الفصل الرابع والأربعون
ولم يكد الحسن يترك الكوفة في طريقه إلى المدينة حتى أظهر معاوية لأهل العراق شدةً بعد لين وعنفًا بعد رفق، فأعلن إليهم أول الأمر ألا بيعة لهم عنده حتى يكفوه بوائقهم، ويردوا عنه خوارجهم هؤلاء الذين خرجوا عليه، فمضى أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم كما كانوا يقاتلونهم أيام علي، واستبان لهم أن أمرهم لم يتغير وأنهم كانوا يقاتلون أبناءهم وإخوانهم وأولي مودتهم ليطيعوا عليًّا، ثم هم الآن يقاتلونهم ليطيعوا معاوية.
ثم أعرب لهم معاوية بعد ذلك عن خطته التي رسمها وسياسته التي سيتوخاها فيهم، فأنبأهم بأنه نظر فرأى أمور الناس لا تصلح إلا بخصال: أولها أن يأتي المسلمون عدوهم في بلادهم قبل أن يأتيهم هؤلاء العدو في بلاد الإسلام، ولهم على ذلك أن يأخذوا أعطياتهم في إبَّانها، والخصلة الثانية أن بعوثهم إلى الثغور القريبة عليها أن تقيم في ثغورها ستة أشهر، فإذا بعدت الثغور فعلى البعوث أن تقيم فيها سنة، والخصلة الثالثة أن تصلح البلاد وترعى مرافقها حتى لا يصيبها الجهد، ثم أعلن إليهم أنه كان قد حرص على أن يخرج الناس من الفتنة، ويضع عنهم أوزار الحرب، ويكف بأس بعضهم عن بعض، ويجمع كلمتهم، وفي سبيل ذلك اشترط شروطًا ووعد عدات ومنَّى أماني، وإنه الآن يضع هذا كله تحت قدمه.
ثم أعلن إليهم آخر الأمر أن ذمته بريئة ممن لم يقبل فيعطي البيعة، وأجلهم ثلاثًا فأقبل الناس من كل أوب يبايعون، وهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على أن معاوية صانَع أهل العراق ورفَق بهم، حتى يتم له الصلح ويستقيم له الأمر ويخرج الحسن من العراق، فلما تم له ما أراد اصطنع الحزم وساس أهل العراق سياسة لم يكونوا يعرفونها من قبل.
فأخرجهم من الدعة التي ألفوها، وعلمهم أن طاعة الأمراء فرض لا ينبغي التردد فيه أو الالتواء به، وأن من لم يُعطِ الطاعة فلا أمان له، وقد برئت منه ذمة السلطان، هنالك عرف أهل العراق أن حياتهم قد تغيرت، وأنهم سيستقبلون من أمرهم أشد وأقسى مما كانوا يظنون.
وقد ولَّى معاويةُ المغيرةَ بن شعبة أمر الكوفة، وولَّى عبدَ الله بن عامر أمر البصرة، فعاد إليها بعد أن كان قد فارقها بقتل عثمان، وعاد معاوية إلى الشام يدبر أمر دولته من دمشق.
وقد جعل أهل العراق يذكرون حياتهم أيام علي فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم، ويندمون كذلك على ما كان من الصلح بينهم وبين أهل الشام، وجعلوا كلما لقي بعضهم بعضًا تلاوموا فيما كان، وأجالوا الرأي فيما يمكن أن يكون، ولم تكد تمضي أعوام قليلة حتى جعلت وفودهم تفد إلى المدينة للقاء الحسن والقول له والاستماع منه.
وقد أقبل عليه ذات يوم وفد من أشراف أهل الكوفة، فقال له متكلمهم سليمان بن صُرد الخزاعي: «ما ينقضي تعجبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد ولا حظًّا من العطية، فلو كنت إذ فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتابًا بأن الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنه أعطاك شيئًا بينك وبينه، ثم لم يلف به، ثم لم يلبث أن قال على رءوس الناس: إني كنت شرطت شروطًا ووعدت عدات إرادة لإطفاء نار الحرب ومداراة لقطع هذه الفتنة، فأما إذ جمع الله لنا الكلمة والألفة وأمَّننا من الفُرقة فإن ذلك تحت قدمي، فوالله ما اغترني بذلك إلا ما كان بينك وبينه، وقد نُقض، فإذا شئت فأَعِد الحرب جذعة وائذن لي في تقدمك إلى الكوفة فأخرج عنها عامله وأظهر خلعه، وتنبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين.»
