الفصل الثالث والخمسون
ولم يكن نشاط الخوارج أيام معاوية أقل ولا أخف من نشاطهم أيام علي، وإنما مضوا على سنتهم تلك فلم يريحوا ولم يستريحوا، وكان الخوارج أيام علي يخرجون من الكوفة، فإذا تهيئوا للحرب لحق بهم إخوانهم من أهل البصرة، فأما أيام معاوية فقد نصب خوارج الكوفة لأمراء الكوفة، ونصب خوارج البصرة لأمراء البصرة، وكان أمر الخوارج في الصدر الأول من ملك معاوية متصلًا، ولكنه كان يسيرًا كما كان في أيام علي، سار فيهم المغيرة وعبد الله بن عامر سيرة علي، فكانا لا يهيجانهم إن سكنوا، ولا يعرضان لهم بمكروه حتى يظهروا خلع الطاعة وينشروا الفساد في الأمر، فلما صار الأمر إلى زياد في العراق اشتد في أمر الخوارج فلم ينتظر بهم أن يخرجوا، وإنما احتاط لخروجهم قبل أن يكون، فجعل يستقصي أمورهم ويتتبع أفرادهم حيث يكونون، ويأخذ من قَدر عليه منهم بالشبهة ويقتلهم بالظنة.
وعرف الخوارج ذلك من أمره، فاحتالوا في التخلص منه والاستخفاء من شُرطه وعيونه، كما احتال هو في الظفر بهم والوصول إليهم، وكان بطشه بهم شديدًا وكيده لهم عظيمًا، وقد أخاف زياد الناس جميعًا، فاستتروا منه أشد الاستتار، ومكروا به أعظم المكر.
وكثر القعود بين الخوارج في أيامه، وظهر الخلاف بينهم أيضًا، وانتشر مذهبهم أشد انتشار في طبقات من الناس لم يكن يبلغها من قبل، وتشجع النساء فملن إلى هذا المذهب وشاركن فيه، وخرج بعضهن فيمن خرج من أهل الكوفة، وتعرض بعضهن للقتل والمثلة في البصرة.
وكانت عاقبة الخوارج معروفة، لا تكاد تخرج منهم خارجة في أحد المصرين حتى يرسل إليها الأمير جندًا أكثر منها عددًا وأشد منها بأسًا، فيكون بين هذا الجيش وهذه الخارجة شيء من قتال، ثم يعود الجيش إلى المصر وقد قتل الخارجة كلها أو أكثرها.
فكان خروج الخوارج تضحية بالنفس، يقدمون عليها وهم عالمون بها، مطمئنون إليها راغبون فيها، قد باعوا نفوسهم من الله واشتروا بها الجنة، فكان حزبهم حزب التضحية التي لا تنقضي، وكانوا يرون قتلاهم شهداء، وكان خصومهم من الشيعة وأهل الجماعة يرونهم مارقين من الدين، كما قال فيهم ذلك علي مستندًا إلى الحديث المعروف، ولكن الأمراء الظالمين من ولاة معاوية جعلوا بعض هؤلاء الخوارج شهداء، لا بالقياس إلى الخوارج وحدهم، ولكن بالقياس إلى كثير غيرهم من الناس، حين أخذوهم بالشبهة وقتلوهم بالظنة، وحين سلكوا في قتالهم سياسة الغدر التي نهى عنها الإسلام أشد النهي، كالذي كان من أمر أبي بلال مرداس بن أدية الذي وقع قتله وقتل أصحابه موقع المحنة القاسية، لا من الخوارج وحدهم بل من خلق غيرهم كثير، حتى لقد يحدثنا المبرد بأن الفِرق تنافست في أبي بلال هذا، عدته المعتزلة من أوائلهم، وزعمت الشيعة أنه كان منهم، وما أشك في أن الأخيار والصالحين من معاصريه رأوه رجلًا من أكرم المسلمين وأتقاهم.
