أبوناي!
انتصبْتُ واقفًا على الفور، وأنا أصيح بأعلى صوت وأُلَوِّحُ بيدي في جنون. وتواثبتُ في مكاني، وأنا أصرخ مناشدًا من فيها أن يتوقفوا، أن يسمعوني، أن يروني. «أنا هنا! هنا! أنا هنا!» ولم أتوقف إلا عندما بدأ حلقي يؤلمني وعجزتُ عن الصياحِ. واستمرت الناقلة تسير ببطء وإغراء يغيظ بحذاء الأفق. لم تستدر، وأدركت عندها أنها لن تستدير. كنت أعرف أيضًا أنه لن يكون فيها من ينظر تجاهنا، وحتى لو نظر أحدهم فإن هذه الجزيرة كلها لن تبدو أكثر من أَكَمَة بعيدة غائمة على الأفق. كيف يمكنهم إذن أن يروني؟ لم يكن في وُسْعِي سوى أن أستمرَّ في النظر، عاجزًا ومذهولًا، والناقلة تمضي لا تلوي على شيء في طريقها، ويزداد ابتعادها عني حتى بدأت تختفي فوق الأفق. واستغرق ذلك الصباح كله، فكان صباحًا من اللوعة الرهيبة.
وبينما كنت واقفًا على قمةِ تلِّ المراقبة أتطلع إلى البحر، أحسست بأن يأسي قد حل مَحَلَّه غضب ملتهب. لو أنه سُمح لي بأن أُبقي على النار، لظلَّت الفرصة قائمة على الأقلِّ في أن يلمحوا الدُّخان. صحيح أن العجوز قد أحضر لي فراشًا من حصير، وملاءة أتغطى بها، وصحيح أنه يرعاني ويُبْقيني على قيد الحياة، ولكنه أيضًا حكم عليَّ بالحبس.
وعندما غاب آخر أثر للناقلة عن بصري، قَطَعْتُ على نفسي عهدًا بألَّا أدع مثل هذه الفرصة تفلت من يدي مرة أخرى. وتحسست جيبي فوجدت أنني ما زلت أحتفظ بقطعة الزجاج التي أُشعل بها النار. وصممت أن أُشعل النار، لسوف أستوقد نارًا أخرى، ولكن ليس على الشاطئ حيث يستطيع العثور عليها بل هنا فوق تلِّ المراقبة، خلف الصخور، وبعيدًا تمامًا عن عينه، حتى إن كانت لديه نظارات مُقَرِّبة، وكان عليَّ أن أفترض الآن أن لديه هذه النظارات. لسوف أجمع قدرًا من الأخشاب يكفي لإقامة منار عظيم، لكنني لن أوقد فيه النار، بل سأُتمُّ تجهيزه وأنتظر اللحظة التي ألمح فيها إحدى السفن. كنت أقول في نفسي ما دامت هذه السفينة قد أتت فسوف تأتي سفينة أخرى، بل لا بد أن تأتي، وعندما تأتي، سأكون مستعدًّا بزجاجة إشعال النار، وبمخزون من أوراق الأشجار النحيلة مثل ورق الكتابة، والجافة جفافًا مطلقًا. ولسوف أشعل نارًا عظيمة تتصاعد منها ألسنة لهيب جبارة، وترتفع منها إشارة شاهقة من الدخان، بحيث يتحتمُّ على السفينة التالية التي يتصادف مرورها أن تلاحظها.
وهكذا لم أعد أقضي أيامي جالسًا وحسب فوق تلِّ المراقبة أنتظر، بل كنت أقضي كلَّ ساعة هناك في بناء المنار. كنت أَجُرُّ فروعًا ضخمة فوق الركام الصخريِّ من الغابة أسفله وأضعها في كومة عالية، ولكن في جانب التل المواجه للبحر، وهو المكان المثالي الذي يتيح للسفن مشاهدته عند إشعال النار فيه، وفي الوقت نفسه لا يتيح لعين العجوز الفاحصة أن تلمحه، وكنت أعتبره الآن السجَّان الذي يحبسني. ولا شكَّ أنه سوف يراقبني، وكنت واثقًا من ذلك كلَّ الثقة. ولذلك حَرَصْتُ على ألَّا يلمحني إطلاقًا أثناء قيامي بإحضار الحطب وحمله، كان من المحال على أحد أن يعرف ما أفعلُ إلَّا إذا نظر من ناحية البحر، ولم تكن في البحر أية عيون ترقبني.
وقضيْتُ عدة أيام في العملِ الشاقِّ ببناء مناري السريِّ. وكنت قد قاربت الانتهاء منه عندما اكتشف أحدهم فعلًا ما أنا بصدده، لكنه لم يكن العجوز.
