الفصل الثامن والأربعون
ولكن الأمور تتغير في البصرة حين يليها زياد سنة خمس وأربعين، ثم تتغير في الكوفة حين يضاف أمرها إلى زياد بعد موت المغيرة سنة خمسين، ولم تكن حياة زياد أقل غرابة من حياة المغيرة، كما لم يكن زياد نفسه أقل ذكاء ودهاء، ولا أدنى مكرًا وكيدًا من المغيرة، بل المحقَّق أنه قد تفوق على المغيرة في هذا كله.
وكان زياد ذا شخصيتين مزدوجتين، عاش بأولاهما أيام الخلفاء الراشدين، وعاش بالثانية بعد أن صالح معاوية، وكانت الشخصيتان متناقضتين إلى أقصى حدود التناقض وأبعد غاياته، كان راشدًا حين عمل للخلفاء الراشدين، وكان طاغية جبارًا حين عمل لمعاوية، وكان يرى نفسه في الحالين ناصحًا للمسلمين، وكان يظن أثناء طغيانه أنه أحيا سياسة عمر، ولكن سياسة عمر أصلحت الناس، وسياسة زياد أيام معاوية ملأت حياة الناس وقلوبهم شرًّا ونكرًا وفسادًا.
وكان زياد أيام الخلفاء الراشدين رجلًا من موالي ثقيف ولدته أَمَة للحارث بن كلدة، هي سمية، ولعلها كانت فارسية أو هندية، فأما أبوه فقد كان عبدًا روميًّا لصفية بنت عبيد، زوج الحارث بن كلدة أيضًا، وكان اسمه العربي «عُبيد»، فقد كان زياد إذن مولًى لآل الحارث بن كلدة من ثقيف، وكان حدثًا أيام النبي، فقد وُلِد — فيما يقال — عام الهجرة أو بُعيد الهجرة بقليل، ومن الناس من يقول عام الفتح.
وقد سار إلى العراق فيمن سار إليه مع عتبة بن غزوان، وكان عتبة قد تزوج بنت الحارث بن كلدة، وامرأته صفية، فأقام مع مواليه الذين شاركوا في الفتح، ومضى أمره كما استطاع أن يمضي، لا نعلم من أمر صباه وشبابه الأول شيئًا، ولكنا نراه كاتبًا لأبي موسى الأشعري حين كان أميرًا على البصرة، ونراه رسولًا إلى عمر ببعض الحساب، ونقرأ أن عمر قد أُعجب بذكائه وفصاحته وحفظه للعدد وتصرفه فيه، وقد أمره أن يعرض الحساب على الناس كما عرضه عليه، ففعل. وأُعجب هؤلاء العرب من أصحاب النبي بهذا الفتى الفصيح الجريء الذي يلعب بالأرقام لعبًا لا عهد لهم به، ولم يُخْفِ عمر هذا الإعجاب.
ويزعم بعض الرواة أن أبا سفيان همس في ذلك اليوم بأن زيادًا ابنه، ولم يجهر بذلك مخافة عمر، وأكبر الظن أن هذا الخبر اُخترع بأخرة.
والمؤرخون يحدثوننا بأن عمر أعطى زيادًا ألف درهم، فلما عاد إليه مِن قابل سأله: ماذا صنعت بالألف؟ قال: اشتريت بها أبي عُبيدًا فأعتقته.
فقد عرف عمر إذن أن لزياد أبًا هو عبيد، وكان عبيد هذا من الخمول بحيث لا يكاد الناس يعرفونه، فكانوا يُضيفونه إلى أمه، فيقولون: زياد بن سمية، وربما لم يضيفوه إلى أمه ولا إلى أبيه فقالوا: زياد الأمير، وربما قال خصومه ومعارضوه من الشيعة والخوارج بعد عمله لمعاوية: زياد ابن أبيه.
