الفصل الحادي والخمسون
ولست في حاجة إلى أن أطيل فيما سفك زياد من دماء الناس في البصرة، وما سفك نائبه سمرة بن جندب حين كان زياد يصير إلى الكوفة، حين أصبح لها أميرًا، فأخبار هذا شائعة مشهورة في كتب الأدب والتاريخ، والإطالة بذكرها مملة لا تغني عن أحد شيئًا، ولكني أقف عند محنة بعينها امتحن بها زياد الإسلام والمسلمين، وشاركه معاوية في هذا الامتحان، فتركت في نفوس المعاصرين لهما أقبح الأثر وأشنعه، وكانت صدمة عنيفة لمن بقي من خيار الناس في تلك الأيام، وهي محنة حُجْر بن عدي وأصحابه من أهل الكوفة.
وقصة هذه المحنة مفصلة في كتب المحدِّثين والمؤرخين، ما نُشِر منها وما لم يُنشَر، وإنما أوجزها أشد الإيجاز وأعظمه؛ لأن مغزاها أعظم خطرًا من تفصيلها، فما أكثر الذين قُتِلوا في الفتنة الكبرى، منذ ثار الناس بعثمان إلى أن استقام الأمر لمعاوية! وما أكثر الذين قُتِلوا بعد أن ولي معاوية في أعقاب هذه الفتنة، وفيما ثار بين المسلمين من فتن، وما ألمَّ بهم من خطوب! ولكن محنة حُجر تصور المذهب الجديد في الحكم بعد أن استحالت الخلافة إلى مُلْك، وتغيرت سياسة الملوك والأمراء الذين يعملون لهم في الأقاليم، وأصبح تثبيت الملك ودعم السلطان والاحتياط للنظام آثر في نفوس الملوك والأمراء من النصح للدين والبقاء على المسلمين.
وقد رأينا الخلفاء الراشدين يدرءون الحدود بالشبهات، ويحرجون على عمالهم في أن يؤذوا الناس في أبشارهم وأموالهم، فكيف بنفوسهم ودمائهم؟! وقد رأينا عمر رحمه الله يشجع زيادًا نفسه على أن يلجلج في الشهادة، حين قذف بعض الناس عنده المغيرة بن شعبة، مخافة أن يُفضَح رجلٌ صحبَ النبي ﷺ، ورأينا عثمان يتكلف ما تكلف من العذر ليعفو عن عبيد الله بن عمر، فيما كان من قتل الهرمزان، ويُغضب في ذلك من أغضب من عامة المسلمين ومن خيار الصحابة أنفسهم.
فأما الآن في أيام معاوية وزياد فالناس يُؤخَذون بالشبهة، ويُقتَلون بالظنة، والنظام آثر عند الولاة والملوك من النفوس المؤمنة التي أمر الله ألا تُزهَق إلا بحقها.
وقد كان حجر بن عدي الكندي رجلًا من شيعة علي المخلصين له الحب، شهد معه الجمل وصفين والنهروان، وكره صلح الحسن، ولام الحسن في هذا الصلح، ولكنه بايع معاوية كما بايعه غيره من الناس، ووفى ببيعته دون أن يضطره ذلك إلى أن يرفض عليًّا أو يبرأ من حبه، بل دون أن يضطره ذلك إلى أن يرفض عليًّا أو يبرأ من حبه، بل دون أن يضطره ذلك إلى أن يؤمن لمعاوية وعماله بكل ما كانوا يفعلون، وكان حجر رجلًا من صالحي المسلمين، وفد على النبي ﷺ مع أخيه هانئ بن عدي فيمن وفد عليه من قومهما، ثم شارك في حرب الشام وأحسن فيها البلاء، وكأنه كان في مقدمة الجيش الذي دخل مرج عذراء قريبًا من دمشق، ثم تحول إلى العراق فشارك في غزو بلاد الفرس وأبلى أحسن البلاء في نهاوند، ورابط في الكوفة مع المرابطين بعد الفتح، وكان رجلًا حرًّا صادق الدين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرضى عن السلطان إن أحسن، ويسخط عليه إن أساء، وكان بعد صلح الحسن معارضًا لسلطان معاوية وعامله المغيرة بن شعبة، ولكنه لم يخلع يدًا من طاعة، وإنما كان — كما كانت عامة أهل الكوفة — يذعن للسلطان وينتظر كما قال الحسن: أن يستريح بر أو يموت فاجرٌ. وكان ينكر أشد الإنكار سنة بني أمية في شتم علي وأصحابه على المنبر، ولم يكن يخفي إنكاره، وإنما كان يبادي به المغيرة بن شعبة، وكان المغيرة يعفو عنه وينصح له ويحذره بطش السلطان.