وكان أبو بلال صاحب زهد في الدنيا وتنزه عنها، مؤثرًا للخير ناصحًا للمسلمين، برًّا بمن عرف ومن لم يعرف من الناس، وكان كثير العبادة قليل الخوض فيما يخوض الناس فيه عادة، شهد صفين مع علي، وأنكر الحكومة وخرج مع أصحاب النهروان، ثم اعتزل الشر وأقام في مصره بالبصرة خارجي الهوى، مشيرًا على الخوارج ناقدًا لبعض أعمالهم، منكرًا لنشر الفساد في الأرض، زاريًا على اعتراض الناس وقتلهم بغير ذنب، حتى إذا ولي زياد البصرة وخطب خطبته تلك البتراء، كان الرجل الوحيد الذي أنكر عليه قوله: «لآخذن البريء بالمسيء والصحيح بالسقيم.» وذكره قول الله عز وجل: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ولكنه على ذلك أقام في مصره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويشيع الدعوة إلى الخير من حوله، وهلك زياد وولي البصرة ابنه عبيد الله بن زياد، فأسرف في تتبع الخوارج حتى أخافهم، يرصد لهم المراصد، ويلقيهم في السجن، ويمثل بمن قدر عليه منهم.
وكان أبو بلال محببًا إلى الناس بصلاحه وتقاه وحسن سيرته، وقد سُجِن مرة فيمن سُجِن من الخوارج، فأحبه سَجَّانُه لما رأى من عبادته وحسن تلاوته للقرآن، فكان إذا جن الليل أطلقه وربما أطلقه النهار أيضًا، فكان يلم بأهله ويعود إلى سجنه، وقد بلغه ذات يوم وهو مطلق أن عبيد الله بن زياد أزمع قتل الخوارج المسجونين، فلما أقبل الليل تنكَّر حتى عاد إلى سجنه، وآثر القتل على أن يخون السجَّان في نفسه ويعرضه لغضب السلطان.
وأخرجهم ابن زياد فقتل منهم فريقًا وأطلق فريقًا بشفاعة من شفع فيهم من الناس، وكان أبو بلال ممن نجا فاستأنف سيرته، ولكن غيظه من ظلم السلطان كان قد بلغ أقصاه، حتى إذا رأى ابن زياد قد أخذ امرأة خارجية فقطع يديها ورجليها وعرضها في السوق، لم يطق صبرًا على مجاورة الظالمين، فخرج في عدد قليل من أصحابه لا يتجاوزون الثلاثين، ورسم لنفسه ولأصحابه برنامجًا واضح الحدود، وهو أن يخرجوا منكرين للظلم داعين إلى العدل والإصلاح، لا يستعرضون الناس ولا يستبيحون أموالهم ولا يفسدون في الأرض ولا يبدءون أحدًا بقتال، وإنما يدافعون عن أنفسهم إذا قُوتِلوا، ولحق بهم عشرة من أصحابهم فصاروا أربعين، ومضوا في طريقهم فلقيتهم أموال قد جاءت إلى ابن زياد من خراسان، فأخذ بلال من هذه الأموال نصيبه ونصيب أصحابه، كما كان يقسم عليهم في البصرة لو أقاموا، وأمن الرسل على أنفسهم وعلى ما يحملون، وخلى بينهم وبين الطريق إلى البصرة.
وعرف ابن زياد خروجهم فأرسل في إثرهم أسلم بن زرعة في ألفين من الجند فأتبعوهم حتى لقوهم بآسك، فدعوهم إلى العودة والبقاء على الطاعة، فأبوا أن يعودوا إلى طاعة فاسق ظالم يأخذ بالشبهة ويقتل بالظنة ويشق على الناس في أموالهم وحرماتهم، ثم أمسكوا عن جند ابن زياد لم يبادوهم بشر حتى بدءوهم بالقتال، هنالك شد أبو بلال وأصحابه على هؤلاء الجند شدة الشراة المستبسلين فهزموهم، ورجع أسلم بن زرعة في أصحابه إلى البصرة مستخزين، فلام ابن زياد أسلم في ذلك أشد اللوم، وعيره الناس بهذه الهزيمة، حتى تصايح به الصبيان في الطرقات يخوفونه أبا بلال، وقال قائل الخوارج في ذلك:
يشير إلى قول الله عز وجل: كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ.
