الفصل الثالث والأربعون
ولا بد من وقفة قصيرة عند حديث الصلح وما جرى بين الحسن ومعاوية من المفاوضة فيه، فقد يُظهرنا التأمل في هذا كله على اتجاه نفوس الناس وقلوبهم في ذلك الوقت إلى الدنيا أكثر من اتجاهها إلى الدين، وقد يظهرنا ذلك أيضًا على أن الحسن وأباه وهذه القلة القليلة من أشباههما إنما كانوا يعيشون غرباء في هذه البيئة الجديدة القديمة، أو في هذا الخلف الذي خلف من المسلمين، جماعة من هذه القلة كرهوا الفتنة واستيأسوا من بيئتهم ففروا بدينهم إلى العزلة وآثروا الله على الناس، وآخرون رأوا أن الدين لم يُوحَ به إلى النبي ليؤثر به نفسه ويفر به من البيئة التي ملأها الفساد، وإنما أوحى به ليصلح من أمر الناس ما فسد، ويقوِّم من حياتهم ما اعوجَّ، ويحملهم على الجادة، ويهديهم الصراط المستقيم، وقد نهض النبي بأمر ربه، لم يفر بدينه إلى غار حراء، ولم يعتزل به أهل مكة، وإنما واجه قومه بما كرهوا، عنف بهم وعنفوا به، وألح في دعائهم إلى الخير وألحوا في المكر به والكيد له والتأليب عليه، حتى أخرجوه من وطنه، فلم يثبط ذلك من همه، ولم يُفل من حده، ولم يكن يحفل في سبيل الدين بأن يضع خصمه الشمس في يمينه والقمر في يساره إن استطاعوا، وكانت له العاقبة، فحمل الناس على الخير وهداهم إلى الدين، لم يشفق من تبعة، ولم يخف مكروهًا.
وقد رأى علي وأمثاله القليلون أن النبي قد سن لهم سنة في إنفاذ أمر الله وحمل الناس على الحق، فمضوا على سنة النبي وصاحبيه من بعده، واحتملوا في ذلك ما احتملوا من البلاء والعناء والقتل في ميادين الحرب، أو القتل غيلة أثناء الخروج إلى الصلاة.
ولم يكن بد من أن تصير أمور الناس إلى ما صارت إليه، فقد لقي العرب غيرهم من الأمم، ورثوا ملكهم وعرفوا حضارتهم وبلوا ما في حياتهم من خير وشر، ومن حلو ومر، وكان من الطبيعي أن تنتهي الأمور إلى إحدى اثنتين: فإما أن يقهر الغالبون فيعرِّبوا هذه الأمم المغلوبة، وإما أن يقهر المغلوبون فيفتنوا هذه الأمة الغالبة، وقد فُتِنت الأمة الغالبة عن كثير من أمرها، فأعرضت عن خلافتها وعن سنتها الرشيدة، ودُفِعت إلى الملك، تقلِّد فيه قيصر وكسرى أكثر مما تقلِّد النبي والشيخين.
ويكفي أن تلاحظ ما قدمته آنفًا من أن أشراف أهل العراق كانوا يتصلون بمعاوية في أيام علي، يتلقون ماله ويمهدون له أمره، وأن تلاحظ بعد ذلك أن الحسن لم يكد يفرغ من البيعة حتى فرغ جماعة من الأشراف الذين بايعوه إلى معاوية، منهم من سار إليه فبايعه وأقام معه حتى عادوا في صحبته إلى العراق، ومنهم من أرسلوا إليه الكتب ينبئونه بضَعف الحسن وانتثار أمره واختلاف الناس عليه، ويتعجلون قدومه إلى العراق، حتى لم يتحرج معاوية من أن يتأذن في أصحابه من أهل الشام: أن كُتُب أهل العراق قد تواترت إليه يدعونه فيها إلى أن يسير إليهم، وأن أشراف أهل العراق قد جعلوا يقبلون عليه ليبايعوه.
وقد غير معاوية سياسته فجأة تغييرًا تامًّا، فأعرض عن العنف ومال إلى الرفق وأمعن فيه، وكأنه كان يعرف عثمانية الحسن وبغضه للفتنة وتحرجه من سفك الدماء، كما كان يعرف كغيره من عامة الناس مكان الحسن من النبي ونزوع نفسه إلى الخير وعزوفها عن الشر.