وقد ظل زياد في البصرة يكتب لأمرائها أيام عمر وعثمان، فلما كان يوم الجمل وانتصر علي سأل عن زياد، فأنبئ بأنه مريض، فعاده، واستبان استعداده للنصح له، فهمَّ علي أن يوليه البصرة، ولكن زيادًا أشار عليه أن يجعل على هذا المصر رجلًا من أهل بيته يهابه الناس ويطمئنون إليه، وذكر له ابن عباس، فولاه عليٌّ، وعمل زياد لعبد الله بن عباس كما عمل للولاة من قبله، فلما انصرف ابن عباس عن البصرة في قصته تلك التي ذكرناها آنفًا، قام زياد مقامه وأحسن الحيلة والبلاء في الاحتفاظ بهذا المصر لعَلِيٍّ، على رغم ما كاد معاوية لانتزاعها منه.
ولما قُتِل علي واستبان أن الأمر صائر إلى معاوية تحوَّل زياد إلى فارس، وكان قد استصلحها وأحبه أهلها، فاعتصم بقلعة هناك عُرِفت باسمه فيما بعد، وظل ينتظر حتى إذا استقام الأمر لمعاوية وبايعت له جماعة الناس، وكان زياد وحده متربصًا في قلعته تلك يكره أن ينزل على حكم معاوية، أو أن يدخل فيما دخل فيه الناس، دون عهد من معاوية له بالأمان، وكان معاوية ضيقًا بمكان زياد في قلعته تلك، كان يعلم مكره وكيده وبُعدَ غوره في الدهاء وسعة حيلته، وكان يعلم أن عنده مالًا كثيرًا، وأن له أنصارًا يتعصبون له من أهل فارس، وكان يكره أن ينتقض عليه وأن يبايع لرجل من أهل البيت، فيفسد عليه الجماعة ويخرجه من العافية إلى الحرب وسفك الدماء. وكانت لزياد يدٌ عند المغيرة بن شعبة سبقت إليه أيام عمر، حين لجلج زياد في الشهادة فأعفاه من الحد، فتوسط المغيرة بين معاوية وبين زياد حتى أصلح بينهما، وأخذ لزياد ما أراد من الأمان، وقنع منه معاوية بمال قليل أداه إليه مما كان عنده من الخراج، وأذن له معاوية في أن ينزل من بلاد المسلمين حيث يشاء، فإن أحب العراق أقام فيها، وإن أحب الشام تحوَّل إليها.
ولأمرٍ ما خطر لزياد أو لمعاوية أو للمغيرة أن يتصل نسب زياد ببني أمية وبأبي سفيان خاصة، كأن أبا سفيان قد عرف سمية في بعض زيارته للطائف.
ويقال إن زيادًا احتال حتى دس إلى معاوية من زعم له أن أهل العراق ينسبون زيادًا إلى أبي سفيان، فانتهز معاوية هذه الفرصة ودعا إليه زيادًا، ثم جمع الناس، فشهد الشهود بأن أبا سفيان قد عرف سمية، واكتفى معاوية بذلك، فألحق زيادًا بأبي سفيان وجعله أخاه.
وواضح جدًّا ما في هذا الاستلحاق من التكلف والاحتيال، وقد أنكره الصالحون من المسلمين، حين أعلنه معاوية، وحرص عليه زياد أشد الحرص، وغضب له موالي زياد من بني ثقيف.
ويحدثنا البلاذري بأن معاوية أرضى سعد بن عبيد أخا صفية عن هذا الاستلحاق بما أعطاه من المال، ولكن يونس بن سعد لم يرضَ وأراد أن يصل إلى معاوية ليحاجه في هذا الاستلحاق فلم يستطع الوصول إليه، فلما حضرت الصلاة من يوم الجمعة ذهب يونس إلى المسجد وقطع على معاوية خطبته قائلًا له: «اتقِ الله يا معاوية، فإن رسول الله ﷺ قضى بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأنت قد جعلت للعاهر الولد وللفراش الحجر، وإن زيادًا عبد عمتي وابن عبدها، فاردد إلينا ولاءنا.» فقال له معاوية: والله يا يونس لتكفن أو لأطيرن بك طيرة بطيئًا وقوعها. قال يونس: أليس المرجع بعدُ بك وبي إلى الله عز وجل؟!