وأرسل ابن زياد إلى أبي بلال وأصحابه عباد بن أخضر في أربعة آلاف، فلقوهم في بعض طريقهم وطلبوا إليهم العودة والبقاء على الطاعة، فردوا عليهم مثل ردهم على أسلم بن زرعة، وأنشب عباد معهم القتال، فقاتلوهم قتالًا عسيرًا طويلًا حتى رأى أبو بلال أن صلاة العصر قد كادت تفوت القوم، فطلب إليهم الموادعة حتى يصلي الفريقان، وأعطاه عباد ما طلب، وأقبل الفريقان على صلاتهما. ولكن عبادًا عجل صلاته وصلاة أصحابه أو قطعها، وشد على الخوارج فألفاهم في صلاتهم بين قائم وراكع وساجد، فقتلهم جميعًا لم ينحرف لقتاله أحد منهم إيثارًا للصلاة على القتال، ووقع هذا الغدر من هذه الفئة الضخمة على هذا العدد اليسير وقتلهم وهم يصلون في قلوب الناس أسوأ موقع، فأما الخوارج فهاجوا وجدوا له في الثأر لإخوانهم، وأما عامة الناس فكرهوا ثم صبروا على ما يكرهون.
أكان المسلمون راضين عن سياسة معاوية أم كانوا عليها ساخطين؟
ما ينبغي أن نلقي هذا السؤال ونحن ننتظر الجواب عليه من المتأخرين من أهل الفرق، فهؤلاء يتأثرون بمذاهبهم أكثر مما يتأثرون بحقائق التاريخ، وإنما الشيء الذي ليس فيه شك هو أن الذين عاصروا معاوية من المسلمين في شرق الدولة وغربها، لو رُدَّت إليهم أمورهم وطُلِب إليهم أن يختاروا لأنفسهم إمامًا، وأن يختاروه أحرارًا غير مستكرهين ولا مبتغين شيئًا إلا صلاح دينهم ودنياهم، لما اختاروا معاوية بحال من الأحوال؛ لأنهم بلوا سياسته وخبروا عماله ورأوا أن أمورهم تصير إلى شر عظيم، إذا قاسوها إلى ما كانت عليه في تاريخهم القريب، فهم يحكمون بالخوف لا بالرضى، ويُساسون بالرغب والرهب، لا بما ينبغي أن يُساس به المسلمون من كتاب الله وسنة رسوله، وأموالهم العامة ليست إليهم، وإنما هي إلى ملكهم وولاتهم يتصرفون فيها على ما يشتهون، لا على ما يقتضيه الحق والعدل والمعروف.
فالصلات الضخمة تُعطَى لكثير من الناس تشجيعًا لبعضهم على المضي في الطاعة والإذعان، وإغراء لبعضهم الآخر بالسكوت عن الجهر بالحق والقيام دونه، أشراف الحجاز غارقون في الثراء من هذه الصلات، التي تشترى بها طاعة ضعفائهم ويشترى بها سكوت أقويائهم، وأهل الشام غارقون في الثراء موسَّع عليهم في السلطان لأنهم جند الملك وحماة دولته، وأهل العراق مضطهدون لأنهم بين شيعة لعلي وبين خارج على الجماعة، وبين قوم آخرين يُصنَع بهم ما يُصنَع بأهل الشام والحجاز وأهل الأقطار الأخرى مُستغَلُّون مُستذَلُّون، تُجبَى منهم الأموال لتُحمَل إلى الشام فتُنفَق فيما يحب الملك أن ينفقها فيه.
ودماؤهم ليست حرامًا على الملك ولا على عماله، وإنما يستحل منها الملك والعمال ما حرم الله، لا إقامةً لحدود الدين، ولكن تثبيتًا لسلطان الملك.
وما أشك في أن معاوية كان داهية من دهاة العرب وعبقريًّا في السياسة، ولكن المسلمين الذين عاصروه قد عرفوا قبله أئمة جمعوا إلى العبقرية في السياسة والدهاء في قهر العدو والكيد له عدلًا بين الناس ونصحًا لهم وصيانة لأموالهم وعصمة لدمائهم، لم يخالفوا عن الدين ولم ينحرفوا عنه قيد شعرة.