كنت أحمل فرعًا هائلًا وأضعه فوق الكومة حين أحسست فجأة بظلّ يغشاني. كانت سعلاة تقف فوق الصخرة العلوية وتنظر إليَّ من عَل، لكنني لم أكن واثقًا أنها كانت نفس القرد الذي شاهدته من قبل. كان واقفًا على أطرافه الأربعة، وقد تحدَّبت كتفاه العظيمتان، وخفض رأسه، وجعل ينظر إليَّ نظرة جانبية. لم أجرؤ على الحركة. كانت مواجهة صامتة، كتلك التي حدثت من قبل على الشاطئ.
واعتدل في جلسته وظل ينظر إليَّ باهتمام فاتر برهة من الوقت، ثم حَوَّلَ بصره عني، وحكَّ وجهه في غير مبالاة، ثم انحدر هابطًا التلَّ، وإن توقَّف مرَّة واحدة ليلقي عليَّ نظرة من فوق كتفه قبل أن يواصل سيره في ظلِّ الأشجار ويبتعد، وخطر لي وأنا أرقبه أنه ربما كان مُرْسَلًا للتجسس عليَّ، وربما عاد ليخبر الرجل العجوز بما شاهدني أفعله. أعرف أنها كانت فكرة سخيفة مضحكة، لكنني أذكر أنها خطرت ببالي.
وهبت عاصفة على الجزيرة تلك الليلةَ، عاصفة رهيبة عاتية، وكان هزيم الرعد الرهيب المصاحب للبرق عاليًا، إلى جانب صخب الأمطار وزفيف الرياح، حتى استحال عليَّ تمامًا أن أنام. كانت الأمواج العالية تهدر في البحر، وتلطم الشاطئ وتهزُّ الأرضَ من تحتي. وفَرَشْتُ حصير نومي في آخر مكان بالكهف، وكانت ستلا ترقد بجانبي، بل في أحضاني، وكم أحببت ذلك!
ولم تسكن العاصفة إلا بعد أربعة أيام كاملة، ولكن — حتى في ذروة طُغْيانها — كنت لا أزال أجد سلة السمك والفواكه في انتظاري كل صباح تحت صفيحتي، وهي التي كان العجوز يحشرها الآن حشرًا تحت الرفِّ الصخريِّ. والتزمت أنا وستلا بمأوانا ومخبئنا في الكهف، ولم نكن نرى سوى سياط المطر المنهمر خارجه. وكنت أتطلع في رهبة إلى قوة الأمواج الجَبارة المنحدرة من المحيط العريض، فكانت تتكور وتهوي وتتفجر وهي تتكسر على الشاطئ، كأنما كانت تحاول تقطيع الجزيرة بالضرب المتوالي ثم ابتلاعنا جميعًا في جوف اليم، وكثيرًا ما كنت أفكر في أمي وأبي والسفينة بيجي سو، وأتساءل في نفسي: تُرى أين الجميع الآن؟ وكل ما كنت أرجوه هو أن يكونوا قد نَجَوْا من هذا الإعصار المداريِّ الذي شَهِدْتُه، ويُسمى إعصار «التايفون».
ثم حدث ذات صباح أن توقفَت العاصفةُ فجأة مثلما هبت فجأة. وسَطَعَت الشمس في السماء الزرقاء، واستأنفت الغابة سيمفونية أصواتها بعد انقطاعها، فخرجتُ من الكهف، وانطلقتُ فتسلقتُ تلَّ المراقبة فورًا؛ لأنظر إن كانت هناك سفينة، ربما تكون قد خرجت عن مسارها، وربما كانت قد أوت إلى الجزيرة كي تحتمي بها من العاصفة. لكنني لم أشاهد شيئًا. وخاب أملي، لكنني — على الأقل — رأيت مناري لا يزال منتصبًا. كان البَلَلُ يغمره بطبيعة الحال، لكنه كان سليمًا. كان البلل يغشى كل شيء. وكان من المحال إشعالُ النارِ الآن، حتى يجفَّ كلُّ شيء.
كان الجو حارًّا وخانقًا طول النهار. ولم يكن من اليسير أن أتحرك على الإطلاق، بل كان التنفس عسيرًا. لم يكن في وسع ستلا إلا أن ترقد وتلهث. وكان مكان الابتراد الوحيد هو البحر، فقضيتُ معظم ذلك النهار في الاسترخاء في الماء، متكاسلًا، وإن كنت أحيانًا أرمي بعصي حتى تحضرها ستلا وتشعر بالسعادة.