وكأن موت الحسن ومصير الأمر إلى الحسين قد رفع أهل الكوفة إلى أن يشتدوا في معارضتهم أكثر مما كانوا يفعلون من قبل، وكان حُجْر رأس المعارضين، وقد خطب المغيرة ذات يوم وأخذ في شتم علي وأصحابه كما تعوَّد أن يفعل، فوثب حجر فأغلظ له في القول وطالبه بأن يؤدي إلى الناس ما أخر من عطائهم، فهذا أنفع لهم وأجدى عليهم من شتم الأخيار والصالحين، ووثب قوم من أصحاب حجر فصاحوا بمثل صياحه وقالوا بمثل مقالته، حتى اضطر المغيرة أن يقطع حديثه وينزل عن المنبر ويدخل داره، وقد لامه في هذا اللين قومٌ من أصحابه، فزعم المغيرة أنه قتل حجرًا بحلمه عنه؛ لأنه سيطمع في الأمير الذي سيخلفه، فيقتله هذا الأمير لأول وهلة، وكره المغيرة أن يقتل خيار أهل المصر ليسعد معاوية في الدنيا ويشقى هو في الآخرة.
وأقبل زياد واليًا على الكوفة، وكان لحجر صديقًا، فقربه ونصح له بإيثار العافية وحذره من الفتنة وخوَّفه من بأسه إن جعل على نفسه سبيلًا، ولكن الأمر لم يلبث أن فسد بين حجر وزياد، وظهر هذا الفساد حين قتل عربي مسلم رجلًا من أهل الذمة، فكره زياد أن يُقِيد من العربي المسلم لذمي، وقضى بالدية، وأبى أهل الذمي قبول الدية وقالوا: كنا نُخبَر أن الإسلام يسوِّي بين الناس ولا يفضل عربيًّا على غير عربي، وغضب حجر لقضاء زياد وأبى أن يسكت على إمضائه، وقام الناس معه في ذلك حتى أشفق زياد من الفتنة إن أمضى قضاءه، فأمر بالقصاص على كره منه، وكتب في حجر وأصحابه إلى معاوية يشكو صنيعهم، فكتب إليه معاوية أن ينتظر به وبأصحابه أول حجة تقوم عليه.
ويحدث المؤرخون أن حجرًا وأصحابه انتهزوا عودة زياد إلى البصرة، فجعلوا يشغبون على نائبه إذا شتم عليًّا وأولياءه في خطبته، وجعلوا ينكرون عليه كثيرًا من أعماله ويشددون في النكير، حتى أحس النائب عمرو بن حريث شيئًا من الحرج، وكتب إلى زياد يتعجل عودته إلى الكوفة ويذكر له صنيع المعارضين؛ فلما قرأ زياد كتابه قال: ويل أمك يا حجر، وقع العشاء بك على سرحان.
ثم أقبل مسرعًا إلى الكوفة فأنذر وحذر، ولم يعجل بالتعرض لحجر وأصحابه، حتى إذا خطب ذات يوم فأطال الخطبة أظهرت الشيعة مللًا، وصاح حجر: الصلاة. فمضى زياد في خطبته، فصاح حجر مرة أخرى: الصلاة. وصاح معه أصحابه، وهَمَّ زياد أن يمضي في خطبته، ولكن حجرًا وقف وهو يصيح: الصلاة. ووقف معه أصحابه يصيحون كما كان يصيح، فقطع زياد خطبته ونزل، فصلى وتفرق الناس.
وأرسل زياد إلى جماعة من وجوه الكوفة فأمرهم أن يأتوا حجرًا، وأن يكفوا عنه من يطيف به من عشائرهم، وأن يردوه عن هذه الطريق التي أخذ في سلوكها، ولكن هؤلاء الوجوه من أهل الكوفة لم يبلغوا من حجر شيئًا، فعادوا إلى زياد فأنبئوه من أمر حجر بأشياء وكتموه أشياء أخرى — فيما يقول المؤرخون — وطلبوا إليه أن يستأني بحجر، فلم يسمع منهم، وإنما أرسل من يدعو له حجرًا، فامتنع عليه.
فأمر الشرطة أن يأتوه به، فكان بين الشُّرط وأصحاب حجر تناوش، واستخفى حجر فلم يقدر عليه زياد، حتى أخذ محمد بن قيس بن الأشعث زعيم كندة، وأمر بسجنه، وتوعده بالقتل والمثلة إن لم يأته بحجر، فجاءه بعد أن أخذ منه أمان حجر على نفسه حتى يرسله إلى معاوية فيرى فيه رأيه، فأعطى زياد هذا الأمان.