وما أشك كذلك في أن الظروف التي أحاطت بمعاوية قد أعانته أو اضطرته إلى سياسته تلك، ولكني كما قلت غير مرة: لا أحاول الحكم لمعاوية أو الحكم عليه، وإنما أحاول أن أتعرف حقائق الحياة في أيامه، ومن هذه الحقائق حقيقة لا ينبغي أن نهملها أو نشك فيها، هي أن المسلمين بعد الفتح، وبعد أن قوي اتصالهم بالأمم المغلوبة وخالطوهم في دقائق حياتهم، كانوا بين اثنتين: إما أن يغيروا طبائع هذه الأمم كلها ويفرضوا عليها طبائعهم، وليس إلى هذا سبيل، فأمور الناس لا تجري على هذا النحو، وهي لم تجرِ عليه في وقت من الأوقات، وإما أن يُغيِّر المغلوبون طبيعة الغالبين ويفرضوا عليهم طبائعهم الأعجمية المتحضرة، وهو شيء كذلك لا سبيل إليه، لم نره كان في وقت من الأوقات.
فلم يبقَ إلا شيء ثالث هو المنزلة المتوسطة بين هاتين المنزلتين، هو أن يعطي المسلمون المغلوبين شيئًا من طبائعهم، ويعطي المغلوبون المنتصرين شيئًا من طبائعهم أيضًا، وتنشأ من ذلك طبيعة قوام بين الطبيعتين، ليست بالإسلامية الخالصة، أو قُل: ليست بالإسلامية العربية الخالصة، ولا بالرومية أو الفارسية الخالصة، ولكنها شيء بين ذلك.
ولم تكن الفتنة الكبرى، التي عرضنا لها في هذا الجزء وفي الجزء الذي سبقه من هذا الكتاب، إلا صراعًا بين هذه الطبيعة الإسلامية العربية، وطبائع الأمم المغلوبة التي ظهر عليها المسلمون.
كان الإسلام يريد أن يحمل الناس على طريق من العدل والقسط والحرية، لا يشقى فيها أحد لفقر أو ضعف أو خمول، ولا يسعد فيها أحد لقوة أو ثراء أو نباهة شأن، وإنما يعيش الناس فيها كرامًا قد وُفِّرت عليهم حقوقهم بالمعروف، ليس فيها تفوق أو امتياز إلا بالدين والتقوى وحسن البلاء.
وكان الإسلام يريد أن يكون الخلفاء والولاة أمناء للناس على حقوقهم وأموالهم ومرافقهم، يدبرونها على ملأ منهم وعن مشاورة ومؤامرة، ويمضونها في غير تجبر ولا تكبر ولا أثرة ولا استعلاء، ويديرونها كذلك لا على أنهم سادة يمتازون من الناس بأي لون من ألوان الامتياز، بل على أنهم قادة يثق الناس بهم ويطمئنون إليهم ويرونهم كفاة للقيام على أمورهم، فيعهدون إليهم بهذه الأمور عن رضى واختيار، لا عن قهر أو استكراه، ثم يراجعهم في هذه الأمور من شاء منهم أن يراجعهم فيها، فإن استبان لهم أنهم أخطئوا كان الحق عليهم أن يعودوا إلى الصواب، وإن استبان لهم أنهم انحرفوا كان من الحق أن يستقيموا على الطريقة، وعلى هذا النحو الذي كان الإسلام يريده من أنحاء الحكم ومن أنحاء الصلة بين الحاكمين والمحكومين. مضى النبي ﷺ حتى إذا اختاره الله لجواره مضى خلفاؤه على سنته لم ينحرفوا عنها إلا قليلًا من أمر عثمان رحمه الله؛ حين غلبه بنو أمية على رأيه، وما أكثر ما راجعه الناس في ذلك! فصار إلى ما أحبوا وأعطى النصفة من نفسه ومن عماله غير مرة، وأعلن التوبة أو استغفر بمشهد من المسلمين، وعلى منبر رسول الله ﷺ.
فقد كان عثمان يريد الحق فيقدر عليه أحيانًا ويعجز عنه بعض عماله وخاصته أحيانًا أخرى، وكان المحقق أن عثمان لم يتعمد تجبرًا ولا تكبرًا ولا استعلاء ولا استئثارًا، وأقصى ما يمكن أن يقال فيه إنه أخطأ أحيانًا غير عامد إلى الخطأ، وعلى رغم هذا كله ثارت به طائفة من المسلمين وطلبت إليه أن يخلع نفسه، بعد أن ظهر أنه لا يحسن مقاومة الطغاة من خاصته وعماله، فلما أبى أن يخلع نفسه قتلوه.