كنت شبه راقد في الماء، لا أفعل سوى أن أطفو مع أحلام اليقظة، حين سمعت صوت الرجل العجوز. كان يجري على الشاطئ مهرولًا نحوي، وهو يصيح بنا ويُلَوِّحُ بعصاه بشدة في الهواء. وقال الرجل:
«ياميرو! أبوناي! خطر. تفهم؟ لا سباحة.» لم يكن يبدو أنه غاضب مني، مثلما كان من قبل، وإن بدا من الواضح أن شيئًا ما أزعجه.
ونظرْتُ حولي. كان صدرُ البحر لا يزال يصعد ويهبط، وإن كان ذلك بِلُطْف ورِقَّة، كأنما كان يزفر آخر زفرات العاصفة، وكانت الأمَواج تتهادى بفتور وتسكن منهكة على الشاطئ. لم أكن أستطيع أن أرى أي خطر خاص.
وأجبته: «ولمَ لا؟ ماذا هناك؟»
وكان قد ألقى عصاه على الشاطئ وجعل يخوض في الماء تجاهي من خلال الأمواج.
«لا سباحة. داميدا! أبوناي! لا سباحة.» وإذا به يمسكني من ذراعي ويقودني قسرًا إلى خارج ماء البحر. كانت قبضته مثل الكماشة. لم تكن هناك فائدة في المقاومة. ولم يطلق سراحي إلا عندما عُدْنا إلى الشاطئ. ووقف يلهث عدة لحظات. «خطر. بالغ السوء. أبوناي!» وكان يشير إلى البحر وهو يتكلم. «لا سباحة. بالغ السوء. لا سباحة. هل تفهم؟» وكان يحدق في عينيَّ تحديقًا صارمًا، حتى لا يَدَعَ لديَّ شكًّا في أن ما يقولُه ليس مجرد نصيحة بل هو أمر لا بدَّ لي من طاعته. ثم استدار وابتعد داخلًا الغابة، بعد أن التقط عصاه مرة ثانية. وجَرَت ستلا خلفه، لكنني دعوتها للعودة.
وشعرتُ في تلك اللحظة أنني أريد أن أتحداه وأَعْصِيَهُ صراحة. لسوف أنزل البحر من جديد ولسوف ألهو وألعب بأقصى ما أستطيعه من صخب واستفزاز. لسوف أُلَقِّنُه درسًا. كان بي غضب شديد من هذا الظلم الفادح. فلقد منعني أولًا من إشعال النار، ثم نفاني بعدها وحدد إقامتي في أحد طرَفَي الجزيرة، وهو الآن لا يسمح لي حتى بالسباحة. كنت أريد أن أشتمه بكل الشتائم التي أعرفها، لكنني لم أفعل. ولم أعد إلى السباحة في البحر أيضًا. واستسلمت. سَلَّمْتُ له بما أراد، لأنني مرغم. فأنا في حاجة إلى طعامه وشرابه. وكان عليَّ أن أنفِّذ ما يقوله حتى يجفَّ تمامًا مناري الخشبيُّ، وحتى تأتي السفينة التالية. ومع ذلك، فقد صنعتُ من الرمل تمثالًا بالحجم الطبيعي له على الأرض خارج كهفي، وجعلت أتواثب فوقه غضبًا وإحباطًا، فأحسست ببعض الراحة، وإن لم تكن راحة كبيرة.
وباستثناء ما كان ينتابني عَرَضًا من آلام الحنين للوطن والإحساس بالوحشة، وهي الآلام التي كانت تعصر حشايَ عصرًا، كنت قد نجحت بصفة عامة في الحفاظ على روحي المعنوية العالية. ولكن صبري نفد. إذ ظل مناري مبتلًّا لا يريد أن يجفَّ. وكنت كلَّ يوم أصعد تلَّ المراقبة آملًا أن ألمح سفينة، والبحر يمتدُّ أمامي كلَّ يوم وفي جميع الاتجاهات خاليًا خاويًا. وازداد باطراد إحساسي بالعزلة وبالشقاء. وقررت آخر الأمر ألا أصعد تلَّ المراقبة أبدًا، فلا غَنَاء في ذلك. وبدلًا من ذلك كنت أمكث في كهفي، وأتكور فوق حصير فراشي ساعات طويلة أثناء النهار. كنت أرقد هنا غارقًا في أحزاني، وقد سيطر على فكري خاطر أوحد هو اليأس الذي أواجهه، وكيف أنني لن أنجح يومًا ما في الخروج من هذه الجزيرة، وأنني سوف أموت هنا، وأن أمي وأبي لن يعرفَا أبدًا حتى ما حدث لي. لن يعرف أحد ذلك إلا العجوز، المجنون، سَجَّاني الذي يضطهدني.
