كله وهو يقضي حياته بين أمرين ليس أحدهما أقل نكرًا من الآخر: حرب داخلية قد أصبحت نظامًا مستقرًّا فهو لا يفرغ منها إلا ليعود إليها، وغارات تُصَبُّ على أطرافه من أهل الشام قد أصبحت هي الأخرى نظامًا مستقرًّا؟! فهو لا يسد ثغرة إلا فُتِحت له ثغرة أخرى، وأصحابه على رغم ذلك مُمعنون في العجز مغرقون فيما أحبوا من العافية، قد فُلَّ حدهم، وكُسِرت شوكتهم، وطمع فيهم العدو البعيد منهم، وأغرى بهم العدو المقيم بين أظهرهم، كأن حلفًا خفية قد انعقدت بين الخوارج وبين أهل الشام على غير علم من أولئك ولا من هؤلاء، وقوام هذه الحلف أن يُجرِّعوا عليًّا الغصص ويرهقوه من أمره عسرًا.
وقد أقام معاوية في الشام يرى ويسمع من أمر خصمه ما يزيده فيه طمعًا، وها هو ذا قد طمع أن يرسل مِن قبله مَن يقيم للناس الحج في الموسم، وما له لا يفعل وقد بايعه أهل الشام بالخلافة، ودانت له مصر واستقام له كثير من أهل البادية، وضعف خصمه عن النهوض لحربه، بل ضعف حتى عن الدفاع عن سلطانه في داخل حدوده نفسها؟!
وكذلك أرسل معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي أميرًا على الموسم يقيم للناس حجهم، وكان يزيد عثمانيًّا مخلص الحب لمعاوية، ولكنه كان يكره القتال في المكان الحرام والشهر الحرام، فلما استيقن أن معاوية لا يرسله للحرب وإنما يرسله لأمر ظاهره الدين ومِن ورائه السياسة مضى لمهمته، ولم يكد يدنو من مكة حتى خافه قثم بن العباس، عامل علي عليها، فاعتزل أمره، ودخل يزيد مكة فأمَّن الناس ووسَّط أبا سعيد الخدري في أن يختار الناسُ لهم رجلًا غير عامل عليٍّ، يقيم لهم الصلاة ليصلي المسلمون جميعًا غير مفترقين، فاختار الناس عثمان بن أبي طلحة العبدري، فأقام للناس صلاتهم، وانقضى الموسم في عافية، وعرف علي مسير يزيد بن شجرة إلى مكة، فندب الناس لرده عنها، فتثاقلوا، وانتهى علي آخر الأمر إلى أن أرسل معقل بن قيس في جند من أصحابه، فلم يبلغوا غايتهم، فقد كان يزيد أتم الحج وعاد إلى الشام، وإنما أدرك معقل وأصحابه مؤخرة أصحاب يزيد، فأَسَروا منهم نفرًا وعادوا بهم إلى الكوفة.