الفصل السادس
وقد جعل القوم يأتمرون، فاتفقوا على أن هذه الفتنة قد أحدثت في الإسلام حدثًا خطيرًا: قُتِل الخليفة مظلومًا، ولا بُدَّ من القيام في هذا الأمر بما يرأب الصدع ويُقيم دين الله كما ينبغي أن يُقام، وأول ذلك أن يُثأر لعثمان من الذين قتلوه مهما يكونوا، ثم يُرَد أمر المسلمين شورى بينهم فيختاروا لخلافتهم من يريدون عن رضى النفوس وهوى القلوب واطمئنان الضمائر والنصح للإسلام والمسلمين، لا عن عنف ولا استكراه ولا خوف من السيوف المسلطة على الأعناق، ثم جعلوا يأتمرون في الطريقة التي ينفِّذون بها ما صمَّموا عليه؛ فرأى بعضهم الغارة على علي وأصحابه في المدينة، ولكنهم رُدُّوا هذا الرأي إشفاقًا من قوة أهل المدينة — فيما يقول المؤرخون — وتحرُّجًا من غزو مدينة رسول الله وإحياء قصة الأحزاب، كما فعل الثائرون بعثمان في أكبر الظن، ورأى بعضهم الذهاب إلى الكوفة ونَصْب الحرب فيها لعلي وأصحابه، ولكنهم رَدُّوا هذا الرأي أيضًا لمكان أبي موسى من الكوفة وكراهيته للفتنة؛ لأن أشد الثائرين بعثمان والجادِّين في أمره كانوا من أهل الكوفة؛ فكان من الطبيعي أن يمنعهم قومهم ولا يقبلوا فيهم الدنيَّة. وآثروا الذهاب إلى البصرة لكثرة المُضَريَّة فيها، ولأن عبد الله بن عامر زعم لهم أن له بين أهلها صنائعَ وأن له عند كثير منهم مودة وإلفًا؛ فهم أجدر أن يسمعوا له ويطيعوا وأن يعينوه ويعينوا أصحابه على ما يريدون، ولم يخطر لهم أن يتخذوا مكة دار حرب؛ لأنها حرم آمن لا تُسفَك فيه الدماء. وقد كفاهم معاوية أمر الشام، وكان جديرًا أن يكفيهم أمر مصر أيضًا إن غلبوا هم على العراق وما وراءه من الثغور.
وقد جعلوا يستعدون للرحيل، وأمدَّهم عبد الله بن عامر ويَعلى بن أمية بكثير من المال والظَّهر والأداة، وانتدب الناس للسير معهم؛ فكانت جماعتهم قريبًا من ثلاثة آلاف، وقد رأى طلحة والزبير أثر عائشة وأحاديثها في الناس؛ فرغبا إليها في أن تصحبهم إلى البصرة، فقالت: أتأمرانني بالقتال؟ قالا: لا، ولكن تعظِين الناس وتحرِّضينهم على الطلب بدم عثمان. فقبلت في غير تردُّد، وأقنعت حفصة أم المؤمنين بالسير معها، ولكن أخاها عبد الله بن عمر ردَّها عن أن تخالف ما أمر الله به نساء النبي في قوله عز وجل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ إلى آخر الآية. فأقامت.
وأزمع القوم الرحلة، وجاءت أخبارُهم عليًّا فتحوَّل عن قتال أهل الشام ليرُدَّ هؤلاء الثائرين مما قصدوا إليه.