وظل الجو ثقيل الوطأة مشبَّعًا بالرطوبة. كم كنت أودُّ أن أغطس في المحيط، لكنني لم أجرؤ. فالمؤكد أنه لن يغفل عن مراقبتي. وكل يوم يمر كان يزيد من كراهيتي لذلك الرجل، على الرغم من مواصلته إحضار السمك والفواكه والماء إليَّ. ربما كنت أحسُّ بالضيق والاكتئاب، لكنني كنت أشعر أيضًا بالغضب. وبدأ هذا الغضب تدريجيًّا يولِّد في نفسي تصميمًا جديدًا على الهرب، ورفع هذا التصميم روحي المعنوية. فاستأنفت صعود تلِّ المراقبة كلَّ يوم، وبدأت أجمع مخزونًا جديدًا من أوراق الشجر والأغصان الجافة من حافة الغابة، خَبَّأْتُها جميعًا في شَق عميق من شقوق الصخر حتى أضمن دائمًا أنها جافَّة، عندما تحين اللحظة المناسبة. وكان مناري قد جفَّ آخر الأمر، فأَضَفْتُ إليه الكثير حتى ارتفع وزاد ارتفاعه. وعندما فعلت كلَّ ما في طوقي جلست في انتظار اللحظة المنشودة، وكنت واثقًا أنها سوف تأتي، يومًا بعد يوم، وأسبوعًا بعد أسبوع، كنت أجلس فوق تلِّ المراقبة وقد وضَعْتُ زجاجة إشعال النار، بعد صقلها، في جيبي، ومناري جاهز ينتظر.
وقد تصادف أنه حينما حانت اللحظة المنتظرة لم أكن فوق تلِّ المراقبة! إذ حدث أنني خرجت ذات صباح من كهفي، والنعاس لا يزال برأسي فشاهدتها. سفينة! كانت سفينة ذات أشرعة غريبة لونها بني ضارب إلى الحمرة، وقلت في نفسي إنها سفينة من نوع «اليَنْك» الصيني ذي القاع المسطح، ولم تكن على مسافة بعيدة داخل البحر. وغلبني الانفعال فانطلقت في عجل واضطراب أجري على الشاطئ، صائحًا صارخًا هاتفًا بكل ما أوتيت من قوة. ولكنني أدركت فورًا أن الأمر ميئوس منه، فرغم أن السفينة لم تكن بعيدة بُعْدًا كبيرًا في البحر، فإنها كانت أبعد من أن يراني من فيها أو يَسْمَعَني أحدهم. وحاولت تهدئة نفسي، وحاولت التفكير … النارُ! أُشْعِلُ النارَ!
وغدوتُ أجري طول الطريق صاعدًا التل دون أن أتوقف مرة واحدة، وستلا في أعقابي كظلِّي وهي تنبح. وكانت الغابة من حولي تضجُّ بأصوات النقيق والوقوقة والصراخ الحاد احتجاجًا على ذلك الإزعاج المفاجئ. وجهزت مخزوني من أوراق الشجر الجافة وأمسكت بزجاجة إشعال النار ثم قبعت بجوار المنار لإشعال ناري. لكنني كنت أرتجف من فرط الانفعال والإرهاق فلم أستطع الحفاظ على ثبات يدي إلى الحد اللازم. وهكذا بنيتُ هيكلًا من الغصون ووضعتُ الزجاجة فوقه، مثلما سبق لي أن فعلت. وعندها جلسْتُ إلى جواره، راجيًا أن تضطرم النار في ورق الشجر.
وكلما نظرْتُ إلى البحر وجدت تلك السفينة، أو اليَنْك. كانت تبتعد ببطء عنَّا، ولكنها كانت لا تزال هناك.
كنت أشعر كأنما مرَّ عليَّ دهر في جلستي قبل أن ألمح خيطًا رفيعًا من الدخان، وبعد ذلك بقليل وهجًا رائعًا لألسنة النار الجميلة الرائعة، وهي تنتشر في طرف ورقة من أوراق الأشجار. وانحنيت فوقها حتى أنفخ فيها كي تضطرم.
وفي تلك اللحظة أبصرت قدميه، فرفعت بصري. كان العجوز واقفًا قبالتي، وقد امتلأت عيناه غضبًا واستياءً. لم يتفوَّه بحرف واحد، بل انطلق يخمد ناري الوليدة. واختطف من يدي زجاجة إشعال النار ورمى بها بعيدًا على الصخرة أسفل التلِّ فَتَفَتَّتَتْ وتناثَرَتْ شظاياها. لم أكن أملك إلا أن أنظر ما يحدث وأبكي، وهو يحطم مناري ويُلْقي بالغصون والفروع واحدًا بعد الآخر إلى أسفل التلِّ. وفي أثناء ذلك تجمع حشد من قرود السعالي لمشاهدة ما يحدث.