وقال الشاعر في ذلك:
وقال يزيد بن مفرغ يعيب معاوية بهذا الاستلحاق فيما زعم الرواة:
وكان معاوية شديد الإيثار لزياد، لا يحتمل أن يقول فيه أحد ما يكره، حتى عرف ذات يوم أن عبد الله بن عامر عاب زيادًا وقال فيما قال: لهممت أن أجمع خمسين رجلًا من قريش يحلفون بالله ما عرف أبو سفيان سمية، فغضب معاوية لذلك أشد الغضب وقال لحاجبه: «إذا جاء عبد الله بن عامر فاضرب وجه دابته عن أقصى الأبواب.» لم يكتفِ بأن يحجبه وإنما منعه من دخول القصر، وقد أنفذ الحاجب أمر معاوية، وضاق عبد الله بن عامر بهذه الجفوة، فشكا أمره إلى يزيد، وتوسط يزيد، فلم يرضَ معاوية عن عبد الله إلا بعد أن ذهب إلى زياد فاعتذر إليه وأرضاه، ومكان عبد الله بن عامر من عثمان ومن معاوية معروف.
ولم يكن زياد أقل حرصًا على نسبه الجديد من معاوية، حتى روى المؤرخون أنَّّ رجلًا أتى عبد الرحمن بن أبي بكر، وطلب منه أن يكتب في حاجة له إلى زياد، فكتب عبد الرحمن ولم ينسب زيادًا إلى أبي سفيان، فأبى الرجل أن يذهب بالكتاب إلى زياد، وجاء عائشة أم المؤمنين فكتبت له: «من عائشة أم المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان.» فلما رأى زياد هذا الكتاب قال للرجل: إذا كان الغد فاحضر، فلما حضر الرجل أمر زيادًا بالكتاب فقُرِئ على الناس، وإنما أراد بذلك إلى أن يعلم أهل البصرة أن أم المؤمنين قد اعترفت بنسبه هذا الجديد.
وكان أبو بكرة صاحب رسول الله أخا زياد لأمه ولدته سمية للحارث بن كلدة، ولكن الحارث نفاه، فظل عبدًا، فلما كانت غزوة الطائف نزل فيما نزل من العبيد إلى النبي ﷺ، فأعتقه فيمن أعتق من هؤلاء العبيد وقال عنه: «إنه طليق الله وطليق رسوله.» فكان أبو بكرة يقول: إنه مولى رسول الله.
وقد وجد أبو بكرة على زياد حين لجلج في الشهادة بين يدي عمر، فصرف الحد عن المغيرة وعرَّض أبا بكرة لحد القذف، فلما عرف سعي زياد في الاستلحاق وتدبير معاوية له نهاه عن ذلك وحرج عليه فيه، فلم يسمع له زياد، فلما تم الاستلحاق حلف أبو بكرة لا يكلمه أبدًا، ثم لم يكلمه حتى مات.
وكان أبو بكرة يحلف — فيما زعم الرواة — ما كانت سمية بغيًّا ولا عرفت أبا سفيان.
وبلغه — فيما يقول البلاذري — أن زيادًا طمع بعد الاستلحاق في أن يحج، وكأنه أراد أن يكون أمير الحج، وقد استأذن معاوية في الحج فأذن له، فأقبل أبو بكرة حتى دخل على زياد وعنده بعض بنيه، فوجه الحديث إلى أحد بنيه وهو يسمع، فقال: إن أباك هذا أحمق، قد فجر في الإسلام ثلاث فجرات: أولاهن كتمان الشهادة على المغيرة، واللهُ يعلم أنه قد رأى ما رأينا. والثانية في انتفائه من عبيد وادعائه إلى أبي سفيان، وأُقسم إن أبا سفيان لم يرَ سمية قط. والثالثة أنه يريد الحج، وأم حبيبة زوج رسول الله ﷺ هناك، وإن أذنت له كما تأذن الأخت لأخيها فأعظم بها مصيبةً وخيانة لرسول الله ﷺ، وإن هي حجبته فأعظم بها عليه حجة. فقال زياد: ما تدع النصح لأخيك على حال. وعدل عن الحج في هذا العام، واستعفى معاوية منه فأعفاه، وانتظر بالحج، فلم يأتِ الحجاز حتى ماتت أم حبيبة يرحمها الله.