الفصل الحادي والأربعون
وإلى هنا ينقضي حديث التاريخ عن علي رحمه الله، ويبدأ حديث القصاص وأصحاب السير والأساطير، وقد ذهب هؤلاء جميعًا كل مذهب فيما أرادوا إليه من التعظيم والتفخيم ومن التهويل والتأويل، وخلطوا كل ذلك بالتاريخ خلطًا عجيبًا، حتى أصبح من أعسر العسر أن يَخلص المؤرخ إلى الحق الواضح في أيسر الأمور من كل ما يتصل بشأن من شئون علي، فهم لم يكتبوا حديث علي متجردين فيه من شهوات القلوب ونزوات النفوس، ولا متبرئين من الهوى الذي يفسد الرأي، ولا من عبث الخبال الذي يخفي حقائق التاريخ.
منهم من أحب عليًّا في غير قصد فأفسد الحب عليه أمره كله، وقال بما أوحى إليه خياله لا بما صح لعقله من الحوادث والأخبار، ومنهم من أبغض عليًّا وأسرف في بغضه فأفسد البغض عليه أمره، وصور فيما كتب أو رَوى ما أوحى إليه الحقد وأملى عليه الخيال المضطغن، لا ما ألقى إليه الثقات من حقائق التاريخ، منهم العراقي الذي لا يحب عليًّا وحده وإنما يتعصب لأهل العراق عامة، ويتوخى في كل ما يكتب ويروي أن يكون لأهل العراق الفضلُ المحقق على أهل الشام في كل قول وفي كل عمل وفي كل مشهد من المشاهد، ومنهم الشامي الذي لا يبغض عليًّا فحسب، ولكنه يتعصب لأهل الشام ويرى لهم الفضل كل الفضل والتفوق كل التفوق.
وقد أسرف أهل الشام حين انتهت الأحداث باستقامة الأمر لمعاوية وخلفائه من الأمويين، وإن كان إسراف أهل الشام لم يكد يَبقى لنا منه شيء بعد أن تغير مجرى التاريخ وانتقل السلطان إلى الهاشميين.
وأسرف أهل العراق بأخرة حين انتقل السلطان إلى بني العباس فلوَّنوا التاريخ بما يلائم أهواء السلطان الجديد.
فإذا أضفت إلى هذا كله أن أهل الشام وأهل العراق عرب لم يبرءوا قط من العصبية الجاهلية، لم تجد بدًّا من أن تقدر تأثير هذه العصبية في وصف ما كان للقبائل من بلاء في الحرب وموقف في السلم، كل قبيلة تريد أن تؤثر نفسها بأعظم حظ ممكن من الفضل والسابقة.
ثم إذا أضفت إلى هذا أيضًا أن أولئك وهؤلاء لم يستطيعوا في تلك العصور أن يفرقوا بين السياسة والدين، وإنما رأى أهل العراق أنهم يحبون عليًّا في الله، فحبه دين، وأنهم شاركوا في الثورة بعثمان في سبيل الله أيضًا، فأرضوا الله بثورتهم، وأرضوه بقتل ذلك الخليفة الذي لم يُجرِ أمور الخلافة في رأيهم كما كان ينبغي أن تجري.
وأهل الشام يبغضون عليًّا في الله لأنه — فيما زعم لهم قادتهم — قد شارك في قتل الخليفة المعصوم، فأحل ما حرم الله من هذا الدم الحرام في الشهر الحرام والبلد الحرام، وأبى — على أقل تقدير — أن يسلم قتلة عثمان إلى ولي دمه، فحمى العصاة المجرمين.
أقول: إذا أضفت هذا كله عرفت أن التاريخ لم يبرأ في أمر هذه الفتنة من أثر العواطف الجامحة التي تسدل دون الحق أستارًا أي أستار: عواطف العصبية للوطن والعصبية للقبيلة، وعواطف الدين، ثم عاطفة الطمع الذي يغري بالتقرب إلى الخلفاء والرغبة فيما عندهم، واتخاذ القصص والتكثر والكذب على التاريخ وسيلةً إلى رضى السلطان وطريقًا إلى أخذ ما عنده من المال.
والأمور تتعقد بعد هذا تعقدًا عجيبًا ولكن أمره ليس عسيرًا ولا مشكلًا، فقد امتُحن أهل العراق بعد موت علي رحمه الله أشد امتحان وأقساه، عارضوا خلفاء بني أمية، فأرسل إليهم هؤلاء الخلفاء من يقمع معارضتهم أعنف أنواع القمع وأغلظها، فكانوا إذن مضطهدين.
