الفصل الخامس والخمسون
وقد وصل كتاب مسلم إلى الحسين بمكة، فجعل يتأهب للمسير إلى الكوفة، وجعل الناس يلحون عليه في ألا يفعل، يخوفونه بأس يزيد وبطش ابن زياد وغدر أهل الكوفة، ونصح له ابن عباس في أن يمضي إلى اليمن فيقيم في شعب من شعابها بعيدًا عن يد السلطان وقريبًا من شيعته هناك، ونصح له عبد الله بن جعفر، ورفق به عامل يزيد على مكة سعيد بن العاصي، فأرسل في إثره من يلح عليه في الرجوع إلى مكة، ويؤمنه على نفسه وماله وأهل بيته ويرغبه في الصلات، ولكن الحسين مضى لوجهه ولم يمضِ وحده، وإنما احتمل معه أهل بيته، وفيهم النساء والصبيان، ولم يسمع لمشورة ابن عباس الذي أشار عليه إن لم يجد بدًّا من المسير أن يترك أهل بيته وادعين آمنين، وأن يدعوهم إليه إن استقامت له الأمور، ولكنه أبى، وما أراه أبى عنادًا أو ركوبًا لرأسه، وإنما كان يعلم أن يزيد سيأخذه بالبيعة أخذًا عنيفًا، فإن بايع غش نفسه وخان ضميره وخالف عن دينه؛ لأنه كان يرى بيعة يزيد إثمًا، وإن لم يبايع صنع به يزيد ما يشاء.
ولم يكن الحسين مخطئًا فيما قدر، فهو قد عرف ما كان من غضب يزيد على ابن الزبير حين امتنع عن البيعة، وأقسم ألا يرضى حتى يحمل إليه ابن الزبير في جامعة يُقاد إليه كما يُقاد الأسير، ولم يخطئ الحسين حين أبى أن يترك أهل بيته بالحجاز، فلم يكن يأمن أن يأخذهم يزيد بمسيره هو إلى العراق منابذًا للسلطان.
وقد مضى مع الحسين نفر من بني أبيه ومن بني أخيه الحسن، واثنان من بني عبد الله بن جعفر، ونفر من بني عمه عقيل، ورجال آخرون حرصوا على أن ينصروه، ولما رأت الأعراب قدومه إلى العراق منابذًا ليزيد طمعوا في صحبته وانتظروا منها الخير، فتبعه منهم خلق كثير.
ودنا الحسين من العراق وقد أرصد ابن زياد له الأرصاد، وأمَّر رجلًا من أشراف الكوفة، يقال له الحر بن يزيد، على ألف من الجند، وأمرهم أن يلقوا الحسين في مقدمه ذاك فيأخذوا عليه طريقه ويحولوا بينه وبين الذهاب في أي وجه من وجوه الأرض، ولا يفارقوه حتى يأتيهم أمره، ولما عرف الأعراب أنها الحرب تفرقوا عنه، فلم يبقَ معه منهم أحد.
ولقي الحسين الحر بن يزيد في أصحابه، فلما علم علمهم أراد أن يعظهم ويذكرهم، فسمعوا منه ورضوا قوله، ولكنهم لم يطيعوه وإنما أطاعوا أميرهم ابن زياد، ثم ندب ابن زياد لحرب الحسين رجلًا من أقرب الناس إليه، هو عمر بن سعد بن أبي وقاص فاستعفاه عمر فلم يعفه، وأرسل معه جيشًا من ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، فمضى عمر حتى لقي الحسين فسأله: فيمَ قدم؟ قال الحسين: كتب إليَّ أهل المصر يستقدمونني ويبذلون لي نصرهم. وأظهر كتبهم لعمر، فعُرِضت هذه الكتب على بعض من أمضاها ممن حضر، فكلهم أنكرها، وكلهم جحدها مقسمًا أنه لا يعلم من أمرها شيئًا.