وقال الآخرون مثل ما قال سليمان بن صرد، فهم إذن إنما جاءوا المدينة ولقوا الحسن ليعاتبوه أولًا لأنه جنح إلى السلم على رغم ما كان عنده من قوة وعدد، وليعاتبوه ثانيًا، لأنه حين أمضى الصلح لم يشهد عليه وجوه الناس من أهل المشرق والمغرب، ولم يشترط لنفسه ولاية العهد، ثم لينبئوه ثالثًا بأن معاوية قد نقض الصلح وأعلن نقضه على رءوس الأشهاد، ثم ليطلبوا إليه بعد ذلك أن يعيد الحرب جذعة وأن يأذن لهم في أن يسبقوا إلى الكوفة فيعلنوا فيها خلع معاوية ويخرجوا منها عامله، وحينئذ ينبذ الحسن إلى معاوية على سواء؛ إن الله لا يحب الخائنين.
وقد قبل الحسن منهم شيئًا ورفض شيئًا، وكان فيما قَبِل منهم أبى عليهم ناصحًا لهم رفيقًا بهم مؤثرًا السلم وحقن الدماء، ولكنه على ذلك لم يوئسهم وإنما أبقى لهم شيئًا من أمل، فقال لهم فيما روى البلاذري: «أنتم شيعتنا وأهل مودتنا، فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل ولسلطانها أعمل وأنصب، ما كان معاوية بأبْأس مني بأسًا ولا أشد شكيمة ولا أمضى عزيمة، ولكني أرى غير ما رأيتم، وما أردت فيما فعلت إلا حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله وسلِّموا الأمر والزموا بيوتكم وأمسكوا، وكُفوا أيديكم حتى يستريح بَر أو يُستراح من فاجر.»
فقد أعطاهم الحسن — كما ترى — الرضى حين أعلن إليهم أنهم شيعة أهل البيت وذوو مودتهم، وإذن فمن الحق أن يسمعوا له ويأتمروا بأمره ويكونوا عند ما يريد منهم، ثم بين لهم أنه لم يصالح معاوية عن ضعف ولا عن عجز، وإنما أراد حقن الدماء، ولو قد أراد الحرب لما كان معاوية أشد منه قوة ولا أعسر مراسًا، ثم طلب إليهم أن يرضوا بقضاء الله ويطيعوا السلطان ويكفوا أيديهم عنه، وأنبأهم بأنهم لن يفعلوا ذلك آخر الدهر، ولن يستسلموا لعدوهم في غير مقاومة، وإنما هو انتظار إلى حين، هو انتظار إلى أن يستريح الأبرار من أهل الحق أو يُريح الله من الفجار من أهل الباطل.
فهو إذن يهيئهم للحرب حين يأتي إبانها ويحين حينها، ويأمرهم بالسلم المؤقت حتى يستريحوا ويحسنوا الاستعداد، ومن يدري؟! لعل معاوية أن يريح الله منه، فتستقبل الأمة أمرها على ما يحب لها صالحو المؤمنين.
وأعتقد أنا أن اليوم الذي لقي الحسن فيه هؤلاء الوفد من أهل الكوفة، فسمع منهم ما سمع وقال لهم ما قال ورسم لهم خطتهم، هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسي المنظم لشيعة علي وبنيه، نُظم الحزب في المدينة في ذلك المجلس، وأصبح الحسن له رئيسًا، وعاد أشراف أهل الكوفة إلى من وراءهم ينبئونهم بالنظام الجديد والخطة المرسومة، ويهيئونهم لهذا السلم الموقوت ولحرب يمكن أن تُثار حين يأتي الأمر بإثارتها من الإمام المقيم في يثرب.
وكان برنامج الحزب في أول إنشائه كما ترى واضحًا يسيرًا لا عسر فيه ولا تعقيد، طاعة الإمام من بني علي والانتظار في سلم ودعة حتى يُؤمَروا بالحرب فيثيروها.
ومضى أمر الحزب على ذلك، فجعل الشيعة يَلقى بعضهم بعضًا يتذاكرون أمورهم، ويسجلون على معاوية وولاته ما يتجاوزون به حدود الحق والعدل، وينتظرون أن يأمرهم الإمام بالخروج.