وأقبل حجر، فأمر زياد بإلقائه في السجن، وجدَّ في طلب من قدر عليه من أصحابه، حتى جعل في السجن مع حجر ثلاثة عشر رجلًا بعد خطوب ومحن.
ثم طلب إلى أهل الكوفة أن يشهدوا عليهم، فشهد قوم بأنهم تولوا عليًّا وعابوا عثمان ونالوا من معاوية، فلم يرضَ زياد هذه الشهادة، وقال: إنها غير قاطعة، فكتب له أبو بردة بن أبي موسى الأشعري شهادة بأن حجرًا وأصحابه قد خلعوا الطاعة، وفارقوا الجماعة، وبرئوا من خلافة معاوية، وهموا بإعادة الحرب جذعة فكفر كفرة صلعاء.
هنالك رضي زياد وطلب إلى الناس أن يمضوا هذه الشهادة، فأمضاها خلق كثير، حتى بلغ الشهود سبعين رجلًا — فيما قال المؤرخون — وكان منهم جماعة من أبناء المهاجرين، بينهم ثلاثة من بني طلحة، وعمر بن سعد بن أبي وقاص والمنذر بن الزبير، ولم يتحرج من أن يكتب أسماء نفر لم يشهدوا ولم يحضروا هذه الشهادة، فمن هؤلاء من برأ نفسه أمام الناس، ومنهم من كتب إلى معاوية يبرئ نفسه من هذه الشهادة، وهو شريح القاضي الذين شهد أن حجرًا رجل صالح من المسلمين، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم ويحج ويعتمر، وأن دمه حرام، فلما قرأ معاوية كتاب شريح لم يزد على أن قال: أما هذا فأخرج نفسه من الشهادة.
وقد حُمِل حجر وأصحابه إلى معاوية، فأمر ألا يدخلوا دمشق وأن يُحبَسوا بمرج عذراء، ويقول المؤرخون: إن حجرًا لما عرف أنه بهذه القرية قال: والله إني لأول مسلم نبحته كلابها وأول مسلم كبَّر بواديها.
وقد قرأ معاوية كتاب زياد وشهادة الشهود، وأمر فقرئ هذا كله على الناس، ثم استشار في أمرهم من حضره من أشراف قريش ووجوه أهل الشام، فمنهم من أشار عليه بحبسهم، ومنهم من أشار عليه بتفريقهم في قرى الشام، وأقام معاوية وقتًا لا يقطع في أمرهم برأي، فكتب إلى زياد بتوقفه في أمرهم، وكتب إليه زياد يعجب من تردده ويقول له: إن كانت لك حاجة بالعراق فلا تردهم إليَّ.
هنالك استبان الرأي لمعاوية، فأرسل إلى هؤلاء الرهط من يعرض عليهم البراءة من علي ولعنه وتولي عثمان، فمن فعل منهم ذلك أمن، ومن أبى منهم ذلك قُتِل.
وقام جماعة من أشراف أهل الشام فشفعوا عند معاوية في بعض هؤلاء الرهط، وقبل معاوية شفاعتهم، حتى لم يبقَ منهم إلا ثمانية، عُرِضت عليهم البراءة من علي فأبوا، فأخذ في قتلهم في قصة طويلة، ورأى اثنان السيوف المشهورة والقبور المحفورة والأكفان المنشورة، كما قال حجر قبيل موته، فطلبا أن يُحمَلا إلى معاوية وأظهرا أنهما يريان رأيه في علي وعثمان، فأُجِيبا إلى طلبهما، وقُتِل الآخرون وهم ستة، وكانوا أول من قُتِل صبرًا من المسلمين.
وحُمِل الرجلان إلى معاوية، فأما أحدهما فأظهر البراءة من علي بلسانه، وشفع فيه شافع من أهل الشام، فحبسه معاوية شهرًا ثم ألزمه الإقامة حيث أراد من الشام، وحرم عليه أرض العراق، فأقام في الموصل حتى مات.
وأما الآخر فأبى أن يبرأ من علي وأسمع معاوية في نفسه وفي عثمان ما يكره، فرده معاوية إلى زياد وأمره أن يقتله شر قتلة، فأمر به زياد فدُفِن حيًّا.
وكذلك انتهت هذه المأساة المنكرة التي استباح فيها أمير من أمراء المسلمين أن يعاقب الناس على معارضة لا إثم فيها، وأن يُكرِه وجوه الناس وأشرافهم على أن يشهدوا عليهم زورًا وبهتانًا، وأن يكتب شهادة القاضي على غير علم منه ولا رضى، حتى قال حجر حين قدم لتُضرَب عنقه: الله بيننا وبين أمتنا، شهد علينا أهل العراق وقتلنا أهل الشام.