فلم يكد الحسن يكتب إليه مع جندب بن عبد الله الأزدي ينبئه بأن الناس قد بايعوه ويدعوه إلى الطاعة، حتى رد عليه معاوية ردًّا رقيقًا ليس فيه شيء مما كان في كتبه إلى علي من الشدة والغلظة والتأنيب والامتناع، وإنما كتب إليه ينبئه أنه لو كان يعلم أنه أقوم بالأمر وأضبط للناس وأكيد للعدو وأحوط على المسلمين وأعلم بالسياسة وأقوى على جمع المال منه لأجابه إلى ما سأل؛ لأنه يراه لكل خير أهلًا، ويقول له إن أمري وأمرك شبيه بأمر أبي بكر وأمركم بعد وفاة رسول الله ﷺ، يريد أن أبا بكر وأصحاب النبي معه عرفوا لأهل البيت مكانتهم من النبي واستحقاقهم لكل كرامة، ولكنهم مع ذلك صرفوا الخلافة عنهم إلى من هو أقدر على النهوض بأمرها من المسلمين.
وقد عاد الأمر إلى مثل ما كان عليه بعد وفاة النبي، لم تتغير مكانة أهل البيت ولم يتغير استحقاقهم لكل كرامة، ولكن غيرهم — وهو معاوية — أقدر منهم على النهوض بأمر الخلافة وأعباء السلطان.
ثم وعده أن يسوِّغه ما في بيت مال العراق، وأن يجعل له خراج ما يختار من الكور، يستعين به على مئونته ونفقاته ما عاش.
وقد عاد جندب بكتاب معاوية إلى الحسن، وأنبأه باجتماع أهل الشام وكثرتهم وتأهبهم للمسير إليه، وأشار عليه أن يغزوهم قبل أن يغزوه، ولكن الحسن ظل ساكنًا لا ينشط للحرب حتى علم أن معاوية قد سار إليه، وكاد أن يبلغ حدود العراق، هنالك نهض للقائه وجرى له ما علمت من الأحداث.
ولم يكن قعود الحسن عن الحرب جبنًا أو فرقًا، وإنما كان كراهية لسفك الدماء من جهة، وشكًّا في أصحابه من جهة أخرى، وقد تبين له بعد مسيره وما كان من أمره مع الناس حين بلغ المدائن أنه لم يكن مخطئًا، ولا سيما بعد أن عرف وفود الأشراف من أهل العراق على معاوية، وأن الذين لم يفدوا عليه قد كتبوا إليه، فكان يقول لأهل العراق: أنتم أكرهتم أبي على الحرب وأكرهتموه على التحكيم، ثم اختلفتم عليه وخذلتموه، وهؤلاء وجوهكم وأشرافكم يفدون على معاوية أو يكتبون إليه مبايعين، فلا تغروني عن ديني.
ثم تعجل الصلح، فأرسل إليه معاوية عبد الله بن عامر عامل عثمان على البصرة، وعبد الرحمن بن سمرة فعرضا عليه الصلح وألحا عليه فيه، ورغباه بما رغباه به مما علمت، فقبل مبدأ الصلح وأرسل سفيرين إلى معاوية، هما عمرو بن سلمة الهمداني ومحمد بن الأشعث الكندي، ليستوثقا من معاوية ويعلما ما عنده، فأعطاهما معاوية هذا الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب للحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان، إني صالحتك على أن لك الأمر من بعدي، ولك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد ﷺ، وأشد ما أخذه الله على أحد من خلقه من عهد وعقد، لا أبغيك غائلة ولا مكروهًا، وعلى أن أعطيك في كل سنة ألف ألف درهم من بيت المال، وعلى أن لك خراج يسَا ودارابجرد تبعث إليهما عمالك وتصنع بهما ما بدا لك، شهد عبد الله بن عامر وعمرو بن سلمة الكندي وعبد الرحمن بن سمرة ومحمد بن الأشعث الكندي وكُتِب في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين.»
ونلاحظ أن معاوية لم يبدأ هذا الكتاب كما كان يبدأ كتبه إلى علي: «من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب» وإنما قدم الحسن فكتب: «إلى الحسن بن علي من معاوية بن أبي سفيان» يظهر بذلك تكريم الحسن وأنه يسير معه سيرةً غير سيرته مع أبيه.
وقد عرض معاوية على الحسن ثلاثة أشياء: أن يجعله ولي عهده، وأن يجعل له مرتبًا سنويًّا من بيت المال ألف ألف درهم، وأن يترك له كورتين من كور فارس يرسل إليهما عماله ويصنع بهما ما يشاء.
