الفصل الخامس والأربعون
ولكن الإمام لم يأمرهم بالخروج، ولعله كان يأمرهم بالعافية ويتقدم إليهم بين حين وحين إذا لقيهم أثناء وفودهم على موسمهم، بأن يؤثروا البُقْيا ويصطنعوا الرفق، ولا يعرضوا أنفسهم لبطش السلطان.
ولم تكن شيعة أهل البيت مقصورة على الكوفة ولكنها كانت منتشرة في آفاق البلاد، تقل في بعضها وتكثر في بعضها الآخر، وكانت أمزجتها تختلف في المعارضة باختلاف كثرتها وقلتها، وباختلاف سياسة الولاة لها، فكانت تتفق قبل كل شيء على أن ولاية معاوية شر ليس من احتماله بد، حتى تتهيأ الفرصة للتخلص منه، إما باستراحة الأبرار وحسن استعدادهم للخروج وقدرتهم عليه، وإما بموت الفجار وعودة الأمر شورى بين المسلمين، وكانت الشيعة تنشط أشد النشاط في نشر الدعوة للإمام من أهل البيت بحيث يئول الأمر إليه، حين يُستشار المسلمون في أمر خلافتهم، فكانوا يدعون إلى إمامهم في السلم، يلينون في هذه الدعوة ويشتدون حسبما يكون لهم من الأمزجة وما يتاح لهم من الفرص والظروف، وكان الحسن نفسه وفيًّا لمعاوية ببيعته، حفيظًا له على عهده، مستعينًا به إن احتاج إلى المعونة مهما يكن نوعها، ولكنه على ذلك كان معارضًا ولم يكن يستخفي بمعارضته، وإنما كان يظهر منها ما يشاء في المدينة حيث كان يقيم، وفي مكة حين كان يلم بها أثناء الموسم، وكانت الفرص تواتيه أحسن المواتاة وأيسرها، فهو كان عذب الروح حلو الحديث كريم المعاشرة حسن الألفة محببًا إلى الناس، يحبه أترابه من شباب قريش والأنصار لهذه الخصال، ويحبه الشيوخ من أصحاب النبي لهذه الخصال ولمكانه من النبي، ويحبه عامة الناس لكل هذا ولسخائه وجوده وإعطائه المال حين يُسأل وحين لا يسأل، وكان يصبح فيصلي الصبح ويجلس في مكانه، حتى إذا ارتفعت الشمس طاف بأمهات المؤمنين زائرًا لهن متحدثًا إليهن، يبرُّهن ويبْرُرنه، ويُهدي إليهن ويُهدين إليه، ثم يفرغ لبعض شأنه، فإذا صُلِّيت الظهر جلس للناس في المسجد فأطال الجلوس يسمع منهم ويقول لهم، يُعلِّم من احتاج منهم إلى العلم، ويؤدب من احتاج منهم إلى الأدب، ويسمع من شيوخ الصحابة من يفيده علمًا وأدبًا، وكان في أثناء هذا كله إذا ذَكر السلطان أو ذُكر السلطان عنده يعرف الخير وينكر الشر في أرقِّ لفظ وأعذبه، ولكنه كان يشتد حتى يبلغ القسوة إن ذُكر أبوه بغير ما يحب، أو لقي من بغى أباه الغوائل أو سعى إليه بمكروه، وكان بعد هذا كله يحسن كما أحسن الله إليه، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، فكان — فيما اتفق المؤرخون والرواة عليه — مزواجًا مطلاقًا حتى أنكر أبوه عليه ذلك، ونهى الناس عن تزويجه، فلم ينتهوا وكابروا أباه في ذلك مداعبين له، كانوا يرون في الإصهار إلى سبط النبي وابن أمير المؤمنين شرفًا أي شرف.
وكان معاوية رفيقًا بالحسن أعظم الرفق، واصلًا له أحسن الصلة، ولكن معارضة الحسن كانت تبلغه، فيعاتبه فيها ليِّنًا حينًا وشديدًا حينًا، ولكن مكان الحسن من معاوية لم يكن محببًا إليه، فقد كان معاوية رجلًا بعيد النظر، لم يكد يطمئن إلى الخلافة ويرى أنها قد اطمأنت إليه، حتى فكر في أن يجعلها تراثًا بعده لآل أبي سفيان، وكان يفكر في ابنه يزيد دائمًا، فيرى أن الحسن هو الحائل بينه وبين ما يريد من ذلك، فهو قد تعجل الصلح مع الحسن فعرض عليه ولاية الأمر من بعده.
