الفصل الخامس
وقد قُتل عثمان — كما تعلم — أثناء الموسم، فكان كثير من أهل المدينة قد مضوا إلى حجِّهم ثم جعلوا يعودون بعد أن قضوا مناسكهم، وجعلت أنباء الكارثة تبلغهم في طريقهم إلى المدينة، فمنهم من سمع هذه الأنباء ثم أقبل إلى المدينة فبايع عليًّا، ومنهم من سمعها فرجع أدراجه إلى مكة معتزلًا للفتنة أو منكرًا لما كان من الأحداث مضمرًا السخط والخلاف على الإمام الجديد، بل إن بعض أهل المدينة الذين شهدوا بيعة علي فبايعوا أو رفضوا البيعة قد جعلوا يتركون المدينة ويفرُّون بما أضمروا في نفوسهم من الخلاف أو الاعتزال إلى مكة؛ لأنها كانت حرمًا آمنًا لا يُغار عليه ولا يُذعَر من أَوى إليه، فقد انطلق إلى مكة عبد الله بن عمر فارًّا بنفسه ودينه من الفتنة، وهمَّ علي أن يرسل الخيل في طلبه لولا أن أقبلت بنته أم كُلثوم، وكانت زوجًا لعمر، فأكدت له أنه لم يخرج لفتنة ولا لخلاف. وخرج إلى مكة طلحة والزبير يظهران أنهما يريدان العمرة أو يظهران اعتزالهما لحرب معاوية ومَن قِبَلَه من أهل الشام.
وأوى إلى مكة عمَّال عثمان الذين استطاعوا أن يأووا إليها: أوى إليها عبد الله بن عامر ويَعلى بن أمية، كما أوى إليها كثير من بني أمية، منهم مروان بن الحكم وسعيد بن أبي العاص، وكان في مكة من أزواج النبي: حفصة بنت عمر، وأم سَلَمة، وعائشة بنت أبي بكر. وقد أخذت عائشةُ طريقها إلى المدينة بعد أن قضت مناسكها، وعرفت أثناء سفرها مقتل عثمان وخُبِّرت بأن طلحة قد بُويِع له فأظهرت بذلك ابتهاجًا؛ فقد كان طلحة مثلها تَيميًّا، ولكنها لقيت في طريقها مَن أنبأها بحقيقة الأمر وبأن عليًّا هو الذي تمَّت له البيعة في المدينة؛ فضاقت بذلك ضيقًا شديدًا وأعلنت أنها كانت تؤثر انطباق السماء على الأرض قبل أن ترى عليًّا وقد أصبح للمسلمين إمامًا، ثم قالت لمن كان معها: ردُّوني. فرجعوا بها أدراجهم إلى مكة.
وكان معروفًا أن عائشة — رحمها الله — لم تكن تحب عليًّا ولا تهواه، بل كان معروفًا أنها كانت تَجِد عليه مَوجدة شديدة منذ حديث الإفك حين أراد علي أن يواسي النبي ﷺ فأشار عليه بأن يطلقها، وقال له: «إن النساء غيرها كثير.» وكان ذلك قبل أن يُنزل الله براءتها في القرآن، فلم تنسَ لعلي قوله ذاك.
وكانت عائشة شخصية من أقوى الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين في ذلك العهد، لم تكن رفيقة كأبيها وإنما كانت شديدة كعُمَرَ، على احتفاظ منها بكثير مما ورثت العرب عن جاهليتها، فكانت تحفظ الشعر وتكثر من حفظه وإنشاده والتمثل به، حتى إنها رأت أباها وهو يُحتضَر، فتمثَّلت قول الشاعر:
وسمعها خليفةُ رسول الله أبوها، فقال لها كالمنكر عليها: «بَخٍ بَخٍ يا أم المؤمنين! هلا تلوْتِ قول الله عز وجل: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ» وكانت من أشد نساء النبي إنكارًا على عثمان، لم تتحرَّج أن تصيح به من وراء سترها — وهو على المنبر — حين عاب عبدَ الله بن مسعود، فأسرف في عيبه، ولم تكن تتحفَّظ من الاعتراض على كثير من أعمال عثمان ومن سيرة عمَّاله، حتى ظن كثير من الناس أنها كانت من المحرِّضين على الثورة به. وكانت تُنكر على عليٍّ — فيما أعتقد — أمرين آخرين: أحدهما لم يكن لعلي فيه خِيَرة؛ فقد تزوَّج فاطمةَ بنت رسول الله ورُزِق منها الحسن والحسين، فكان أبا الذرية الباقية للنبي، ولم يُتَح لها هي الولد من رسول الله، مع أنه قد أُتِيح لمارية القبطية أم إبراهيم في أواخر أيام النبي، فكان هذا العُقم يؤذيها في نفسها بَعضَ الشيء، ولا سيما وهي كانت أحبَّ نساء النبي إلى النبي.
أما الأمر الآخر؛ فهو أن عليًّا قد تزوَّج أسماء الخثعميَّة بعد وفاة أبي بكر رحمه الله، وأسماءُ الخثعمية هي أم محمد بن أبي بكر الذي نشأ في حجر علي، فكانت عائشة تجد على علي لهذا كله.
وقد عادت إلى مكة مغاضبةً حين عرفت أن أهل المدينة قد بايعوا له، فلما رجعت إلى مكة عمدت إلى الحِجر فاتخذت فيه سترًا، وجعل الناس يجتمعون إليها فتحدِّثهم من وراء الستر: تُنكِر قتل عثمان وتقول: «لقد غضبنا لكم من لسان عثمان وسوطه، وعاتبناه حتى أعتب وتاب إلى الله وقَبِل المسلمون منه، ثم ثار به جماعة من الغوغاء والأعراب فماصُوه مَوص الثوب الرخيص حتى قتلوه، واستحلُّوا بقتله الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام.»
وجعل الناس يسمعون لها ويتأثرون بها، وكيف لا يتأثرون وهي أم المؤمنين وحبيبة رسول الله التي مات بين سَحرها ونحرها، وبنت أبي بكر الصدِّيق الذي صحب النبي في الهجرة وأنزل الله فيه ما أنزل من القرآن، والذي لم يكن المسلمون يعدلون به أحدًا بعد رسول الله ﷺ؟!
كان الناس إذن يسمعون لها ويتأثرون بما كانوا يسمعون منها، وكان كتاب علي بتولية خالد بن العاص بن المغيرة على مكة قد وصل إلى مكة وهي أشد ما تكون من الثورة؛ لِمَا كانت تسمع من حديث عائشة، فكان ما كان من رفض البَيعة وإلقاء الكتاب الذي كتبه علي في سقاية زمزم، وبعد ذلك بقليل أقبل طلحة والزبير، فانضموا إلى مَن كان بها من الغاضبين لعثمان المخالفين لعلي، ومنذ ذلك اليوم أصبحت مكة مثابة لكل من كان ينكر إمامة علي من غير أهل الشام.