استباح أمير من أمراء المسلمين لنفسه هذا الإثم، واستحل هذا البدع، واستباح إمام من أئمة المسلمين لنفسه أن يقضي بالموت على نفر من الذين عصم الله دماءهم، دون أن يراهم أو يسمع لهم أو يأذن لهم في الدفاع عن أنفسهم، وما أكثر ما أرسلوا إليه أنهم على بيعتهم لا يقيلونها ولا يستقيلونها!
وقد ذعر المسلمون في أقطار الأرض لهذا الحدث، وآية ذلك أن عائشة علمت بتسيير هؤلاء الرهط من الكوفة، فأرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية يراجعه في أمرهم، فوصل عبد الرحمن إلى الشام فوجد القوم قد قُتِلوا، فقال لمعاوية: كيف ذهب عنك حلم أبي سفيان؟ فأجابه معاوية: حين غاب عني أمثالك من حلماء قومي، وقد حملني زياد فاحتملت.
وآية ذلك أيضًا أن الخبر بقتل هؤلاء النفر قد انتهى إلى المدينة، وسمعه عبد الله بن عمر فأطلق حبوته، وتولى والناس يسمعون نحيبه، وأن معاوية بن خديج انتهى إليه الخبر في إفريقية فقال لقومه الذين كانوا معه من كندة: ألا ترون أنا نقاتل لقريش ونقتل أنفسنا لنثبت ملكها، وأنهم يثبون على بني عمنا فيقتلونهم؟!
وكان للخبر صدى مثل هذا الصدى في خراسان عند عاملها الربيع بن زياد، وقالت عائشة: إنها همت أن تثور لتغير ما كان من أمر حجر، ولكنها خافت أن تتجدد وقعة الجمل، وأن يغلب السفهاء ويصير الأمر إلى غير ما أرادت من الإصلاح.
وقال الكوفيون في ذلك شعرًا كثيرًا نجده في كتب السير والتاريخ.
وأغرب من هذا كله أن قتل حجر وأصحابه كان صدمة لمعاوية نفسه، تردد في قتلهم أول الأمر، ثم لما أمضى فيهم حكمه ظن أنه قد أبلى فأحسن البلاء، ولكن الأيام لم تكد تتقدم حتى عاوده الندم وأصابه قلق ممض.
ويقول البلاذري: إن معاوية كتب إلى زياد: «إنه قد تلجلج في صدري شيء من أمر حجر، فابعث إلي رجلًا من أهل المصر له فضل ودين وعلم.» فأشخص إليه عبد الرحمن بن أبي ليلى، وأوصاه ألا يقبح له رأيه في أمر حجر، وتوعده بالقتل إن فعل، قال ابن أبي ليلى: فلما دخلت عليه رحب بي وقال: اخلع ثياب سفرك والبس ثياب حضرك. ففعلت، وأتيته فقال: أما والله لوددت أني لم أكن قتلت حجرًا، وودت أني كنت حبسته وأصحابه وفرقتهم في كور الشام فكفتنيهم الطواعين، أو مننت بهم على عشائرهم، فقلت: وددت والله أنك فعلت واحدة من هذه الخلال، فوصلني، فرجعت وما شيء أبغض إلي من لقاء زياد، وأجمعت على الاستخفاء، فلما قدمت الكوفة صليت في بعض المساجد، فلما انفتل الإمام إذا رجل يذكر موت زياد، فما سررت بشيء سروري بموته.
بل زعم الرواة أن قتل حجر كان له صدى حتى في أعماق دار معاوية، فقد يحدثنا البلاذري: أن معاوية صلى يومًا فأطال الصلاة وامرأته تنظر إليه، فلما فرغ من صلاته قالت له امرأته: ما أحسن صلاتك يا أمير المؤمنين لولا أنك قتلت حجرًا وأصحابه!
فقد كان قتل حجر إذن حدثًا من الأحداث الكبار، لم يشك أحد من الأخيار الذين عاصروا معاوية في أنه كان صدعًا في الإسلام، بل لم يشك معاوية نفسك في أنه كان كذلك، فهو لم ينسه قط منذ كان إلى أن انقضت أيامه، ثم هو لم يذكره قط كما ذكره في مرضه الذي مات فيه، فقد كان يقول أثناء مرضه — فيما زعم الرواة والمؤرخون: ويلي منك يا حجر! وكان يقول كذلك: إن لي مع ابن عدي ليومًا طويلًا.