الماء، الماء في كل مكان
يقولون إن الماء يغطي ثُلُثَي سطح الأرض، والواقع أن الأمر يبدو كذلك عندما تكون في البحر، بل وهو ما تشعر به أيضًا. ماء البحر، وماء المطر؛ كله بَلَل في بلل! كنت معظم الوقت مبتلًّا بَلَلًا كاملًا. كنت أرتدي الملابس اللازمة، إذ كان الربَّان دائمًا يستوثق من ذلك، ولكن البلل كان يتسرب إلى جسمي بصورة ما.
وفي أسفل السفينة كان كل شيء مبتلًّا، حتى الأكياس المُبطَّنَة المعدَّة للنوم، ولم نكن نستطيع تجفيف أي شيء إلا عندما تسطع الشمس ويتوقف صدر البحر عن الصعود والهبوط! وعندها نأتي بكل شيء إلى ظهر السفينة، وإذا بسفينتنا بيجي سو وقد ارتدت الملابس كلها، وامتلأ حبل الغسيل من آخر السفينة إلى مقدمها. وكانت العودة إلى الجفاف بعد البلل متعة حقيقية، لكننا نعرف أنها لن تستمر طويلًا.
قد تظنُّ أنه لم يكن لدينا عمل كثير يشغلنا نحن الثلاثة في السفينة، يومًا بعد يوم، وأسبوعًا بعد أسبوع. ولكن ذلك خطأ مؤكد، فلم تكن تمر علينا لحظة هدوء طيلة النهار، وكان لديَّ دائمًا ما يشغلني: طيُّ الشراع، وإنزالُه بالرافعة، وإرخاءُ الحبال، وقيامي بنوبتي عند عجلة القيادة، وهو ما كنت مولعًا به، أو مساعدة والدي في أعمال الإصلاح والترقيع التي لا تنتهي، فكان كثيرًا ما يحتاج إلى مساعد له حتى يقبض على الخشبة مثلًا أثناء الحفر أو دق المسامير أو إدخال البراغي أو النشر، وكنت دائمًا أقوم بالمسح والتنظيف، أو بإعداد الشاي، أو غسيل الأطباق، أو أعمال التجفيف. ولن أكون صادقًا إن قلت إنني كنت أحب ذلك كله، ولكن العمل الدائب لم يدع للملل لحظة واحدة!
لم يكن مسموحًا بالبطالة إلا لعضو واحد من أعضاء طاقم السفينة — ستلا أرتوا — وكانت دائمًا دون عمل. ولمَّا لم تكن تجد ما يستحق النُّباح في صفحة البحر العريض، كانت تقضي الأيام العاصفة متكورة على نفسها في سريري في غرفتي أسفل السفينة. لكنه عندما يصفو الجو وتشرق الشمس كانت عادة ما تقوم بالمراقبة في مقدمة السفينة، منتبهة لأي شيء؛ أي شيء آخر سوى البحر. والمؤكد أنه إذا بدا أي شيء فلا بد لها أن تلمحه بسرعة: مجموعة من خنازير البحر مثلًا، تغطس في الأمواج وتخرج منها، أو أسرة من الدلافين التي تسبح بجوار بعضها البعض، وقد اقتربت من السفينة إلى الحد الذي يوحي بأنك تستطيع مَدَّ يَدكَ ولمسها! وحيتان، وأسماك القرش، بل والسلاحف البحرية؛ رأيناها جميعًا. وكانت والدتي تلتقط صورها بالفيديو والكاميرا العادية، وكنت ووالدتي نتشاجر حتى نستخدم المنظار المقرب. ولكن ستلا أرتوا كانت في جوها الطبيعي، وعاد لها طبع كلبة الرعي، فأخذت تصدر أوامرها بالنباح على كائنات البحر، حتى تجمعها في قطيع واحد من أعماق البحر.
وعلى الرغم مما كانت تسببه لنا من ضيق — إذ كانت تُشيِعُ رائحة بللها في كل مكان — فإننا لم نندم يومًا على اصطحابها معنا في هذه الرحلة، فقد كانت مصدر تسرية وسلوى لنا. فعندما كان البحر يضطرب بنا ويُخَضْخِضُنا، وتشعر والدتي بدوار البحر حتى يكاد يُغشى عليها، كانت تهبط إلى أسفل السفينة وتجلس ممتقعة اللون شاحبة، وعلى حجرها ستلا تلاطفها وتتلقى ملاطفتها. وعندما كنت أشعر بالرعب من الأمواج العالية كالجبال وصرخات الريح الداوية، كنت أتكور مع ستلا في مرقدي بالسفينة، وأدفن رأسي في عنقها وأحتضنها بشدة. وفي مثل تلك الأوقات — ولا أظن أنها كانت كثيرة، لكنني أذكرها بدقة شديدة وحسب — كنت دائمًا أضع كرة إدي بالقرب مني أيضًا.
أصبحت كرة القدم بمثابة تعويذة أو تميمة تجلب الحظ، وبدا لي أنها تجلبه فعلًا، فالواقع أن كل عاصفة كانت تهدأ في النهاية، وكنا لا نزال بعدها أحياء، سالمين، ونطفو فوق صفحة الماء.