ثم أعطى على نفسه العهد المشدد المؤكد أن يؤمن الحسن من كل غائلة، ولم يكتفِ الحسن بهذه الشروط؛ لأن فيها شيئًا لا يملكه معاوية في رأيه، وهو ولاية العهد، ولأن ما عدا هذا من الشروط المالية نوع من الإغراء وليس بذي خطر عند الحسن، فبيت مال العراق في يده، وكور فارس كلها في يده أيضًا، وقد أهمل معاوية في كتابه شيئًا هو أخطر من كل ما ذُكِر، وهو تأمين أصحاب الحسن الذين حاربوا مع علي وهمُّوا بالحرب مع الحسن نفسه؛ ولذلك احتفظ الحسن بكتاب معاوية عنده وأرسل إليه رجلًا من بني عبد المطلب من جهة، وبينه وبين معاوية قرابة قريبة من جهة أخرى، وهو عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمه أخت معاوية، فقال له: ائتِ خالك، وقل له: إن أمنت الناس بايعتك.
وكأن الحسن أراد أن يصطنع شيئًا من اللباقة، فاحتفظ بشروط معاوية وطلب إلى معاوية مزيدًا هو تأمين الناس، ولكن معاوية كان أدهى من ذلك وأبرع كيدًا، فقد أعطى ابن أخته طومارًا ختم في أسفله، وقال له: اكتب ما شئت.
فجاء عبد الله بن الحارث بهذا التفويض المطلق إلى الحسن، فكتب فيه الحسن: «هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين، وعلى أنه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده، وأن يكون الأمر شورى، والناس آمنون حيث كانوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وعلى ألا يبغي الحسن بن علي غائلة سرًّا ولا علانية ولا يخيف أحدًا من أصحابه، شهد عبد الله بن الحارث وعمرو بن سلمة.» ثم رد عبد الله بن الحارث إلى معاوية بكتابه هذا ليُشهد عليه من شاء من أصحابه ففعل، وتم الصلح، ولكنه لم يتم دون أن يترك بين الرجلين شيئًا من اختلاف الرأي وسوء التفاهم، كما يقال في هذه الأيام.
أكان الكتاب الأول الذي أرسله معاوية إلى الحسن قائمًا يكفل للحسن ما أعطاه معاوية من الشروط ما عدا ولاية العهد التي لم يرضها الحسن، أم سقط بهذا الكتاب الذي كتبه الحسن وأمضاه معاوية؟
أما الحسن فقد رأى أن كتاب معاوية الأول ظل قائمًا، وأن معاوية قد التزم فيه ما وعد به من مُرتب في كل عام، ومن خراج هاتين الكورتين للحسن ما عاش، وأما معاوية فقد رأى أن الكتاب الثاني قد ألغى الكتاب الأول إلغاء فليس للحسن عنده إلا ما طلب من أن يكون الأمر شورى بعد موت معاوية، ومن تأمين الناس على أنفسهم وعلى أموالهم وذراريهم، ومن ألا يبغي الحسن غائلة سرًّا أو جهرًا، ومن أن يعمل في أمر المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين.
ومن أجل اختلاف الرأي هذا طلب الحسن إلى معاوية — بعد أن استقام له الأمر — أن يفي له بشروطه المالية، فأبى عليه معاوية وقال له: ليس لك عندي إلا ما شرطت لنفسك. وكأن الحسن أراد تحكيمًا، وكأنه أراد أن يُحكم سعد بن أبي وقاص، فلم يقبل معاوية تحكيمًا ولكنه على ذلك أرضى الحسن بما أعطاه وما فرض له من المال.
وتكثر المؤرخون والرواة بعد ذلك، فزعم قوم أن معاوية وفَّى بالشروط للحسن ثم أغرى أهل البصرة سرًّا، فطردوا عمال الحسن من الكورتين، وأبوا أن يدفعوا إليه شيئًا من خراجهما، وقالوا: هذا فيئنا وليس لأحد غيرنا فيه حق.
والأمر كما رأيت أيسر من ذلك، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن معاوية قد بر الحسن وأرضاه بالمال، فلم يجد في حياته عسرًا ولا ضيقًا، وإنما عاش في المدينة عيشة الغني السخي الذي ينفق عن سعة ولا يحسب للمال حسابًا.
ومهما يكن من شيء، فقد سار معاوية إلى الكوفة مطمئنًّا راضي البال، ينشر من حوله الرضى والطمأنينة، واستقبله الحسن فبايعه وبايعه الناس، وكأن معاوية أراد أن يعلن الحسنُ رضاه عن هذا الصلح واطمئنانه إلى النظام الجديد.