وسرعان ما اختفى مناري عن آخره ولم يبق منه شيء. لم يعد حولي فوق الركام الصخريِّ سوى أطلال المنار المتناثرة، وانتظرت منه أن يصرخ في وجهي، لكنه لم يفعل، بل تكلم بهدوء شديد وهو يضغط عامدًا على الحروف، قائلًا: «داميدا.»
وصِحت قائلًا: «ولكن لماذا؟ فأنا أريد العودة للوطن. وهناك سفينة في البحر، ألا تستطيع أن تراها؟ كل ما أريده هو العودة إلى الوطن وحَسْب. لماذا لا تدعني أرجع؟ لماذا؟» ووقف وهو يحدق فيَّ. وخُيِّل إليَّ في لحظة أنني لمحت بريق الفهم في عينيه. وعندها انحنى انحناءة حادة من وسطه، وقال: «جوميناساي. جوميناساي. آسف. آسف جدًّا.» وبعدها تركني في مكاني وانطلق عائدًا إلى الغابة، ومن خلفه السعالي.
وظللت جالسًا أرقب سفينة اليَنْك وهي تبتعد حتى لم تعد سوى نقطة على حافة الأفق، بل لم أعد أحتمل النظر إليها. وعندما حانت هذه اللحظة كان رأيي قد استقرَّ على أفضل صورة لعصيانه. كان الغضب قد بلغ مني مبلغًا لم أعد معه أكترث بالعواقب. لم أعد آبه. فقمت وستلا بجانبي وانطلقت أمشي على الشاطئ حتى وصلت إلى الحد الفاصل الذي رسمه على الرمل بيننا فوقفت، ثم تجاوزْتُه بصورة عامدة، كما تعمدْتُ وأنا أتجاوزه أن أجعله يعرف تمامًا ما كنت أفعله.
وهتفتُ بصوت عال: «هل تراني أيها العجوز؟ انظر! لقد تجاوزت الحدود فدخلت منطقتك. لقد عَبَرْتُ الحدَّ الفاصل السخيف. والآن سوف أستحمُّ. لا يهمني ما تقول. لا يهمني أن تمتنع عن إطعامي. هل تسمعني أيها العجوز؟» وعندها استدرْتُ وانطلقْتُ على الشاطئ فنزلْتُ البحر. وجَعَلْتُ أسبحُ بقوة ونشاط حتى أصابني الإنهاك الشديد وابتعدْتُ كثيرًا عن الشاطئ. وظللتُ أضرب الماء بأقدامي طافيًا وأَضْرِبُ بيدي سطح الماء في غضبي حتى بدأ يُرغي ويُزبد من حولي. وصحت أقول: «البحر ينتمي لي مثلما ينتمي لك. وسوف أسبح فيه وقتما أشاء.»
وشاهدته عند ذلك. ظهر فجأة على حافة الغابة. كان يصيح ببعض الألفاظ الموجهة لي، ويُلَوِّحُ بعصاه في الهواء. وكانت هذه هي اللحظة التي أحسست فيها بالألم، كان ألمًا لاذعًا كاويًا في قفاي، ثم في ظهري وذراعيَّ أيضًا. وشاهدت أحد قناديل البحر يطفو بجواري: كان أبيضَ شفافًا، وله أذرع تتحسَّسني. حاولت السباحة من جديد لكن قنديل البحر جاء خلفي لاصطيادي. كان الألم مباشرًا فوريًّا مُبَرِّحًا. وتغلغل الألم في سائر جسمي مثل صدمة كهربائية واحدة متصلة. وأحسست أن عضلاتي قد تصلبت. وجعلت أرفس الماء محاولًا العودة إلى الشاطئ لكنني لم أستطع، وأحسست أن رجليَّ مشلولتان، وذراعيَّ أيضًا. كنت أغرق. ولم يكن في طوقي أن أمنع نفسي من الغرق. وشاهدت قنديل البحر يقف مستعدًا لتوجيه ضربته القاضية أمامي الآن. وصَرَخْتُ، فامتلأ فمي بالماء. كنت أختنق. كنت على شفا الموت. كنت على وشك الغرق لكنني لم أكْتَرثْ. كل ما أردتُه هو أن يتوقفَ الألم. وكنت أعرف أن الموت سوف يقضي على الألم.