وسار علي سيرة الشيخين، وعسى أن يكون قد تحرج في بعض أمره أكثر مما كان الخلفاء الذين سبقوه يتحرجون، فتشدده في أن يقسم في الناس كل ما ورد عليه من المال، وأن يرى الناس بيت مالهم بين حين وحين خاليًا من البيضاء والصفراء، قد كُنِس ورش، وقام أمينهم فيه فصلى ركعتين، وعلم الناس أن أمينهم لم يحتجز من دونهم شيئًا ولم يستأثر عليهم بشيء، وكان لعلي مال قبل أن يلي الخلافة يُغل عليه دخلًا حسنًا، فخرج منه وجعله صدقة وفارق الدنيا ولم يترك فيها إلا مئات من دراهم، اقتصدها من عطائه ليشتري بها خادمًا، كما قال الحسن حين خطب الناس بعد موت أبيه، ولسنا نعلم أن أحدًا من الخلفاء الأربعة قتل مسلمًا بالشبهة أو عاقبه على الظنة، وإنما نعلم أنهم كانوا يقتصون من عمالهم، وأن عثمان أقام الحد على الوليد بن عقبة، عامله على الكوفة، حين شهد الشهود عليه أنه شرب الخمر، وأن عمر أقام الحد على أحد بنيه حين شهد عليه بشرب الخمر أيضًا، وأنه هَمَّ برجم المغيرة بن شعبة لولا أن لجلج زياد في الشهادة بين يديه، فدرأ الحد بالشبهة.
كل هذا وأكثر من هذا كان يصنعه الخلفاء السابقون، فأين نحن من هذا كله أو بعضه؟! وقد زعم الرواة أن معاوية سأل ابنه يزيد ذات يوم عن السياسة التي يريد أن يختطها لنفسه، فزعم له أنه يريد أن يحاول سياسة عمر، فضحك معاوية وقال: هيهات! لقد حاولت سيرة عثمان فلم أستطعها، فكيف بسيرة عمر؟!
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أحدًا من الخلفاء السابقين لم يأخذ السلطان بالسيف، ولم يقتل حجرًا ولا أشباه حجر، ولم يورث الخلافة أحد بنيه، ولم يستلحق زيادًا أو أشباه زياد، ولم يقل ما قال معاوية ذات يوم بمحضر صعصعة بن صوحان: «الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي وما تركته للناس فبالفضل مني.» إلا ما كان من عثمان حين زعم على المنبر أنه سيأخذ من بيت المال حتى يرضى وإن رغمت أنوف، فقال له عمار بن ياسر: أشهد أن أنفي أول راغم. وقال له علي: إذن تُمنَع من ذلك. وقد رد صعصعة بن صوحان على معاوية بما يشبه كلام علي، فقال: ما أنت وأقصى الأمة في ذلك إلا سواء، ولكن من ملك استأثر. فغضب معاوية وقال: لهممت. قال صعصعة: ما كل من هم فعل. قال: ومن يحول بيني وبين ذلك؟ قال صعصعة: الذي يحول بين المرء وقلبه. وخرج وهو ينشد قول الشاعر:
على هذه السياسة سخطت الشيعة، وعارضت في كثير من الجلبة حتى قُتِل منها حجر وأصحابه، وعلى هذه السياسة سخط الخوارج، وعارضوا بسيوفهم وألسنتهم فقَتلوا وقُتلوا، وعلى هذه السياسة سخط الصالحون من أصحاب رسول الله والتابعون لهم بإحسان، ولكنهم كانوا ينكرون في أنفسهم، وربما جمجموا ببعض النكير، وكان عامة المسلمين الذين يرون هؤلاء الصحابة والتابعين ويسمعون منهم ينكرون مثلهم ويجمجمون، ومن يدري لعل معاوية نفسه كان ينكر كثيرًا من أمره، حين يثوب إليه فَضْلٌ من حِلمه وعقله، فيذكر سيرة رسول الله وخلفائه ويوازن بينها وبين سيرته.
ويحدثنا المؤرخون بأن معاوية لم يتلقَّ الموت مطمئنًّا إليه حين ألمَّ به، وإنما كان يتوجع ويظهر الجزع ويكثر من ذكر حجر، ومن ذكر إسرافه في أموال المسلمين، ومع ذلك فقد استقبل المسلمون بعد معاوية ملوكًا ودُّوا حين بلَوا سيرتهم لو أن معاوية عاش لهم إلى آخر الدهر، وكان ابنه يزيد أول هؤلاء الملوك.