وهذا طبيعي لا يحتاج فهمه وقبوله إلى تكلف مَن تكلف من الرواة والمؤرخين، الذين زعموا أن عمرو بن العاص هو الذي أغرى معاوية بدعوة الحسن إلى أن يتكلم؛ ليظهر للناس عجزه وضعفه أو ليسوءه أمام أنصاره وشيعته، فالحسن لم يختلس الصلح اختلاسًا، ولم يستخفَ به من الناس، والحسن قد خطب الناس غير مرة في حياة أبيه وبعد وفاته، فلم يعرف منه عيًّا أو حصرًا وهو بعد ذلك أو قبل ذلك من أهل بيت لم يُعرفوا قط بعي أو حصر، وإنما كانوا معدن الفصاحة واللسن وفصل الخطاب، وقد خطب الحسن فقال خير ما كان يمكن أن يقال وأصدق ما كان يمكن أن يقال أيضًا، قال: «أيها الناس، إن أكيس الكيس التُقى، وأحمق الحمق الفجور، إن هذا الأمر الذي سلمته لمعاوية إما أن يكون حق رجل كان أحق به مني فأخذ حقه، وإما أن يكون حقي فتركته لصلاح أمة محمد وحقن دمائها، فالحمد لله الذي أكرم بنا أولكم وحقن دماء آخركم.»
والرواة يزعمون أن هذا الكلام قد أغضب معاوية، وأنه لام عمرو بن العاص لأنه هو الذي ألح في أن يتكلم الحسن، ثم هم بعد ذلك يزيدون في كلام الحسن ما عسى أن يكون منه وما عسى ألا يكون.
ومهما يكن من ذلك فقد سخط على الحسن جماعة من أصحابه الذين أخلصوا له ولأبيه، وأخلصوا في بغض معاوية وأهل الشام، ورأوا في هذا الصلح نوعًا من التسليم لم يكن يلائم ما بذلوا أيام علي من جهد، ولم يكن يلائم كذلك ما كان في أيديهم من قوة، فمنهم من كان يقول للحسن: يا مذل المؤمنين! ومنهم من كان يقول له: يا مذل العرب! ومنهم من كان يقول له: يا مسوِّد وجوه العرب.
ولكن الحسن لم يحفل بشيء من ذلك، وإنما رضي عن خطته كل الرضى، رأى فيها حقنًا للدماء ووضعًا لأوزار الحرب وجمعًا لكلمة الأمة، وتمكينًا للمسلمين من أن يستقبلوا أمورهم مؤتلفين لا مختلفين ومتفقين لا مفترقين، ومن أن يفرغ أهل الثغور لثغورهم يردون عنها طمع العدو فيها وفيما وراءها، ومن أن يفرغ الجند للفتح يستأنفونه من حيث وقفته الفتنة.
ويقول الرواة: إن الحسين بن علي رحمه الله لم يكن يرى رأي أخيه ولا يقر ميله إلى السلم، وإنه ألح على أخيه في أن يستمسك ويمضي في الحرب، ولكن أخاه امتنع عليه وأنذره بوضعه في الحديد إن لم يطعه.
وليس في هذا شيء من الغرابة؛ فقد كان علي نفسه يتنبأ ببعض ذلك، يتحدث بأن الحسن سيخرج من هذا الأمر، وبأن الحسين هو أشبه الناس به، وربما قسا على الحسن شيئًا، فقال: إن الحسن فتى من الفتيان صاحب جفان وخوان.
وقد فرغ الحسن من هذا الأمر كله وارتحل بأهل بيته إلى المدينة، وترك معاوية في الكوفة يدبر أمر دولته الجديدة كما يشاء، ولكن الحسن لم يكد يبعد عن الكوفة حتى أدركه رسول معاوية يريد أن يرده إلى الكوفة ليقاتل طائفة من الخوارج خرجت عليه، فأبى الحسن أن يعود، وقال: لقد صالحته وما أريد إلا حقن الدماء واجتناب الحرب، وانتهى الحسن إلى المدينة فلقي من أهلها إثر وصوله إليها من لامه في الصلح كما لامه فيه أهل الكوفة، فكان يقول للائميه: كرهت أن ألقى الله عز وجل فإذا سبعون ألفًا أو أكثر تشخب أوداجهم دمًا، يقول كل منهم: يا ربي، فيمَ قُتِلت؟!