وليس شيء يدعو إلى التكثر والاختراع أكثر من الاضطهاد الذي يملأ القلوب روعًا وفرقًا، ويشيع في النفوس بعد ذلك من البغض والحقد والضغينة ما ينطق الألسنة ويجري الأقلام بالشكاة المرة والأحاديث التي ليس بينها وبين الحق صلة أو سبب.
وامتُحِن أهل الشام حين انتقل السلطان إلى العباسيين أشق امتحان وأمضَّه، فساروا سيرة أهل العراق من قبل، وكذلك نُسِجت كل هذه الأستار الكثاف التي أُلقِيت بيننا وبين حقائق التاريخ، فجعلت مهمة المؤرخ الصادق من أعسر المهمات عُسرًا وأقساها قسوة.
وما رأيك في قوم قعدوا عن نصر علي بعد صفين حتى بغَّضوا إليه الحياة وأرهقوه من أمره عسرًا؟! فلما فارقهم وفارقتهم بموته سماحة الخلافة ولين العيش، كلفوا بذلك الذي قعدوا على نصره أشد الكلف، وهاموا في حبه أعظم الهُيام، وقالوا في تعظيمه وإجلاله أعظم القول، وغلا بعضهم في ذلك بأخرة حتى رأوا في علي عنصرًا من الألوهية يرفعه فوق غيره من الناس!
وما رأيك في قوم آخرين يرون من أهل العراق هذا كله، ويرون منهم إسرافهم فيما يضيفون إلى علي من الخصال، وتجاوزهم القصد في كل ذلك؟! فلا يكتفون منهم بما يسمعون عنهم أو بما يرون من سيرتهم، وإنما يضيفون إليهم أكثر مما قالوا وأكثر مما فعلوا، ثم لا يكتفون بذلك وإنما يحملون هذا كله على علي نفسه وعلى معاصريه، فيتحدثون بأن قومًا من أهل الكوفة ألَّهوا عليًّا وأعلنوا إليه ذلك، ثم يزعم الصالحون المصلحون — الذين يحسنون الظن بعلي كما يحسنون الظن بغيره من أصحاب النبي — أن عليًّا ضاق بهذا التأليه وحرَّق القائلين به تحريقًا.
والغريب أن هذا التأليه استمر بعد موت علي وبعد تحريقه من حرق من مؤلِّهته، كأن هؤلاء الناس من شيعة علي قد ألهوه على رغمه وعلى علم منهم بأنه ينكر ذلك ويبغضه ويعاقب عليه بالتحريق.
ثم يغلو خصوم الشيعة فيزعمون أن الذين حرقهم علي بالنار قد ازدادوا تأليهًا له حين رأوا النار ورأوا أنهم يُدفَعون إليها ويُلقَون فيها، فقال قائلهم: لا جرم، لا يعذب بالنار إلا خالق النار!
وكل هذا خلط من الخلط ومراء من المراء، وتكثُّر دعا إليه الإغراق في اللجاج والغلو في الخصومة والإسراف في هذا البغض المعقد، والأمر بين علي وأصحابه أيسر من هذا كله يسرًا، وأهون من كل هذا التكلف والإغراق، فقد حمل علي أصحابه كما رأيت على ما حملهم عليه من تلك الحروب المبيرة غير المغنية، وأفسد معاوية عليه رؤساء أصحابه بالمال والكيد فقعدوا عن نصره وفشلوا عن حقه وحقهم، وتنبأ لهم علي بأن قعودهم هذا سيجر عليهم الشر كل الشر وسيورِّطهم في النكر الذي لا حد له، فلم يسمعوا له حين قال، ولم يستجيبوا له حين دعا، فلما قُتِل واستقامت أمور العراق لمعاوية وخلفائه من بني أمية صحَّت لأهل العراق نُذر علي كلها، وتحققت فيهم نبوءته لهم، فسامهم ولاة الأمويين الخسف كل الخسف، وحملوهم على أشد ما كانوا يكرهون، وامتحنوهم في أموالهم وأنفسهم وفي سرهم وعلانيتهم، وفي كل دينهم ودنياهم، فذكروا أيام علي وندموا على ما فرطوا في جنبه وما قصروا في ذاته، فدُفِعوا إلى ما دُفِعوا إليه من الغلو في حب علي والإسراف في الهُيام به، والافتنان في تكبيره وتعظيمه، يرون في ذلك كله عزاء عما قدموا إليه من الإساءة إليه أثناء حياته.
