الفصل الثامن والخمسون
وقد انتهت هذه الفتنة، التي شبت نارها في المدينة سنة خمس وثلاثين بقتل عثمان، إلى هذه المرحلة من مراحلها بعد أن اتصلت ثلاثين عامًا أو نحو ذلك، وبعد أن أثارت من الخطوب الجسام ما رأيت، وبعد أن سُفِك فيها ما سُفِك من الدماء، وأُزهِق فيها ما أُزهِق من النفوس، وانتُهِك فيها ما انتُهِك من الحرمات، وقُضِي فيها على سنة الخلافة الراشدة، وفُرِّق فيها المسلمون شيعًا وأحزابًا، وأُسِّس فيها ملك عنيف لا يقوم على الدين وإنما يقوم على السياسة والمنفعة، وكان يظن حين استقام أمر هذا الملك لمؤسسه عشرين عامًا، أنه سيمضي في طريقه وادعًا مطمئنًّا مستقرًّا في بني أبي سفيان دهرًا على أقل تقدير، ولكنه لم يستقر فيهم إلا ريثما تحول عنهم.
ثم لم يتحول عنهم في يسر ولين؛ لأن الفتنة لم تنقضِ بموت يزيد، وإنما قطعت مرحلة من مراحلها، ثم استأنفت عنفها وشدتها بعد موت يزيد، فعرضت المسلمين ودولتهم لخطوب ليست أقل جسامة ولا نكرًا من الخطوب التي صورنا بعضها فيما قرأت من هذا الكتاب.
وقد أصبح للمسلمين مثل بعينه من هذه المثل العليا الكثيرة التي دعا إليها الإسلام، وجعلت الفتنة تدور حول هذا المثل الأعلى لتبلغه فلا تظفر بشيء مما تريد، وإنما تسفك الدماء وتزهق النفوس وتنتهك المحارم وتفسد على الناس أمور دينهم ودنياهم، وهذا المثل الأعلى هو العدل الذي يملأ الأرض وينشر فيها السلام والعافية، والذي تقطعت دونه أعناق المسلمين قرونًا متصلة دون أن يبلغوا منه شيئًا، حتى استيأس من قربه بعض الشيعة ولم يستيئسوا من وقوعه، فاعتقدوا أن إمامًا من أئمتهم سيأتي في يوم من الأيام فيملأ الأرض عدلًا كما مُلِئت جورًا.
ولله حكمة أجرى عليها أمور الناس، والله بالغ أمره، قد جعل لكل شيء قدرًا، ونحن مصورون إن شاء الله فيما يلي من فصول هذا الكتاب بعض ما كان من خطوب هذه الفتنة، وعسى أن يكون هذا قريبًا.