الفصل السابع والأربعون
ولم يكن لين الحسن وشدة الحسين هما وحدهما مصدر ما أصاب الشيعة في العراق من يسر وعسر، وإنما أعان ولاة معاوية في العراق على الأمرين جميعًا، فأما البصرة فكانت عثمانية، وقد رأيت من أمرها ما رأيت، وعرفت أنها لم تستقم لعلي إلا كارهة، وأما الكوفة فكانت موطن الشيعة ومستقر دعوتهم.
وقد ولي أمر هذين المصرين — بعد أن استقام الأمر لمعاوية — رجلان لم يحبا العنف ولم يذهبا إليه، ولي البصرة عبد الله بن عامر فاستأنف فيها سيرته أيام كان عاملًا لعثمان، نظر إلى نفسه ولم ينظر إلى الناس، فجمع من المال ما استطاع أن يجمع، وأرسل للناس أعنتهم يخبون في الشر ويوضعون، وكانت الفتن قد غيرت من أخلاقهم، وطرأ عليها كثير من الأغراب، وكثر فيها الموالي، ونشأ فيها جيل جديد مختلط، ففشا فيهم الفسق، وفسد أمر السلطان، وسقطت هيبة الوالي في نفوسهم؛ لأنه كان مشغولًا عنهم بنفسه، ولأنه كان — فيما زعم — يتألف الناس ويكره أن يقطع يد سارق، ثم يرى أخاه أو أباه بعد ذلك، وأقام على هذه السياسة حتى عُصِي السلطان جهرة، وفزع أهل المصر إلى معاوية فعزله عنهم، في قصة طويلة.
وولى على البصرة عاملًا آخر لم يقم فيها إلا شهرًا ثم عزله، وولى زيادًا كما سترى، فحارب الشر بالشر، وأزال نكرًا ليضع مكانه نكرًا آخر.
وكان عامل معاوية على الكوفة رجلًا آخر داهية من دواهي العرب هو المغيرة بن شعبة، وأمْر المغيرة بن شعبة غريب كله، اختلط فيه الخير بالشر حتى أصبح مشكلة من المشكلات، غدر في شبابه بجماعة من أهل الطائف، قتلهم جميعًا بعد أن سقاهم حتى ذهبت الخمر بعقولهم وناموا لا يعقلون، فوثب عليهم فقتلهم، وكانوا اثني عشر أو ثلاثة عشر رجلًا، ولم يستطع أن يعود إلى وطنه في الطائف، فاستاق مالًا كثيرًا كان هؤلاء الناس قد قدموا به من مصر، فمضى به حتى أتى المدينة فأسلم وعرض ما ساق من المال على النبي فأبى أن يقبله؛ لأنه نتيجة الغدر وليس في الغدر خير، وسأله المغيرة عن مصيره، وقد أسلم بعد أن فعل فعلته تلك، فقال له النبي: «إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله.» وقد نصح للنبي بعد ذلك وتعرض لأخطار كثيرة في حرب الردة وفي فتح الشام، حتى فقد إحدى عينيه في وقعة اليرموك، ثم شارك في فتح فارس فأبلى أحسن البلاء، وقد أمَّره عمر على البصرة، وكأن إسلامه لم يكن عميق الأثر في نفسه، فقد شهد عليه نفر بالزنى عند عمر، وأوشك عمر أن يقيم عليه الحد، لولا أن لجلج أحد الشهود وهو زياد، فأقيم حد القذف على الشهود الآخرين وعُزِل المغيرة عن البصرة، ولكن عمر ولاه الكوفة بعد ذلك، أقام عاملًا عليها حتى قُتِل عمر، واستبقاه عثمان على عمله وقتًا قصيرًا ثم عزله، وقد اعتزل الفتنة، أو قُل: اعتزل أول الفتنة، فلم يشارك في الثورة بعثمان ولم يبايع عليًّا ولم يشهد الجمل ولا صفين، ولكنه شهد اجتماع الحكمين، وعسى أن يكون قد لعب في هذا الاجتماع بعض اللعب، فلما تفرق الحكمان استبان له أن الدنيا قد أدبرت عن علي، فأظهر الاعتزال فيما كان يرى من سيرته، ولكنه مال إلى معاوية ميلًا واضحًا، فلما قُتِل علي كان من أسرع الناس إلى معاوية، وأقبل معه من الشام حتى دخل الكوفة، فشهد فيها صلح الحسن وبيعة الناس لمعاوية، واختطف ولاية الكوفة اختطافًا، فيما يقول المؤرخون، فقد رُوي أن معاوية هم أن يولي على الكوفة عبد الله بن عمرو بن العاص، أو يولي على الكوفة عمرًا ويجعل ابنه على مصر، فقال له المغيرة بن شعبة: وتقيم أنت بين فكي الأسد، هذا في العراق وهذا في مصر؟! فعدل معاوية عن رأيه وجعل المغيرة واليًا على الكوفة.
وزعم الرواة أن عمرًا عرف كيد المغيرة فجزاه بمثله، قال لمعاوية: تجعل المغيرة على الخراج؟! هلا وليت رجلًا آخر عليه يكون أقدر على جمع الخراج وضبطه؟! وعرض له بأن في المغيرة ضعفًا للمال، فاكتفى معاوية بتولية المغيرة على الحرب والصلاة وجعل الخراج على غيره، ولقي عمرو المغيرة، فقال له: هذه بتلك.
وكانت سياسة المغيرة للكوفة كسياسة عبد الله بن عامر للبصرة، نظر فيها المغيرة إلى نفسه أكثر مما نظر إلى غيره، فرفق بالناس وأسمح لهم، وترك لمعارضي بني أمية من أنصار علي ومن الخوارج قدرًا حسنًا من الحرية.
