الفصل السادس والخمسون
وكذلك أصبح للشيعة ثأر عند الخوارج لأنهم قتلوا عليًّا غيلة، وللخوارج عند الشيعة ذحول لأن عليًّا قتل من قتل منهم في النهروان وفي غير النهروان من المواقع، وأصبح للشيعة ثأران عند بني أمية؛ لأن معاوية قتل حجرًا وأصحابه، ولأن يزيد قتل الحسين وأهل بيته وجماعة من أصحابه.
وكان بنو أمية يزعمون أن لهم عند الشيعة ثأرًا، أو قُلْ: عند الشيعة والخوارج؛ لما كان من قتل عثمان بأيدي الثائرين، الذين وفى بعضهم لعلي وخرج بعضهم عليه، ثم لبني أمية ذحول أخرى عند عامة المسلمين، لقتل من قُتِل منهم يوم بدر، وقد ذكر يزيد فيما زعم بعض الرواة، هذه الذحول في هذا الموطن حين أنشد بعد وقعة الحرة:
ومهما يكن من شيء فقد أصبح الخلاف بين هذه الجماعات لا يقوم على تباعد الرأي في الدين وحده، وإنما يقوم على الذحول والأوتار والدماء.
لكل جماعة من هذه الجماعات ثأر عند الجماعتين الأخريين، ومعنى هذا كله أن العصبية أصبحت أساسًا من أسس الفتنة، التي دفعت المسلمين إلى كثير من الشر، والتي لم تنقضِ بقتل الحسين ولا بموت يزيد، وإنما اتصلت بعد ذلك دهرًا طويلًا وبقيت آثارها في حياة المسلمين إلى الآن.
والشيء الذي ليس فيه شك، هو أن أهل العراق لم يكونوا وحدهم هم الذين قربوا القرابة وباعدوا الدين، كما قال لهم زياد في خطبته البتراء، وإنما عمت المحنة بذلك أهل العراق وأهل الشام وأهل مصر وأهل الحجاز كما سترى.
وقد يقال إن الحسين قد ثار بيزيد ورفض بيعته، وثار إلى الكوفة يريد أن يخرج أهلها عن طاعته ويفرق جماعة الناس، ويرد الحرب بين المسلمين إلى ما كانت عليه أيام أبيه، فلم يكن يزيد وأميره في العراق بادئين في الشر مثيرين للفتنة، وإنما ذادا عن سلطانهما وحافظا على وحدة الأمة، وقد كان هذا يستقيم لو أن الحسين مضى إلى حربه مصممًا عليها، لا يقبل فيها مفاوضة ولا يقبل عنها رجوعًا، ولكن الحسين عرض خصاله الثلاث تلك التي عرضها، وكانت العافية في كل واحدة منهن، فلو قد خلى بينه وبين الرجوع إلى الحجاز لعاد إلى مكة لم يكن يحب أن تُسفَك فيها الدماء؛ لأنها بلد حرام، ولأنها لم تحل لرسول الله نفسه إلا ساعة من نهار، ولو قد خلى بينه وبين اللحاق بيزيد لكان من الممكن أن يبلغ يزيد منه الرضى على أي نحو من الأنحاء، أو أن يقيم عليه حجة ظاهرة لا تقبل مراء ولا جدالًا، ولو قد خلى بينه وبين المسير إلى ثغر من ثغور المسلمين لكان رجلًا من عامة الناس يجاهد العدو ويشارك في الفتح، لا يؤذي أحدًا ولا يؤذيه أحد من المسلمين، ولكن أصحاب ابن زياد أبوا إلا أن يستذلوه ويستنزلوه على حكم رجل لم يكن الحسين يراه كفؤًا ولا ندًّا، فلم يكن ما وقع من الشر إلا طغيانًا وإسرافًا في التجبر والبغي، وكأن ابن زياد ظن أنه سيجتث الفتنة من أصلها بقتل الحسين، فيوئس الشيعة من أمرها، ويضطرها إلى أن تنحرف عما كانت تعلل نفسها به من الآمال والمنى إلى الإذعان لما ليس بد من الإذعان له.
ولكنك سترى، في غير هذا الجزء من أجزاء هذا الكتاب، أن ابن زياد لم يزد الفتنة إلا استعارًا، وأن الشر يدعو إلى الشر، والدماء تدعو إلى الدماء، وهذا الإسراف في القتل والتنكيل بالمقتولين وبمن تركوا من الأطفال والنساء، فقد سلب القتلى وفيهم ابن فاطمة حفدتها، وسلب أبناء علي وغيرهم من أصحاب الحسين، ونزع من النساء كل ما كان معهن من حلي وثياب ومتاع، واضطر يزيد بعد ذلك إلى أن يعوضهن ما أخذ منهن.
وكان علي رحمه الله يتقدم إلى أصحابه في حروبه ألا يتبعوا هاربًا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يأخذوا من المنهزمين إلا ما أوجفوا به من خيل أو سلاح، وكان الأمر يجري على ذلك في صفين، فسيرة ابن زياد هذه التي سارها في الحسين وأصحابه كانت بدعًا منكرًا مما ألف المسلمون حتى في فتنهم الشنيعة، ثم هو لم يلقَ من يزيد في ذلك عقابًا ولا لومًا، وإنما لقي منه رضى وإيثارًا.
وقد تمت بهذه الموقعة محنة لعلي في أبنائه لم يُمتحَن بمثلها مسلم قط قبل هذا اليوم، فقد قُتِل من بنيه: الحسين بن فاطمة، والعباس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، ومحمد، وأبو بكر. فهؤلاء سبعة من أبنائه قُتِلوا معًا في يوم واحد، وقُتِل علي بن الحسين الأكبر وأخوه عبد الله، وقُتِل عبد الله بن الحسن وأخواه أبو بكر والقاسم، وهؤلاء الخمسة من حفدة فاطمة، وقُتِل من بني عبد الله بن جعفر الطيار محمد وعون، وقُتِل نفر من بني عقيل بن أبي طالب في الموقعة، بعد أن قُتِل مسلم بن عقيل في الكوفة كما رأيت.
وقُتِل غير هؤلاء سائر من كان مع الحسين من الموالي والأنصار، فكانت محنة أي محنة للطالبيين عامة وأبناء فاطمة خاصة، ثم كانت محنة أي محنة للإسلام نفسه، خُولِف فيها عما هو معروف من الأمر بالرفق والنصح وحقن الدماء إلا بحقها وانتُهِك أحق الحرمات بالرعاية، وهي حرمة رسول الله ﷺ التي كانت تفرض على المسلمين أن يتحرجوا أشد التحرج، ويتأثموا أعظم التأثم، قبل أن يمسوا أحدًا من أهل بيته.
كل ذلك ولم يمضِ على وفاة النبي ﷺ إلا خمسون عامًا، فإذا أضفت إلى ذلك أن الناس تحدثوا فأكثروا الحديث، وألحوا فيه بأن الحسن قد مات مسمومًا لتخلص الطريق ليزيد إلى ولاية العهد، عرفت أن أمور المسلمين قد صارت أيام معاوية وابنه إلى شر ما كان يمكن أن تصير إليه.