الفصل السابع والخمسون
ولم يلبث هذا النكر أن أحدث آثاره الأولى، ولم تكن أقل منه نكرًا، فقد انتهت محنة الحسين إلى الحجاز فكانت صدمة لأهله وللصالحين منهم خاصة، وجعل الناس يتحدثون بها، فيكثرون الحديث وجعلوا يعظمون أمرها، ما أكثر ما تحدثت قلوبهم إليهم! وما أكثر ما تحدث بعضهم إلى بعض حين كانوا يخلون، بأن سلطان يزيد قد أمعن في الخلاف عن أمر الله، فلم تصبح طاعته لازمة، بل أصبح الخروج عليه واجبًا حين يمكن الخروج عليه!
وقد عظم في الحجاز أمر عبد الله بن الزبير، وكثر أصحابه وأشياعه، وجعل يزيد يجد في أن يفرغ منه كما فرغ من أمر الحسين، وانتهى الخبر إلى يزيد بأن أمر المدينة قد اضطرب، وبأن أهلها يظهرون النكير عليه ولا يستخفون به، فطلب إلى عامله أن يرسل إليه وفدًا منهم ففعل، وأقبل الوفد فلقيه يزيد أحسن لقاء، ووصل أعضاءه فأعطى كل واحد منهم خمسين ألفًا، وظن أنه قد أسَّى بإحدى يديه ما أفسد بالأخرى، ولكن الوفد يعودون إلى المدينة فيقولون لأهلها جهرة: جئناكم من عند فاسق؛ يشرب الخمر ويضيع الصلاة، ويتبع شهواته ويضرب بالطنابير، وتغني عنده القيان.
وتصل هذه الأحاديث إلى عبد الله بن الزبير بمكة فيلهج بيزيد أشد اللهج، ويضيف إليه من الشر والنكر والموبقات ما يشاء، ثم يثور أهل المدينة ويخرجون عامل يزيد، ويؤمرون عليهم رجلًا منهم هو عبد الله بن حنظلة الغسيل ويحصرون بني أمية، ويضطر يزيد آخر الأمر إلى أن يرسل إليهم النعمان بن بشير الأنصاري ليستصلح قومه، فلا يبلغ النعمان منهم شيئًا، فيرسل إليهم يزيد جيشًا قوامه اثنا عشر ألفًا من أهل الشام، ويؤمر على هذا الجيش مسلم بن عقبة المري، ويرسم له خطة أولها حق وآخرها باطل، وهي أن يأتي المدينة فيدعو أهلها إلى الطاعة ويعذر إليهم، وينتظر بهم ثلاثًا، فإن أطاعوا فذاك، وإن أبوا قاتلهم.
وإلى هنا لا يتجاوز يزيد ما ينبغي له من الحق في رد الخارجين عليه إلى طاعته، ولكن يزيد لا يكتفي بهذا وإنما يمضي إلى الباطل من خطته، فيأمر مسلمًا إذا انتصر على خصمه من أهل المدينة أن يبيحها ثلاثًا لأهل الشام، يصنعون بأهلها ما يشاءون وينهبون من أموالهم ومتاعهم ما يحبون، لا يحرج عليهم في شيء من ذلك ولا يحرم عليهم شيئًا منه.
وقد جاء مسلم إلى المدينة فقاتل أهلها بعد أن أعذر إليهم، وقُتِل منهم في الموقعة خلق كثير، ثم أباح المدينة ثلاثًا لجنده فقتلوا ونهبوا، واستباحوا من محارم الناس ما عصم الله، ثم أخذ من بقي من أهل المدينة بالبيعة، لا على كتاب الله وسنة رسوله كما تعوَّد المسلمون أن يبايعوا، ولكن على أنهم خول ليزيد، فمن أبى منهم هذه البيعة المنكرة أمر به فضُرِبت عنقه.
وكذلك عُصِي الله وخُولِف عن الدين جهرة في مدينة النبي، وظن يزيد وأعوانه أنهم قد انتقموا بذلك لعثمان، ثم تحول الجيش عن المدينة إلى مكة فحاصروا فيها ابن الزبير، ومات مسلم في الطريق، فقام بأمر الجيش بعده الحصين بن نمير السكوني، وقد شدد أهل الشام الحصار على مكة، ثم لم يقفوا عند ذلك وإنما رموها بالمجانيق، وحُرِّقت الكعبة، واتصل الحصار حتى جاءهم موت يزيد فقفلوا راجعين إلى الشام دون أن يلقى ابن الزبير منهم كيدًا.
وكان في حصار ابن الزبير بمكة والمضي في هذا الحصار حتى يستسلم ابن الزبير مقنع ليزيد وأصحابه، ولكن جيش يزيد أبى إلا أن ينتهك حرمة مكة كما انتهك حرمة المدينة، وأسخط يزيد على نفسه بذلك أهل الحجاز وعامة المسلمين، كما أسخطهم بقتل الحسين.
والغريب المنكر من هذا كله هو تجاوز الحد والغلو في الإثم، فقد كانت السياسة تقتضي أن يُقاتَل الخارجون على يزيد حتى يُقتَلوا أو يفيئوا إلى طاعته، فأما المثلة وانتهاك الحرمات ففظائع لا ينكرها الدين وحده، وإنما تنكرها السياسة أيضًا، وتنكرها السنة العربية المعروفة، وهي بعد ذلك تحفظ الصدور وتملأ القلوب ضغينة وحقدًا، وقد أحفظ يزيد أهل الجماعة أنفسهم بعد أن أحفظ قلوب غيرهم من الشيعة والخوارج.
ثم لم تكن عاقبة هذا كله على آل أبي سفيان إلا خروج الملك منهم وانتقاله إلى غيرهم، فقد مات يزيد ولما يملك إلا أربع سنين، قتلته لذته أشنع قتلة؛ فقد كان — فيما زعم الرواة — يسابق قردًا فسقط عن فرسه سقطة كان فيها الموت.