الفصل الأربعون
وبينما كان علي يجاهد حياته المُرَّة تلك، ويجاهد أصحابه ليحملهم على النهوض معه إلى حرب الشام، ويبعث البعوث لرد غارات معاوية على أطرافه في العراق والحجاز واليمن، ويجاهد الخوارج الذين يجاهرونه بالعداء وينشرون الروع في الناس، ويلين للخوارج الذين كانوا يعيشون معه في الكوفة يتربصون الفرص للخروج، ويجاهد عماله ليأخذهم بالأمانة في أعمالهم، بينما كان علي في هذا كله، كان ناسٌ من الخوارج يشهدون الموسم ويرون اختلاف الحجيج من أصحاب علي ومعاوية، كل يأبى أن يصلي بصلاة أمير خصمه، حتى اختار الناس رجلًا ليس بالأمير لهذا أو ذاك ليقيم للناس صلاتهم.
فضاق هؤلاء النفر من الخوارج بما رأوا، وذكروا مصارع إخوانهم الذين قُتِلوا في النهروان، وفيما كان بينهم وبين علي وأصحابه من المواقع الأخرى، وائتمروا أن يريحوا الأمة من هذا الاختلاف الذي تشقى به، وأن يقتلوا هؤلاء الثلاثة الذين هم أصل هذا الاختلاف: عليًّا ومعاوية وعمرو بن العاص، من جهة، وأن يثأروا لإخوانهم بقتل علي من جهة أخرى.
فانتدب أحدهم عبد الرحمن بن مُلجم الحميري، حليف مراد لقتل علي، وانتدب الحجاج بن عبد الله الصَّريمي، من تميم لقتل معاوية، وانتدب عمرو بن بكر أو ابن بكير التميمي صليبة أو بالولاء لقتل عمرو بن العاص، واتفقوا على يومٍ بعينه ينفذون فيه ما صمموا عليه، وأقَّتُوا ساعة لاغتيال هؤلاء الثلاثة، وهي ساعة الخروج لصلاة الصبح من اليوم السابع عشر من شهر رمضان لعامهم ذاك سنة أربعين.
وأقاموا في مكة أشهرًا ثم اعتمروا في رجب ثم تفرقوا، مضى كل واحد منهم لينفذ نصيبه من هذه الخطة.
فأما صاحب معاوية فعرض له في الساعة الموقوتة من اليوم الموقوت فلم يبلغ منه شيئًا لأنه كان دارعًا، فيما يقول بعض المؤرخين، أو لأنه لم يصب منه مقتلًا، فيما يقول بعضهم الآخر، ولكنه هو أصاب حتفه.
وأما صاحب عمرو فعرض له في الساعة الموقوتة كذلك ولكنه لم يصبه؛ لأن عمرًا لم يخرج للصلاة في ذلك اليوم، منعته العلة، فأناب صاحب شرطته خارجة بن حذافة العدوي وأصابه السيف فقتله، وقَتَل عمرو بعد ذلك هذا المغتالَ الذي أراد عمرًا فأراد الله خارجة.
وأما عبد الرحمن بن ملجم فأقام في الكوفة يرقب يوم الموعد وساعته، ثم أقبل من آخر الليل ومعه رفيق له استعانه على ما أراد، فانتظرا خروج علي للصلاة، فلما خرج تلقياه بسيفيهما وهو يدعو الناس لصلاتهم، فأصابه سيف ابن ملجم في جبهته حتى بلغ دماغه، ووقع سيف صاحبه في جدار البيت، وخر علي حين أصابته الضربة وهو يقول: لا يفوتنكم الرجل.
وقد أُخذ عبد الرحمن بن ملجم وقُتل صاحبه وهو يحاول الفرار، وحُمل علي إلى داخل داره، فأقام فيها يومين وليلة بينهما، ثم مات في ليلة اليوم الثاني.
ويروي المؤرخون أن قاتل علي لقيه بالسيف وهو يقول: الحكم لله يا علي لا لك. وعلي نفسه يقول: الصلاةَ عباد الله.
ويروي المؤرخون كذلك أن عليًّا أمر من حوله أن يحسنوا طعام ابن ملجم ويكرموا مثواه، فإن برئ من ضربته نظر، فإما عفا وإما اقتص، وأمرهم إن مات أن يلحقوه به ولا يعتدوا؛ إن الله لا يحب المعتدين.
ويروي المؤرخون كذلك أن آخر كلام سُمع من علي قبل أن يموت هو قول الله عز وجل: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ويزعم الرواة من أصحاب الجماعة أن عليًّا لم يستخلف على المسلمين أحدًا، وأنه سئل عن رأيه في بيعة الحسن ابنه بعده، فقال: لا آمركم ولا أنهاكم.
ويزعم الشيعة أنه أوصى بالخلافة للحسن نصًّا، وهذا خلاف يطول القول فيه وليس من شأننا أن نعرض له.
والشيء المحقق هو أن ولاة الدم لم ينفذوا وصية علي في أمر قاتله، فهو قد أمرهم أن يلحقوه به ولا يعتدوا، ولكنهم مثلوا به أشنع تمثيل، فلما مات حرقوه بالنار.
والرواة يختلفون بعد ذلك في قبر علي، يقولون: إنه دُفِن في الرحبة بالكوفة، وعُمي قبره حتى لا ينبشه الخوارج، وقوم يقولون: إن الحسين نقله بعد ذلك إلى المدينة فدفنه إلى جانب فاطمة زوجه، والغلاة من خصوم الشيعة يزعمون أنه نُقِل إلى الحجاز في تابوت وُضِع على بعير، ولكن ناقليه أضلوا بعيرهم ذاك، فأخذه جماعة من الأعراب ظنوا أن عليه مالًا في ذلك التابوت، فلما رأوا أن فيه جثة قتيل دفنوه في مكان مجهول من الصحراء.
والكلام في هذه الروايات المختلفة لا ينقضي وليس فيه طائل أو غناء.
وقد انتهى النبأ بموت علي إلى أهل المدينة، وبلغ عائشة فتمثلت قول الشاعر:
كأنها أرادت أن تقول: إن عليًّا قد أراح بموته واستراح، وليس من شك في أنه استراح بموته من شقاء كثير، ولكن الشك كل الشك في أنه أراح، بل اليقين كل اليقين هو أن موت علي رحمه الله لم يُرح أحدًا، وإنما أورث المسلمين عناء وخلافًا لم ينقضيا بعد، وما أرى أنهما سينقضيان قبل وقت يعلم الله وحده أيقصر أم يطول.