الفصل الرابع والخمسون
فقد كان معاوية رجلًا نشأ نشأة قرشية جاهلية، فيها كثير من الشظف الذي ليس منه بد لقوم يسكنون واديًا غير ذي زرع، وإن غلَّت لهم التجارة ربحًا كثيرًا، ثم أسلم ورأى النبي ﷺ وكتب له، وتأثر بصحبته وبصحبة من خالط من خيار المسلمين وأبرارهم، وعمل لعمر فتأدب بكثير من أدبه، وكان لهذا كله أثره في سيرته حين استقامت له الجماعة إلى حد ما، حتى أُحصِيت عليه أغلاطه ومخالفاته عن السنة الرشيدة التي ألفها المسلمون.
فأما ابنه يزيد فقد نشأ نشأة تغاير هذه النشأة أشد المغايرة، وُلِد في الشام في قصر إمارة كثر فيه الترف وكثر فيه الرقيق، وورث عن أمه شيئًا من بداوة كلب وغلظتها، وعن أبيه شيئًا من ذكاء قريش ودهائها وسعة حيلتها وحبها للمال والتسلط، وتهالكها على اللذة حين تُتاح لها الوسائل إليها، فشب فتى من فتيان قريش لم يعرف خشونة ولا شظفًا، ولم يتكلف لحياته اكتسابًا، ولم يعرف في أثنائها شقاء ولا عناء، ولم يبذل جهدًا إلا في سبيل ما يرضيه ويلهيه.
فكانت سيرته حين ولي أمر المسلمين مناقضة لسيرة أبيه أشد المناقضة، ثم مناقضة بعد ذلك لسنة النبي وخلفائه الراشدين أشد المناقضة أيضًا.
كان قبل ولايته لعهد أبيه مسرفًا على نفسه في طلب اللذة والعكوف عليها والاستهتار بها؛ حتى كثر حديث الناس فيه، وحتى أشار زياد عليه أن يتحفظ ويحتاط، وأشار على أبيه أن يأخذه بسيرة أرشد من سيرته ومذهب في الحياة يلائم ما كان يرشحه له من ولاية العهد والنهوض بعده بأمر هذه الدولة الضخمة، فأخذه أبوه بشيء من الحزم وأغزاه بلاد الروم، وتتبع سيرته على نحو ما، ولكنه لم يبلغ من تأديبه وتقويمه ما أحب، كان مشغولًا عنه بسياسة الدولة، وكان الفتى مشغولًا عن أبيه بسياسة شهواته الجامحة، وقد مات أبوه وهو عنه بعيد، حتى احتاج الضحاك بن قيس إلى أن يقوم مقامه، فيعلن موت معاوية إلى الناس ونهوض ابنه يزيد بالأمر من بعده.
ثم أقبل الفتى فتلقى دولة عريضة غنية معقدة السياسة، لم يبذل في تشييدها جهدًا، ولم يحتمل في تأييدها مشقة ولا عناء، وقد أقبل على الملك دون أن ينصرف إليه عن لذاته أو يقلع عما كان عاكفًا عليه من العبث واللهو والمجون، أقبل على الملك واثقًا بأن الدنيا قد أذعنت له، وبأن أموره ستجري على طريق سواء، ولم ينسَ إلا شيئًا واحدًا، وهو الجهد العنيف الذي بذله أبوه لتستقيم له هذه الدنيا وليمهد ملكها لابنه.
ولم يكن يزيد يحتمل أن يلتوي عليه أحد بطاعة، وإنما كان يرى أن طاعته حق على الناس جميعًا، فمن التوى بها عليه فليس له عنده إلا السيف.
وقد عرفت أمر أولئك النفر الذين أكرههم معاوية إكراهًا على أن يسكتوا عن بيعته بولاية العهد، حين لم يستطع أن يحملهم على قبولها، وقد كانوا أربعة، مات منهم واحد قبل معاوية، وهو عبد الرحمن بن أبي بكر، وبقي منهم ثلاثة في المدينة هم: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر.
فأما الحسين وابن الزبير فقد اعتلا بالبيعة ليزيد على الوليد بن عتبة حين طلبها إليهما، وجعلا يراوغانه ويستمهلانه حتى فرَّا منه بليل لاجئين إلى مكة، وأما عبد الله بن عمر فلم يكن يحب أن يفارق جماعة الناس، فبايع مع عامة أهل المدينة، وقد كانت بين يزيد وبين ابن الزبير خطوب طوال ثقال لا يعنينا من أمرها شيء في هذا الكتاب، وهي بعد لم تَنقَضِ بموت يزيد، بل لم تَنقَضِ حتى أرهقت جماعة المسلمين من أمرها عسرًا.