ومن الحق أن الحسن لم يقبل منه ذلك، وإنما اشترط عليه أن تكون الخلافة بعده شورى بين المسلمين، يختارون لها من أحبوا، وكان الحسن في أكبر الظن يرى أن المسلمين لن يعدلوا به بعد وفاة معاوية أحدًا، وكانت الشيعة تؤمن بذلك أشد الإيمان، وتدعو له فتُلح في الدعاء.
وهنا يختلف المؤرخون والرواة، فقد تُوفِّي الحسن رحمه الله سنة خمسين للهجرة.
فأما الشيعة فيرون أن معاوية قد دس إليه مَن سمَّه ليخلو له ولابنه وجه الخلافة، وأما مؤرخو الجماعة من أهل السنة فيروون ذلك ويكثرون من روايته، ولكنهم لا يقطعون به، ومن المحدثين من يرويه ولكنه يراه بعيدًا، لا لشيء إلا لأن معاوية قد صحب النبي فلا يليق به أن يأتي مثل هذا الأمر البغيض.
ومؤرخو أهل السنة مع ذلك يتحدثون بأن الحسن نفسه قال لبعض عائديه في مرضه الأخير: «لقد سُقِيت السم مرات، ولكني لم أُسقَ قط سمًّا أشد عليَّ من هذا الذي سُقِيتُه هذه المرة، ولقد لفظت آنفًا قطعة من كبدي.»
ويتحدثون كذلك بأن أخاه الحسين رحمه الله سأله عمن سقاه السم، فأبى أن ينبئه به مخافة أن يقتصَّ منه بغير حجة قاطعة عليه، يئس الحسن من الحياة وكره أن يلقى الله وقد اقتُصَّ له بالشبهة، فآثر أن يَكِل هذا القصاص إلى الله عز وجل.
وبعض المؤرخين يزعم أن جعدة بنت الأشعث بن قيس زوج الحسن هي التي اختارها معاوية لتدس السم للحسن في بعض شرابه أو طعامه، ورشاها في ذلك بمائة ألف دينار، ومنهم من يزعم أنه وعدها بأن يتخذها لنفسه زوجًا، فلما مات الحسن وفى لها معاوية بالمال وكره أن يتزوجها، مخافة أن تفعل به ما فعلت بالحسن، والتكلف في هذه الرواية ظاهر، ذهب بها أصحابه إلى ما عُرِف من كيد الأشعث بن قيس لعلي فأرادوا أن تكون ابنته هي التي كادت للحسن حتى أوردته الموت.
وبعض المؤرخين يرون أن معاوية لم يبعد في الاختيار بين زوجات الحسن، وإنما اختار لسمه قرشية هي هند بنت سهيل بن عمرو، ذلك الذي سفر عن قريش إلى النبي في صلح الحديبية.
ولست أقطع بأن معاوية قد دس إلى الحسن مَن سمَّه، ولكني لا أقطع كذلك بأنه لم يفعل، فقد عُرِف الموت بالسم في أيام معاوية على نحو غريب مريب، مات الأشتر — فيما يقول المؤرخون — مسمومًا في طريقه إلى ولاية مصر، فخلصت مصر لمعاوية، وقال معاوية وعمرو: «إن لله لجندًا من عسل.» ومات عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مسمومًا بحمص في خبر طويل، ومات الحسن بين هذين الرجلين مسمومًا كذلك في أكبر الظن، وخلصت الخلافة لمعاوية وابنه يزيد.
وما ينبغي أن يُذكر أمر الحسين بن علي، فإن الحسين لم يكن قد نصب نفسه للبيعة ولم يكن إمامًا للمسلمين، ولم يكن معاوية قد صالحه ولا وعده ولا شرط له، ومع ذلك فقد هم معاوية أن ينحي الحسين عن مكانه شيئًا لتخلص له الطريق من ابني فاطمة وسبطي النبي، فقال ذات يوم لعبد الله بن عباس ممازحًا وهو يريد الجد: «أنت سيد قومك بعد الحسن.» ولكن عبد الله بن عباس لم ينخدع له وإنما أجابه في صرامة: «أما وأبو عبد الله حي فلا.»
ومع ذلك فلم يتردد معاوية — كما سترى — في أن يبايع بولاية العهد لابنه يزيد، وأُكره الحسين كما أُكره غيره من شباب المهاجرين على أن يسكتوا عن هذه البيعة، التي كانوا ينكرونها في أنفسهم أشد الإنكار.
ومهما يكن من شيء فقد صارت رياسة الشيعة إلى أبي عبد الله الحسين بن علي — رحمه الله — بعد وفاة أخيه.