وكان معاوية قد تقدم إليه في أن يتعقب أنصار علي ويشدد عليهم، فكان يلائم بين ما أراد معاوية وبين ما كان هو يحب من العافية، وأمْره وأمْر عبد الله بن عامر أيسر مما ظن المؤرخون، كلاهما ولي الأمصار للخلفاء السابقين، فتعوَّد في سياسة الناس سيرة من الرفق والدعة والأناة، لم يكن من اليسير عليه أن يخالف عنها.
ومعاوية بعد ذلك رجل من أصحاب النبي، فكان من الطبيعي أن تكون سياسته وسياسة ولاته على الأمصار للناس في حياتهم اليومية شبيهة إلى حد بعيد بسياسة الخلفاء والولاة من قبلهم، وقد كانت كذلك في مصر أيام عمرو بن العاص وابنه عبد الله، وكانت كذلك في مَصْرَي العراق، إلا أن الناس أحدثوا أحداثًا لم تكن، كما قال زياد، فأحدث معاوية وولاته لهذه الأشياء سياسة تلائمها، ولم تتغير سيرة المغيرة في الخوارج من أهل الكوفة، وإنما سار فيهم سيرة علي، تركهم أحرارًا يلقى بعضهم بعضًا ويجتمعون ويتذاكرون أمرهم، وأبى أن يعرض لهم إلا أن يحدثوا شرًّا، أو يبادوه بعداوة.
وكان المغيرة أشد احتياطًا من علي، فكان له مَن يُعلمه علم الخوارج، وكان يحاول أن يمنع خروجهم قبل وقوعه، وربما دفعه ذلك إلى أخذهم أثناء اجتماعاتهم وإلقائهم في السجن، فإذا خرجت منهم خارجة ونصبت له الحرب، أو أفسدت في الأرض، أرسل إليها من أهل الكوفة من يقاتلها حتى يكفيه شرها.
وكانت سيرته في الشيعة أيسر من ذلك وأسمح، لم يعرض لهم بمكروه وربما بادوه بالكلام القاسي الغليظ فنصح لهم ورفق بهم، وحبب إليهم العافية، وخوفهم بطش السلطان، ثم لم يؤذهم بعد ذلك في أنفسهم ولم يرزأهم من أموالهم شيئًا.
وقد انتفع الشيعة بهذه السياسة الرفيقة فنظموا أمورهم، وعارضوا سياسة الأمويين معارضة حرة، كان معاوية يكرهها ولكنه لم يكن يجد على أصحابها سبيلًا، وقد أقام المغيرة واليًا على الكوفة لمعاوية عشر سنين، لم ينكر الشيعة فيها منه شيئًا ذا خطر إلا أن يكون عيبه لعلي، وقد كان مضطرًا إلى ذلك بحكم السياسة الجديدة، وكانت الشيعة تلقى ذلك منه بالإغضاء مرة وبالنكر مرة أخرى.
وقد حرص المغيرة أشد الحرص على أن يرضي معاوية عن نفسه ليستديم ولايته على الكوفة، توسط بين معاوية وزياد حتى ضمن الأمان من معاوية لزياد، وضمن الطاعة من زياد لمعاوية، وعسى أن يكون له أثر فيما كان من استلحاق زياد، فأدى بذلك حق زياد، وعرف له ما قدم إليه من جميل حين لجلج في الشهادة بين يدي عمر فأعفاه من الحد، ثم هو بعد ذلك قد أرضى معاوية حين أراحه من كيد زياد له ومكره به، وحين حول زيادًا من العدو الكائد الماكر إلى الولي الناصح الأمين، وألقى المغيرة في نفس معاوية فكرة ولاية العهد، ولعل معاوية لم ينتظر بهذه الفكرة مشورة المغيرة، ولكن المغيرة جرأه على التفكير فيها والجهر بها، وضمن له أهل الكوفة، وألقى هذه الفكرة نفسها في قلب يزيد، ففتح له أبوابًا من الطمع لعلها لم تكن تخطر له على بال.
وكذلك عاش المغيرة هذه الأعوام العشرة مستريحًا مريحًا، أرضى السلطان وأرضى الرعية وأرضى نفسه، وإن لم يكن إرضاء نفسه يسيرًا، فقد كان صاحب لذة ومسرفًا على نفسه وعلى الناس، كثير الزواج كثير الطلاق، لم يكن يتزوج واحدة واحدة ويطلق حين يجتمع له أربع زوجات وحين يريد أن يستزيد، وإنما كان كثيرًا ما يطلق أربعًا ويتزوج أربعًا، حتى أسرف المؤرخون عليه بعد ذلك، فزعم المكثرون أنه تزوج ألف امرأة في حياته الطويلة، وزعم المقللون أنه تزوج مائة أو تسعًا وتسعين، وتوسط المعتدلون فزعموا أنه تزوج ثلاثمائة، وليس من شك في أنه كان يؤدي إلى هؤلاء الزوجات مهورًا، وليس من شك كذلك في أنه كان يرضي كثيرًا منهن عن الطلاق السريع، وما أحسب أن ثروته الخاصة كانت تقوم له بهذا السرف الكثير.
فحياة المغيرة كما ترى كانت خليطًا من العمل الصالح والعمل السيئ، وأمره وأمرها بعد ذلك إلى الله، ولكن المهم هو أن سياسته حين ولي الكوفة لمعاوية قد يسرت للشيعة أمرها تيسيرًا حتى كان أهل الكوفة يذكرونه بالخير كلما بلوا بعده قسوة الأمراء.