وقد رأيت أن حياة علي في العراق قد كانت محنة كلها، فإذا علمت أن عليًّا نفسه كان يرى أن حياته في الحجاز بعد وفاة النبي ﷺ قد كانت محنة أيضًا؛ لأنه كان يرى نفسه أحق بالخلافة، فامتُحِن بصرف الخلافة عنه إلى الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، وقد صبر على محنته تلك فأجمل الصبر، وأطاع الخلفاء الثلاثة فأحسن الطاعة، ونصح لهم فأبلغ في النصح، فلما ارتقى إلى الخلافة أو ارتقت الخلافة إليه لم يُجنِ منها إلا شرًّا، وإلا شرًّا كان يزيد ويتضاعف كلما تتابعت أيامه في العراق، حتى كاد ينتهي به إلى اليأس، لولا أنه أجمل الصبر في العراق، كما أجمل الصبر في الحجاز.
فقد امتُحِن إذن أشد الامتحان وأعسره ثلاثين عامًا من حياته، ثم انتهى آخر الأمر إلى أن قُتِل أثناء خروجه للصلاة، لم يقتله عبد أعجمي مأسور، وإنما قتله حر عربي عن ائتمار بينه وبين قوم مثله أحرار عرب، فميتته كانت أشق وأشنع من ميتة عمر.
ثم امتُحِن بنوه من بعده كما سترى، وامتُحِن أهل العراق بعد موته كما سترى أيضًا، فأي غرابة في أن تقسو كل هذه المحن الجسام المتتابعة على أهل العراق ومن إليهم؟! فيرون في علي وبنيه غير ما يرى منهم سائر الناس، ويرفعونهم من أجل هذه المحن نفسها إلى هذه المكانة الممتازة التي رفعوهم إليها، ويغلو غلاتهم بعد ذلك، وبعد أن عرفوا من أمر اليهود والنصارى ما عرفوا، وبعد أن عرفوا كذلك من أمر الفرس ما عرفوا، فيضيفون إليه وإلى بنيه من خصال التقديس ما لا يُضاف عادة إلى الناس، وخصومهم واقفون لهم بالمرصاد يحصون عليهم كل ما يقولون ويفعلون، ويضيفون إليهم أكثر مما قالوا وما فعلوا، ويحملون عليهم الأعاجيب من الأقوال والأفعال.
ثم يتقدم الزمان وتكثر المقالات ويذهب أصحاب المقالات في الجدال كل مذهب، فيزداد الأمر تعقدًا وإشكالًا، ثم تختلط الأمور بعد أن يبعد عهد الناس بالأحداث، ويتجاوز الجدال خاصة الناس إلى عامتهم، ويتجاوز الذين يحسنونه إلى الذين لا يحسنونه، ويخوض فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فيبلغ الأمر أقصى ما كان يمكن أن يبلغ من الإبهام والإظلام، وتصبح الأمة في فتنة عمياء لا يهتدي فيها إلى الحق إلا الأقلون.
والشيء الذي ليس فيه شك — فيما أعتقد — هو أن الشيعة — بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخي الفرق لم توجد في حياة علي وإنما وُجِدت بعد موته بزمن غير طويل.
وإنما كان معنى كلمة الشيعة أيام علي هو نفس معناها اللغوي القديم الذي جاء في القرآن في قول الله عز وجل من سورة القصص: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ الآية. وفي قول الله عز وجل من سورة الصافات: وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ فالشيعة في هاتين الآيتين وغيرهما من الآيات معناها: الفرقة من الأتباع والأنصار الذين يوافقون على الرأي والمنهج ويشاركون فيهما، والرجل الذي كان من شيعة موسى كان رجلًا من بني إسرائيل، والرجل الذي كان من عدو موسى كان رجلًا من المصريين.
بذلك قال المفسرون القدماء الذين تلقوا التفسير عن الفقهاء من أصحاب النبي، وإبراهيم كان من شيعة نوح؛ أي على سنته ومنهاجه، يرى رأيه ويدين بدينه، كما قال هؤلاء المفسرون أيضًا، فشيعة علي أثناء خلافته هم أصحابه الذين بايعوه واتبعوا رأيه، سواء منهم من قاتل معه ومن لم يقاتل.