وقد عرض الحسين على عمر أن يختار خصلة من ثلاث: فإما أن يخلوا بينه وبين طريقه إلى الحجاز ليعود إلى المكان الذي جاء منه، وإما أن يسيروه إلى يزيد بالشام؛ ليكون بينه وبين يزيد ما يكون، وإما أن يخلوا بينه وبين الطريق إلى ثغر من ثغور المسلمين، فيكون هناك كواحد من الجند الذين يرابطون بإزاء العدو، له مثل ما لهم من العطاء وعليه مثل ما عليهم من الجهاد. فأما عمر بن سعد فرضي، وقال: أؤامر ابن زياد؟
وكتب إلى ابن زياد بما عرض عليه الحسين، فأبى إلا أن ينزل الحسين على حكمه، وكتب بذلك إلى عمر، وأرسل الكتاب إليه مع شمر بن ذي الجوشن، وقال له: أقرئه الكتاب وانظر ما يصنع، فإن نهض لقتال الحسين فأقم معه رقيبًا عليه حتى يفرغ من أمره، وإن أبى أو تثاقل فاضرب عنقه وكن أمير الجيش. ولم يكد عمر بن سعد يقرأ كتاب ابن زياد ويعلم ما أمر به حامل الكتاب حتى نهض لقتال الحسين، وطلب إليه أن ينزل على حكم ابن زياد، فأبى الحسين وقال: أما هذه فمن دونها الموت. ثم زحف عمر بجيشه على الحسين وأصحابه، وكانوا اثنين وسبعين رجلًا، فقاتلوهم أكثر من نصف النهار، وأبلى الحسين وبنو أبيه وبنو عمومته ومن كان معه من أنصاره القليلين أعظم البلاء وأقساه، فلم يُقتَلوا حتى قَتَلوا أكثر منهم، ورأى الحسين المحنة كأشنع ما تكون المحن، رأى إخوته وأهل بيته يُقتَلون بين يديه وفيهم بنوه وبنو أخيه الحسن وبنو عمه، وكان هو آخر من قُتِل منهم بعد أن تجرع مرارة المحنة فلم يُبقِ منها شيئًا.
وكان نفر يسير من أصحاب عمر بن سعد قد ضاقوا برفض ابن زياد ما عرض عليه الحسين من الخصال، ففارقوا جيشهم وانضموا إلى الحسين، فقاتلوا معه حتى قُتِلوا بين يديه. ونظر المسلمون فإذا قوم منهم — على رأسهم رجل من قريش من أبناء المهاجرين، أبوه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد العشرة الذين شهد النبي لهم بالجنة، وقائد المسلمين في فتح بلاد الفرس، وأحد الذين اعتزلوا الفتنة فلم يشاركوا فيها من قريب ولا من بعيد — نظر المسلمون فإذا قوم منهم، عليهم هذا القرشي عمر بن سعد بن أبي وقاص، يقتلون أبناء فاطمة بنت رسول الله، ويقتلون أبناء علي، ويقتلون ابني عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الطيار شهيد مؤتة ثم يحزون رءوسهم ثم يسلبونهم، ويسلبون الحسين حتى يتركوه متجردًا بالعراء، ويصنعون بهم ما لا يصنع المسلمون بالمسلمين، ثم يسبون النساء كما يُسبَى الرقيق، وفيهم زينب بنت فاطمة بنت رسول الله، ثم يأتون بهم ابن زياد فلا يكاد يرفق بهم إلا حياءً واستخزاء حين قال له علي بن الحسين، وقد كان صبيًّا، وهمَّ ابن زياد بقتله، فقال له: إن كانت بينك وبين هؤلاء النساء قرابة فأرسل معهن إلى الشام رجلًا تقيًّا رفيقًا. هنالك ذكر عبيد الله أن أباه يُدعَى لأبي سفيان، فاستحيا ولم يقتل الصبي، وإنما أرسله مع سائر أهل الحسين إلى يزيد، وقُدِّم رءوس القتلى بين أيديهم وفيها رأس الحسين، وقد دخل به على يزيد فوُضِع أمامه، فجعل ينكت في ثغره بقضيب كان في يده وينشد:
وزعم الرواة أن أبا برزة صاحب النبي كان حاضرًا هذا المجلس، فقال ليزيد: لا تفعل هذا فربما رأيت شفتي رسول الله ﷺ على هذا الثغر مكان هذا القضيب. ثم قام فانصرف.
وأدخل السبي على يزيد فأغلظ لهم أول الأمر، ثم لم يلبث أن رفق بهم وبرَّهم وأدخلهم على أهله، ثم جهزهم بعد ذلك إلى المدينة وردَّهم إليها كرامًا.
والرواة يزعمون أن يزيد تبرأ من قتل الحسين على هذا النحو، وألقى عبء هذا الإثم على ابن مرجانة عبيد الله بن زياد، ولكنا لا نراه لام ابن زياد ولا عاقبه ولا عزله عن عمله كله أو بعضه، ومن قبله قَتَل معاويةُ حُجْرَ بن عدي وأصحابه ثم ألقى عبء قتلهم على زياد، وقال: حَمَّلني ابن سمية فاحتملت.