وأما الحسين بن علي فقد أقام بمكة رافضًا بيعة يزيد، وجعلت الرسل تتصل بينه وبين شيعة أهل البيت في الكوفة، وهم أكثر أهلها، وقد استجابت هذه الشيعة للحسين، ويقول المؤرخون إنها هي التي بدأت فدعته إلى أن يأتي الكوفة ليكون إمامهم فيما أزمعوا من خلع يزيد وإخراج عامله النعمان بن بشير، وقد كثرت هذه الكتب وكثر الذين أمضوها من أشراف الناس ورءوس القبائل وقراء المصر، حتى منحها الحسين كثيرًا من عنايته، وأراد أن يستقصي أمر هؤلاء الناس، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليلقى أهلها ويعلم علمهم، فإن آنس منهم نية صادقة وعزيمة مصممة على الخروج ونصحًا لآل علي أخذ منهم … مستسرًّا بذلك، حتى إذا رأى أن قد بايعه منهم من يستطيع أن ينهض بهم إلى ما يريد من خلع يزيد كتب إليه بذلك ليرحل إلى الكوفة، فمضى الفتى متكرهًا ولقي في طريقه بعض الجهد، فكتب إلى الحسين يستعفيه، فأبى الحسين أن يعفيه، وسار الفتى حتى أتى الكوفة.
فاستخفى بأمره عند بعض أهلها وجعل يلقى وجوه الناس ورؤساءهم حتى إذا استوثق منهم جعل يأخذ البيعة عليهم للحسين، وعرف النعمان بن بشير بعض ذلك، فلم يحاول أن يصل إلى مسلم ولا أن يعنف بالناس، وإنما سار فيهم سيرة رجل من أصحاب النبي، سار سيرة علي في الخوارج، وسيرة المغيرة بن شعبة في الخوارج والشيعة جميعًا، وجعل يرفق بهم وينصح لهم، ويحبب إليهم العافية ويدعوهم إلى الوفاء بما أعطوا على أنفسهم من البيعة ليزيد، ويأبى على خاصته الذين كانوا يأمرونه بالحزم، حتى كتب كاتبهم بالأمر كله إلى يزيد فلم يكد يزيد يعرف ذلك من أمرهم حتى استشار سرجون مولى أبيه، فأشار عليه بأن يضم الكوفة إلى ابن زياد عامله على البصرة، ويأمره بالشخوص إليها من فوره، ففعل، وأقبل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فدخلها، وقد اضطرب أمر المصر اضطرابًا شديدًا، حتى اضطر النعمان بن بشير إلى أن يلزم قصر الإمارة لا يكاد يخرج منه، فنهض ابن زياد بالأمر في حزم لا يعرف أناة ولا بقية ولا ترددًا، وكان مسلم بن عقيل قد أخذ البيعة على أكثر من ثمانية عشر ألفًا، وكتب بذلك إلى الحسين وألح عليه في القدوم إلى الكوفة.
ولم يكد ابن زياد يستقر في سلطانه الجديد حتى طلب مسلمًا سرًّا وعلانية، وجد في الطلب حتى عرف مكانه عند رجل من أشراف مذجح يقال له هانئ بن عروة، فلم يزل بهانئ حتى أحضره بين يديه، ثم لم يزل به حتى قرره بأن مسلمًا مختبئ في داره، ثم حبسه وهاج الناس لحبسه فلم يبلغوا بهياجهم شيئًا.
وثار مسلم آخر الأمر ونادى بشعاره، فثارت معه ألوف من أهل الكوفة، فمضوا حتى بلغوا المسجد ولكنهم لم يثبتوا، ولم يكد الليل يتقدم حتى كانوا قد تفرقوا عن الفتى وتركوه وحيدًا يهيم في سكك المدينة يلتمس دارًا ينفق فيها بقية الليل، وقد جيء به عبيد الله بن زياد آخر الأمر فقتله في أعلى القصر وألقى رأسه، ثم ألقى جسمه إلى الناس، وقتل هانئ بن عروة، وصلب القتيلين معًا ليجعلهما نكالًا.