ولم يكن لفظ الشيعة أيام علي مقصورًا على أصحابه وحدهم، وإنما كان لمعاوية شيعته أيضًا، وهم الذين اتبعوه من أهل الشام وغيرهم من الذين كانوا يرون المطالبة بدم عثمان والحرب في ذلك حتى يُقام الحد على قاتليه، وليس أدل على ذلك من نص الصحيفة التي كُتِبت للتحكيم بعد رفع المصاحف في صِفِّين، فقد جاء في هذه الصحيفة: «هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل العراق ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان من شيعتهم من المؤمنين والمسلمين.»
فلفظ الشيعة هنا لا يضاف إلى علي ومعاوية كما ترى، وإنما يضاف إلى أهل العراق وأهل الشام، يريد كاتب الصحيفة أن يذكر من يناصر عليًّا وأهل العراق من المؤمنين والمسلمين في البلاد الإسلامية كلها، ومن يناصر معاوية وأهل الشام من المؤمنين والمسلمين في البلاد الإسلامية كلها أيضًا، ومعنى ذلك أن الصحيفة تلزم الفريقين المختصمين بما فيها، ولا تلزم هذه الفئة القليلة من المعتزلة الذين أبوا أن يشاركوا في الفتنة من قريب أو بعيد.
لم يكن للشيعة إذن معناها المعروف عند الفقهاء والمتكلمين منذ أيام علي، وإنما كان لفظًا كغيره من الألفاظ يدل على معناه اللغوي القريب، ويُستعمَل في هذا المعنى بالقياس إلى الخصمين جميعًا، ولست أعرف نصًّا قديمًا أضاف لفظ الشيعة إلى علي قبل وقوع الفتنة، فلم يكن لعلي قبل وقوع الفتنة شيعة ظاهرون ممتازون من غيرهم من الأمة.
والرواة يحدثوننا بأن العباس أراد عليًّا على أن يبسط يده ليبايعه، فأبى علي أن يحدث الفُرقة بين المسلمين.
والرواة يحدثوننا أيضًا ويحدثنا علي نفسه في بعض كتبه إلى معاوية بأن أبا سفيان أراد عليًّا على أن ينصب نفسه للخلافة حتى لا يخرج الأمر من بني عبد مناف، فأبى علي ذلك عليه كما أباه على عمه العباس، ولكن أحدًا لم يقل إن العباس كان شيعةً لعلي، ولا إن أبا سفيان كان شيعة لعلي أيضًا، وإنما عرض لهما هذا الرأي، فلما لم يستجب لهما علي بايعا أبا بكر ودخلا فيما دخل فيه الناس، كما فعل علي نفسه مع الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه.
ويحدثنا الرواة كذلك أن المقداد بن الأسود وعمار بن ياسر، وربما ذكر سلمان الفارسي، أظهروا الدعوة لعلي أثناء الشورى حتى خاف بعض أهل الشورى تفرقَ الناس، فطلب إلى عبد الرحمن بن عوف أن يتعجل القضاء في الأمر، فلما بايع عبد الرحمن عثمان دخل المقداد وعمار فيما دخل فيه الناس، كما فعل علي نفسه، ولم يقل أحد في ذلك الوقت إن المقداد أو عمارًا كان شيعة لعلي، وإنما رأيا رأيًا، ثم انصرفا عنه ليكونا مع جماعة المسلمين.
ومعنى هذا كله أن عليًّا لم تكن له شيعة ممتازة من الأمة قبل الفتنة، ولم تكن له شيعة بالمعنى الذي يعرفه الفقهاء والمتكلمون أثناء خلافته، وإنما كان له أنصار وأتباع، وكانت كثرة المسلمين كلها له أنصارًا وأتباعًا، حتى كانت موقعة صفين، وحتى افتتح معاوية مصر، وحتى جعل معاوية يُغِير على أطراف علي في العراق والحجاز واليمن.
وقد قُتِل علي وليس له حزب منظم ولا شيعة مميزة، بل لم يُنظَّم الحزب العلوي ولم تُوجَد الشيعة المميزة إلا بعد أن تم اجتماع الأمر لمعاوية وبايعه الحسن بن علي كما سترى.