كنت أتمنى أن ينسى والدي ووالدتي مسألة الواجبات الدراسية، وكان يبدو في البداية أنهما نَسِيَا الموضوع كله، لكننا ما إن تغلبنا على عدة عواصف، وما إن استقر بنا الحال وانطلقنا في طريق رحلتنا، حتى أجلساني وأخبراني الخبر المزعج، وهو أنني شئت أم أبيت، لا بد أن أواصل دراستي، ولم تكن والدتي تقبل المناقشة في هذا الأمر.
كنت أدرك أن استنجادي بوالدي لن يأتي بنتيجة. فلم يفعل سوى أن هَزَّ كتفيه قائلًا: «ماما هي الربَّان»، وبهذا انتهى الموضوع. عندما كنا في المنزل كانت أمي هي أمي وحسب وكنت أستطيع أن أجادلها، وكان ذلك على الأقل من المزايا التي حُرِمْتُ منها على ظهر السفينة بيجي سو حيث لا مناقشة ولا جدال.
كانت تلك مؤامرة، إذ اشترك أبي وأمي في وضع برنامج كامل للعمل. كان عليَّ أن أستذكر كتب الرياضيات، وقال أبي إنه سوف يساعدني إذا صادفتني عقبة. وأما منهج الجغرافيا والتاريخ، فكان يقضي بأن أكتشف وأسجل كل ما يخص كل بلد نزوره أثناء طوافنا بالعالم، وكان منهج دراسات البيئة ومنهج الرسم يفرضان عليَّ أن أسجل وأرسم صورًا لجميع الطيور التي نراها، وجميع المخلوقات والنباتات التي نصادفها.
وحَرَصَتْ والدتي أيضًا على تعليمي الملاحة البحرية أيضًا، قائلة: «لقد علمني بارناكل بيل، وسوف أتولى تعليمك. أعرف أنها ليست من المقررات الدراسية ولكن لِمَ لا؟ ومن يدري؟ ربما عادت عليك بالفائدة.» وهكذا علمتني كيف أستخدم السُّدْسِيَّة، وهي آلة المساحة الملاحية، وكيف أسجل قراءات البوصلة، وأحدد مسار السفينة على الخريطة. وكان من واجبي تسجيل خطوط الطول والعرض في سِجِلِّ السفينة كل صباح، وكل مساء، وبانتظام دائم.
لا أظن أنني كنت انتبهت حقَّا لوجود النجوم من قبل. وأما الآن فكنت كلما أتولى نوبة المراقبة في غرفة القيادة ليلًا، بعد تشغيل جهاز التوجيه الذاتي للسفينة بيجي سو بدوارة الريح، والآخرون نائمون في أسفل السفينة، لم يكن لي رفيق سوى النجوم. وكنت أثناء تحديقي فيها أشعر أحيانًا أننا آخر الأحياء في كوكب الأرض كله، لم يكن هناك سوانا، والبحر المظلم من حولنا وملايين النجوم من فوقنا.
وكانت نوبة المراقبة الليلية هي الوقت الذي كثيرًا ما استذكرتُ فيه دروس اللغة، وكانت تتخذ صورة وضع ملاحظاتي الخاصة في سجِلِّ السفينة. لم يكن مفروضًا عليَّ أن أعرضها على والديَّ، لكنهما كانا يشجعانني على الكتابة في السجل مرة كل عدة أسابيع، وقالا إنها سوف تمثل سِجِلِّي الخاص والشخصي لرحلتنا.
لم أكن أجيد الكتابة إجادة كبيرة في المدرسة، فلم أكن أستطيع قط أن أجد الأفكار اللازمة للكتابة أو أن أعرف كيف أبدأ، وأما على متن بيجي سو فقد اكتشفت أنني أستطيع أن أفتح السجل وأكتب بيسر، كانت لديَّ دائمًا أفكار كثيرة أريد التعبير عنها. وهذا لُبُّ الموضوع. إذ اكتشفتُ أنني لم أكن أكتبها على الإطلاق بل أقولها وحَسْب. كنت أنطق بها كما تخطر ببالي، وتنطلق في ذراعي حتى تصل إلى أصابعي وقلمي فتتخذ شكلها على الصفحة، وهذه هي الصورة التي تبدو لي فيها الآن بعد مرور كل هذه السنوات، أيْ صورة الكلام الذي تفوهت به.
إنني أنظر الآن إلى السجل الخاص بي. لقد تجعدت أوراقه قليلًا واصْفَرَّ لون الصفحات بمُضِي الزمن، وخطي الرديء شحب لونه قليلًا لكنني أستطيع قراءته بسهولة في معظم الأحيان، والملاحظات المسجلة قصيرة، ولكنها تقصُّ القصة كاملة، وفيما يلي أروي كيف سجلتُ أحداث رحلتنا العظيمة، وكيف بدت لعين غلام في الحادية عشرة، ونحن نركب متن المحيطات الشاسعة في هذا العالم على ظهر السفينة بيجي سو.