الفصل السادس والثلاثون
وقد انتهت كل هذه الأمور بعلي إلى عزيمة أتمها الله له، فيها كثير من اليأس وفيها كثير من المغامرة، ولكنها كادت أن تبلغه مأربه لولا أن الناس يدبرون وأمر الله غالب، والكلمة الأخيرة للقضاء المحتوم لا لما يدبرون، فقد خطب علي أصحابه داعيًا لهم أن يتجهزوا لقتال أهل الشام محرضًا لهم على ذلك أشد التحريض، كما تعوَّد أن يفعل، فسمعوا منه وانصرفوا عنه ولم يصنعوا شيئًا، كما تعودوا أن يفعلوا.
فلما استيأس منهم دعا إليه رؤساءهم وقادتهم وأولي الرأي فيهم، وتحدث إليهم حديثًا صريحًا لا لبس فيه، وجعل تبعاتهم أمامهم يرونها بأعينهم ويلمسونها بأيديهم، إن أمكن أن تُرَى التبعات بالعيون وتُلمَس بالأيدي. بيَّن لهم أنهم أرادوه على الخلافة دون أن يطلبها إليهم، وعرضوا عليه بيعتهم دون أن يعرض عليهم نفسه، ثم هم الآن يظهرون طاعة ويضمرون نكثًا، وقد طاولهم حتى سئم المطاولة، وانتظر نشاطهم لما يدعوهم إليه حتى مل الانتظار. وعظهم في غير طائل، وحرضهم في غير غناء، وقد أزمع أن يمضي لحرب خصمه في الشام مع من تبعه من أهله ومن قومه، فإن لم يتبعه منهم أحد مضى وحيدًا فقاتل حتى يُبلي في سبيل الله ويلقى الموت في ذات الحق.
ولست أرى بدًّا من أن أثبت هنا نص حديثه إليهم كما رواه البلاذري، ففيه الحجة البالغة على هؤلاء الذين أفسدوا عليه رأيه بالعصيان حتى ظنت قريش به الظنون، وقالت فيه الأقاويل، وحتى عُصِي الله وهم ينظرون لا يغضبون لحق ولا دين. قال: «أما بعد، أيها الناس، فإنكم دعوتموني إلى هذه البيعة فلم أردكم عنها، ثم بايعتموني على الإمارة ولم أسألكم إياها، فتوثب عليَّ متوثبون كفى الله مئونتهم، وصرعهم لخدودهم، وأتعس جدودهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وبقيت طائفة تُحدِث في الإسلام حدثًا، تعمل بالهوى وتحكم بغير الحق، ليست بأهل لما ادعت، وهم إذا قيل لهم تقدموا قدمًا تقدموا، وإذا أقبلوا لا يعرفون الحق كمعرفتهم الباطل، ولا يبطلون الباطل كإبطالهم الحق، أما إني قد سئمت من عتابكم وخطابكم، فبينوا لي ما أنتم فاعلون، فإن كنتم شاخصين معي إلى عدوي فهو ما أطلب وما أحب، وإن كنتم غير فاعلين فاكشفوا لي عن أمركم أرَ رأيي، فوالله لئن لم تخرجوا معي بأجمعكم إلى عدوكم فتقاتلوهم حتى يحكم الله بيننا وبينهم وهو خير الحاكمين؛ لأدعون الله عليكم ثم لأسيرن إلى عدوكم ولو لم يكن معي إلا عشرة، أأجلاف أهل الشام وأغراؤها أصبر على نصرة الضلال وأشد اجتماعًا على الباطل منكم على هداكم وحقكم؟! ما بالكم وما دواؤكم؟! إن القوم أمثالكم لا ينشرون إن قتلوا إلى يوم القيامة.»
وكأن الرؤساء والقادة قد استحَوْا من علي، واستخزوا في أنفسهم، وأشفقوا أن ينفذ ما صمم عليه فيمضي وحده أو في قلة من الناس لقتال أهل الشام، فيلحقهم بذلك عار أي عار، وتصيبهم المحنة في دينهم وفي نفوسهم وفي أمورهم كلها، فقام خطباؤهم إلى علي فأحسنوا له القول وأخلصوا له النصح، ثم تفرقوا عنه فتلاوموا، ومضوا لإنجاز ما وعدوا به عليًّا.
فجمع كل رئيس قومه فوعظهم وحرضهم، حتى اجتمع لعلي جيش صالح قد تعاقد الجند فيه على الموت، ثم أرسل علي معقل بن قيس يعبئ له أهل السواد ليضمهم إلى من اجتمع له في الكوفة، وأخذ يرسل إلى عماله فيما وراء العراق من شرق الدولة يدعوهم إلى النهوض إليه ليكونوا معه في حربه، وأرسل زياد بن خصفة في جماعة من أصحابه طليعةً بين يديه، وأمره أن يغير على أطراف الشام ليروع أهلها.
وإن عليًّا لفي هذا الاستعداد وقد تراءت له غايته، إذا القضاء يقول كلمته، فيَنقُض عليه وعلى أهل العراق كل تدبير.