الفصل السابع والثلاثون
ولم تستغرق أمور الحرب على كثرتها واختلاطها وقتَ عليٍّ كله ولا جهده كله أثناء إقامته في الكوفة، وإنما كان يقسم وقته بين شئون الحرب وشئون السياسة وشئون الدين، لا يصرفه عما يجب عليه في ذلك كله صارف، مهما يكن، ولا يشغله عنه هَمٌّ مهما يثقل، وقد رأيتَ من نشاطه في الحرب ما رأيت، فأما نشاطه في أمور الدين فلم يكن قليلًا ولا فاترًا، وإنما كان يرى من الحق عليه — شأنه في ذلك شأن غيره من الخلفاء الذين سبقوه — أن يقيم للناس صلاتهم وأن يعظهم ويفقههم في دينهم ويبصرهم بما يحب الله من المسلمين وما يحب لهم، وبما يكره الله من المسلمين وما يكره لهم، وكان يعظهم جالسًا على المنبر أو قائمًا، وكان يجلس لهم في المسجد فيسألهم عن أمورهم ويجيب من سأله منهم عما يهمه من أمر دينه أو أمر دنياه، ثم لم يكن يعظهم ويعلمهم بما كان يقول لهم حين يخطبهم أو يحاورهم فحسب، وإنما كان يعلمهم ويعظهم بسيرته فيهم، كان لهم إمامًا، وكان لهم معلمًا، وكان لهم قدوة وأسوة، وكان يسير فيهم سيرة عمر فيمن حضره من أهل المدينة، لا يلقاهم إلا وفي يده درته يخيفهم بها، كما كان عمر يخيف بدرته الناس عظيمهم وصغيرهم، وكان يخالطهم حين كانوا يضطربون في حياتهم، فكان يمشي في الأسواق ويأمر الناس بتقوى الله ويذكرهم الحساب والمعاد، ويرقبهم حين كانوا يبيعون ويشترون، وكان يمشي في الأسواق وهو يقول بأرفع صوته: اتقوا الله وأوفوا الكيل والميزان ولا تنفخوا في اللحم. وكان يؤدب بالزجر والدرة من رأى منه انحرافًا عما ينبغي له في بيع أو شراء أو حديث، وكأنه رأى أن درة عمر لا ترهب هذا الخلف الذي خلف من الناس، تطوروا وغلظت أخلاقهم وانحرفت طباعهم عما ألف المسلمون أيام عمر، فاتخذ الخيزرانة، رآها أوجع من الدرة، ثم استبان له أن الخيزرانة لا ترهبهم، فكان يقول لأشرافهم ولعامتهم: إني لأعرف ما يصلحكم، ولكن لا أصلحكم بفساد نفسي.
رأى أنهم في حاجة إلى أن يُؤخَذوا بأكثر من الدرة والخيزرانة والزجر، وكره أن يضربهم بالسياط، أشفق أن يدفع من القسوة والتجبر إلى ما لا يلائم خلقه ودينه، وما لا ينبغي للخليفة الراشد من الرفق والوداعة والحلم والإسماح، وخرج يومًا من داره فرأى جماعات ضخمة من العامة قد ازدحمت على بابه فجعل يفرقهم عن نفسه بالدرة حتى خلص منهم إلى بعض أصحابه، فسلم عليه ثم قال: إن هؤلاء ليس فيهم خير، لقد كنت أظن أن الأمراء يظلمون الناس فقد علمت أن الناس يظلمون الأمراء.
ثم لم يكن يكتفي بهذا كله، وإنما كان يحتاط لنفسه من مغريات الإمرة، وكان إذا أراد أن يشتري شيئًا بنفسه تحرى بين السوقة رجلًا لا يعرفه، فاشترى منه ما يريد، يكره أن يحابيه البائع إن عرف أنه أمير المؤمنين.
ثم كان لا يرضى عن نفسه إلا إذا أدى للناس حقهم عليه في دينه، فأقام لهم صلاتهم، وعلمهم بالقول والعمل، وقام على إطعام فقرائهم طعام العشاء، وتحرى ذوي الحاجة منهم فأغناهم عن المسألة، وإنما كان يخلو إلى نفسه إذا كان الليل فينصرف عن الناس إلى عبادته الخاصة مصليًا متهجدًا حتى يتقدم الليل، فإذا أخذ بحظه من النوم غلس بالخروج إلى المسجد، فجعل يقول — كأنه يريد أن يوقظ من أوى إلى المسجد من الناس فنام فيه: «الصلاة الصلاة يا عباد الله.»
وكذلك لم يكن ينسى الله لحظة من ليل أو من نهار، وإنما كان يذكره إذا خلا لنفسه أو دبر أمور الناس على اختلافها، وكثيرًا ما كان يحرض الناس على أن يسألوه في أمور دينهم.
وقد رأيت طرفًا من سيرته في أموال المسلمين، وعرفت أنه لم يكن ينفك يقسم فيهم كل ما يصل إليه من الولايات أو من السواد، قلَّ أو كثر، عظم أو حقر، وكان يعتذر إليهم إن قسم فيهم شيئًا قليلًا، فيقول: إن الشيء ليرد علينا فنراه كثيرًا فإذا قسمناه رأيناه يسيرًا.
وكان شديد الحرص على أن يحقق المساواة بين الناس في قوله وعمله وفي وجهه، وفي قسمته لما كان يقسم فيهم من المال، بل كان يحرص على هذه المساواة حين يعطي الناس إذا سألوه. جاءته امرأتان ذات يوم تسألانه وتبينان فقرهما، فعرف لهما حقهما وأمر من اشترى لهما ثيابًا وطعامًا وأعطاهما مالًا، ولكن إحداهما سألته أن يفضلها على صاحبتها؛ لأنها امرأة من العرب وصاحبتها من الموالي، فأخذ شيئًا من تراب فنظر فيه، ثم قال: ما أعلم أن الله فضل أحدًا من الناس على أحد إلا بالطاعة والتقوى.
كذلك كانت سيرة علي، وكذلك كانت سيرة النبي والشيخين، ولكن عليًّا خالف عن سيرة عمر كما رأيت في شيء واحد، وهو أمر المال.
خالف عن سيرة عمر، ولكنه وفى لرأيه الذي أشار به على عمر، فقد أشار عليه حين كثر المال أن يقسم كل ما يرد عليه بين الناس حتى لا يترك في بيت المال شيئًا، كان يؤثر ذلك لتبرأ ذمة الخليفة من أي حق قد يتعلق بالمال الذي يُدخَر أو يُستبقَى، ولكن النوائب تنوب والخطوب تُلِمُّ، وما ينبغي لبيت المال أن يُفاجَأ بالأحداث حين تحدث، فكان عمر أحزم في سياسته وأنظر للمصلحة العامة، وكان علي أشد احتياطًا لنفسه إن أمكن أن يحتاط إمام لنفسه أكثر مما احتاط لها عمر.